منذ بداية الانتشار السريع لوباء كورونا في العالم، وبناء على توصيات مستعجلة من علماء الأوبئة والأطباء، اتخذت المؤسسات الإسلامية الرسمية في مختلف أنحاء العالم، قرارات صادمة وصلت حد إغلاق الحرمين الشريفين، وتعليق إقامة الصلوات فيها، بعد إيقاف العمرة..
وبينما لا يزال من غير المعروف ما إن كان حج هذا العام سيتم أم لا، وإن كانت المؤشرات في غالبها تذهب باتجاه تعليقه لهذا العام حفاظا على النفس البشرية، فإن حراكا فقهيا آخذا في التنامي في المؤسسات الدينية في مختلف أنحاء العالم، ليس فقط للجواب على التحديات الجديدة المتصلة بفقه الأوبئة وكيفية التعامل معها، وإنما أيضا، وهذا هو المهم، حول العلاقة بين العلم والدين، وعن الإجابات التي يقدمها كل منهما لحاجات الإنسان المتجددة.
وعلى مدى ما يقرب من قرن ونصف من عصر التنوير وإعلان الفيلسوف فريدريك نيتشه جملته الشهيرة "موت الإله"، والعلماء يراكمون من خبراتهم الموغلة في التقدم، حتى جاء الانتشار المتسارع لفيروس كورونا، الذي صنفته منظمة الصحة العالمية بأنه جائحة، وشلّ أغلب مؤسسات العالم، ليعيد التساؤل مجددا عما إذا كان العلم بمقدوره وحده ومن دون أي حاجة للدين في تقديم الإجابة المقنعة على تساوؤلات الإنسان المعرفية..
"عربي21"، تفتح ملف التعامل مع الأوبئة من زاويته الفكرية والفقهية، فبعد مساهمتين من وزير الشؤون الدينية التونسي السابق نورالدين الخادمي، ووزير الدولة المغربي المكلف بحقوق الإنسان، مصطفى الرميد، يستطلع الكاتب والإعلامي الجزائري حسان زهار في هذا التقرير الخاص بـ "عربي21"، والذي ننشره على حلقتين ملف: "كورونا .. وأزمة العقل الفقهي المعاصر بالجزائر".
تاريخ الأوبئة وفقه المقاصد
يؤكد الإمام سلطان بركاني في حديثه لـ "عربي21"، أن وباء كورونا لم يكن أوّل وباء تبتلى به الأمّة ويواجهه الفقه الإسلاميّ، فقد ألمّت بالأمّة أوبئة كثيرة في محطّات مختلفة من تاريخها، بدءًا من طاعون عمواس الذي كان في السّنة الـ18هـ في عهد خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، وحصل بعض الخلاف في كيفية التعامل معه بين المسلمين، حيث كان على قيادة النّاس بأرض الشام أبو عبيدة بن الجراح، فمات بالطاعون، ثم معاذ بن جبل فمات به أيضًا؛ فلمّا استُخلف على الناس عمرو بن العاص، أمرهم بالتفرّق وقال قولته المشهورة: "أيّها النّاس، إنّ الطّاعون كالنّار المشتعلة، وأنتم وقودها، فتفرّقوا وتجبّلوا (فرّوا إلى الجبال) حتى لا تجد النّار ما يشعلها فتنطفئ وحدها"، وقد عورض قوله هذا الذي يقتضي ضِمنا ترك الجمعة والجماعات من دون إجبار، من طرف بعض من حضر، لكنّه نال رضا أكثر النّاس وأعجب به الخليفة عمر بن الخطّاب، وكان سببا في نجاتهم.
بعد هذه الجائحة بما يقرب من أربعة قرون، شهدت أرض تونس سنة 395هـ وباءً عظيما، خلت بسببه المساجد بأرض القيروان.. بعدها شهد النّاس بأرض الأندلس سنة 448هـ قحطا قاتلا أودى بالآلاف من الأرواح واضطرّ المسلمين إلى تعطيل المساجد..
وفي أرض العراق، شهد النّاس في العام 449هـ وباءً قاتلا، انتقل من آسيا الوسطى، كان حصاده ثقيلا في الأرواح، وخلت بسببه أكثر المساجد..
وفي أوائل سنة 827هـ، ألمّ بمكّة وما حولها وباء قاتل، لم يحسن النّاس التعامل معه، فكان حصاده كارثة في الأرواح، وأدّى إلى التعطيل القهريّ للجمعة والجماعة.. وقبله، سجّل التّاريخ أنّ بعض المسلمين خلال الطّاعون الكبير سنة 749هـ، حينما غيّبوا فقه المقاصد واكتفوا بإعمال الفقه الظّاهريّ والعاطفة الإسلاميّة، أصابهم ضرر ماحق، وكانت الفاتورة باهظة، حيث اجتمعوا للصّلاة والدّعاء، فزاد انتشار الطّاعون وكانت المأساة، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني ـ رحمه الله ـ في إنكار فعل النّاس يومها: "فليس الدعاء برفعِ الوباء ممنوعا ولا مصادما للمقدور من حيث هو أصلا، وإنّما الاجتماع له كما في الاستسقاءِ فبدعة حدثت في الطاعون الكبير سنة 749هـ بدمشق، فقد قرأت في جزء المنبجي بعد إنكاره على جمع الناس في موضع، قال: ... خرج الناس إلى الصحراء ومعظمُ أكابر البلد، فدعوا واستغاثوا، فعظم الطاعونُ بعد ذلك وكَثُرَ وكان قبلَ دعائِهم أخفّ".
عندما يستعيد الفقه حيويته، فيكون جنبا إلى جنب مع الطب الحديث، صانعا للحياة، بدل التقوقع على فقه الجنائز، وكيفية دفن الموبوء فقط، عندها تتحقق المقاصد الشرعية للدين، في إنقاذ دين الانسان، من أجل الإنسان نفسه.
والفرصة مواتية للتأكيد على حيوية الفقه الإسلامي، وهو ليس ملاذ حلّ الصعوبات التي لم يكن سببا فيها، فحسب، بل هو مجال معرفي اجتماعي وتربوي وثقافي وحضاري حيوي للقيام بالوظيفة الحضارية التنموية الشاملة إذا ما أريد له المساهمة في تحقيق النهضة الشاملة لما لأساسه الأخلاقي من دور في إيجاد الفعالية التنموية الشاملة. فالفقه الإسلامي كائن حي ينمو بالإعمال ويضمر بالإهمال، فإذا استدعيناه إلى أسئلة الدنيا وقضاياها التفصيلية نما، وإذا أهملناه ضمر، وانتهى به الأمر إلى الركود، وما يترتّب عليها من تكوين رأي عام لا يثق به وبأهله. تفرض استعادة الثقة به الإعمال الموسّع ليسترجع الفقه حيويته ونموّه وتَجَدُّدَه.
ويخلص الدكتور جيدل في هذا الاطار، إلى أنه يستبعد فرعا علميا أو تخصصا كما سميّته في سؤالك: "فقه كورونا"، لأنّ كورنا قضية معدية هي نازلة جديدة من جهة، ولكنّها من حيث كونها نازلة متعلّقة بالأوبئة مستجدة إذ لها أشباه ونظائر، يّسرت للفقهاء بناء نظر فقهي بناء على أدلتها.
ويضيف: بناء على الآراء السابقة من الأوبئة وما ترتّب عنها من مواقف، وبالرغم من اتّفاق الفقهاء قديما وحديثا على أنّ الضرورات مصونة من الناحية النظرية الصرف والمزاولة، وأنّ أساسها الإنسان المصان بجلب المصالح ودرء المفاسد، فلو تعارض الدين مزاولة والإنسان وجودا قُدّمَ وجود الإنسان على الدين مزاولة، وهو الأصل الذي أقرّه الدين نفسه، ولا خلاف في ذلك، قال العزّ واعد الكبرى (1/96):" تقديمُ إنقاذ الغرقى المعصومين على أداء الصلوات؛ لأنّ إنقاذ الغرقى المعصومين أفضل عند الله من أداء الصلاة، والجمعُ بين المصلحتين ممكنٌ بأن يُنْقِذَ الغريقَ ثم يقضي الصلاة. ومعلومٌ أنّ ما فاتَه من مصلحة أداء الصلاة لا يقاربُ إنقاذَ نفسٍ مسلمةٍ من الهلاك."، ثم يزيد المسألة وضوحا فقال:" وكذلك لو رأى الصائم في رمضان غريقًا لا يتمكَّنُ من إنقاذه إلاّ بالفطر، أو رأى مَصُولاً عليه لا يمكن تخليصُه إلاّ بالتقوّي بالفطر، فإنّه يُفْطِرُ ويُنْقِذُه." وكلّ ذلك " من باب الجمع بين المصالح، لأنّ في النفوس حقًّا لله وحقًا لصاحب النفس، فَقُدِّمَ ذلك على فوات أداء الصوم دون أصله".
إن الدين برأي الدكتور جيدل دائما هو الأساس الباعث على العناية بالنفس الأدمية، لهذا قلنا سابقا إنّ إنسانية الإنسان بقدر تحقق قلبه بمقاصد الدين، ويفقد من إنسانيته بقدر ما فقد من انطباع هذه المقاصد في نفسه، فالمظلوم والمبتلى بالمرض والفقر بصرف النظر عن دينه وعرقه يسترعي التعاطف والبذل والإعانة، وما يميل المسلم عن ذلك إلاّ بقدر من يفقد من انطباع مقاصد الدين في قلبه.
متى يسترجع الفقه حيويته؟
بناء على ما سلف قال المعترضون، يضيف الدكتور جيدل، لم يسبق أن أغلق مسجد في تاريخ أمتنا في زمن الأوبئة المعدية، فقصارى ما كانوا يطالبون به هو عدم الخروج من مكان إقامتهم، وأن يدخلوا بلاد فيها وباء، وشاهده ما ورد في الحديث المتفق عليه عن النبي (صلى الله عليه وسلّم): "إذا سمعتم الطاعون بأرض، فلا تخلوها، وإذا وقع بأرض، وأنتم فيها، فلا تخرجوا منها". ولكنهم لم يمنعوا الصلاة في مساجدهم، وهذا قول الصحيح لو اتّخذت السلطة التحذيرات الاستباقية التي كان يرددها كثير من أهل العلم والفضل، فلو أغلقت الحدود في وقتها، لأمكن أن تبقى المساجد مفتوحة لأنّنا منعنا دخول الفيروس بمنع ناقليه من دخول البلاد.
ماذا بإمكانك أن تفعل حيال طاعون يجتاح مدينتك وقد تم غلقها وعزلها عن العالم؟ كيف ستتصرف حيال عدو شرس لكنه غير مرئي؟.
إقرأ أيضا: كورونا .. وأزمة العقل الفقهي المعاصر بالجزائر (1 من 2)
كورونا .. وأزمة العقل الفقهي المعاصر بالجزائر (1 من 2)
المرأة عند إسلاميي الجزائر.. ضحية الأدبيات القديمة (2من2)
فيروس "كورونا" والفقه الغائب.. نقاش فكري هادئ