في مشهد من فيلم (contagion – 2011) للمخرج ستيفن سودربرغ، اجتماع في مركز العمليات الطارئة في وزارة الأمن الداخلي، يضم الأميرال هاغرتي والمسؤول دينيس فرنش والدكتور أليس تشيفر. يمرر الأميرال بعض الصور أمام الإثنين.
فرنش: حدث هذا في كاولون واليوم يتظاهر عمال في كازينو في ماكاو. لقد مات ثلاثة منهم في مبنى العمال وتعتقد الاستخبارات بوجود علاقة بين الحادثين.
الأميرال: الكازينوهات محط اهتمام وزارة الأمن القومي.
فرنش: إن كان أحدهم مستعدا لتفجير نفسه وسط سوق، فلا بد أن فكرة إمراض نفسه بالجذري والسير في كازينو مزدحم قد خطرت على باله.
تشيفر: كيف مات الثلاثة؟
فرنش: التقارير ليست واضحة. نوبات دماغية وغيبوبة.
الأميرال: تواصلنا مع منظمة الصحة العالمية للاستيضاح.
فرنش: إن كان أحدهم يخطط لشيء ما فأفضل وقت هو عيد الشكر.
تشيفر: يخطط لماذا؟
فرنش: لهجوم مثلا. أيمكن لأحد استخدام أنفلونزا الخنازير كسلاح؟
تشيفر: لا حاجة لأحد أن يستخدمها كسلاح، فالطيور تفعل هذا.
تعريف جديد للإرهاب
العقل الأمني مبرمج على فكر المؤامرة خصوصا في عالم اليوم، حيث تحول الإرهاب إلى بعبع تخيف به الأنظمة شعوبها، ويستعين به المستبدون لتملك شرعية الوجود أمام المجتمع الدولي. فكر المؤامرة لم يكن أبدا بعيدا عن تحليل سرعة انتشار فيروس كوفيد 19، الذي صار اليوم حديث النشرات والمنتديات العامة والخاصة على السواء. الحرب البيولوجية ليست خيالا من صنع الكتاب والمحللين بل أمرا واقعا تتسابق الدول لامتلاك أسلحتها وتصرف لذلك الأموال وتستقطب الكفاءات وتشيد المختبرات. لكن واقع الحال بعد أسابيع من انطلاق الفيروس الغامض في غزوته التي لم تستثن حتى الآن غير قليل من بلدان الهامش ربما لضعف إمكانيات التشخيص عندها أو لوجودها أصلا على هامش حركية المجتمع العالمي، تدعو للتفكير في تعريف جديد للإرهاب الموجه ضد الأفراد قبل الجماعات.
في نفس الفيلم، يعرض المدون ألن كرومويدي على لورين، رئيسة تحرير جريدة كرونيكل، مقطعا يظهر رجلا يموت داخل باص بهونغ كونغ.
ألن: يقولون إن السلطات لن تجري تشريحا للتغطية عن شيء ما.
لورين: عن ماذا؟
ألن: لا أعرف. تفشى المرض قبلا وطمست صناعة الصيد الأمر، وأعلن أنه مرض مهني.
لورين: لكنها وفاة واحدة.
ألن: وفاة واحدة مصورة. لا يحدث أن يموت الجميع أمام الكاميرا. ما يقلقني هم من لا نشاهدهم.
منع الناس بالقوة دون تعويض عن ممارسة أعمالها والحيلولة بينهم وبين قوت يومهم ولو بإطلاق النار كما أمر الرئيس الفليبيني إرهاب. احتكار المواد الغذائية وغيرها بين الدول والأفراد "جريمة حرب"، كما يريدها قيس سعيد بتونس، وهي أيضا إرهاب.
رفضت رئيسة التحرير الاهتمام بالقضية واعتبرتها قصة عادية بلا أهمية. كان هذا حال السلطات الصينية حين أخبرها طبيب العيون لي وين يانغ بشكوكه حول المرض الغامض الذي لاحظ انتشاره بين رواد أسواق السمك في ووهان، فحاكمته بدعوى نشر أخبار كاذبة ومنعته من الكلام. وكان ذاك حال دونالد ترمب، رئيس أقوى دولة في العالم، في بدايات الأزمة وحتى بعد انتشار الفيروس إلى حلفائه في أوروبا. كان ترامب يظنها بعيدة عن أمريكاه "العظيمة"، بل ربما اعتبرها من عمل "الرب" يمده بها كمساعدة في الحرب التجارية التي أطلقها بلا هوادة ضد الصين. فما المانع أن يكون الوباء طرفا يخدم مصالحه واستراتيجيته الهجومية تلك؟
أمريكا بؤرة للوباء
اليوم، تتحول أمريكا رويدا إلى أن تصبح بؤرة الوباء العالمية، بل صارت تتقبل المساعدات من روسيا كأنها بلد من بلدان العالم الثالث لا قدرة لها على مواجهة الوضع المستجَد مع انتشار فيروس كورونا المستجِد. اليوم، لم يعد ترمب يتحدث بفخر عن عدد الإصابات التي لا تتعدى الخمسة عشرة فقد صار الخطاب الأمريكي يحضر الشعب لكارثة إنسانية أقل خسائرها مائة ألف إلى مائتين من الأمريكيين بما سيعد، حسب ترمب دائما، إنجازا حكوميا. السيناريوهات الأسوأ تتحدث عن ملايين من الجثث لن تجد من يدفنها أو يبكي فراقها.
عودة إلى فيلم (contagion – 2011) للمخرج ستيفن سودربرغ..
في مقر منظمة الصحة العالمية الفاخر بجنيف، يتناقش موظفو الهيئة الدولية البعيدون دوما عن الميدان، حيث يتفشى المرض ويحصد الأرواح.
موظف1: علمنا من بيكين أنه قد تم احتواء تفشي المرض في مجمع الأقحوان في هونغ كونغ. الحصيلة وفاتان وعشر حالات مشبوهة.
دكتورة ليونورا: ما تعريفنا لكلمة احتواء؟
موظف1: يستخدمون نفس إجراءات مرض السارس. يطبقون حجرا صحيا على المجمع ويفحصون الأعراض.
موظف2: كثافة سكان كاولونهي هي الأعلى في العالم، وهونغ كونغ ميناء. هذا المرض سينتشر..
الساسة لا يثقون بالعلماء والخبراء ويتهمونهم في الغالب بالتهويل رغبة في المحافظة على تمويلات مراكز أبحاثهم أو الرفع من الميزانيات المخصصة لها. ترامب وآخرون استهانوا بالفيروس وتحدثوا بما لا يعرفون كلهم اليوم متهمون بنشر الفيروس بين المواطنين. رؤساء وزراء ووزراء صحة وإعلام وصحفيون وفنانون وكثيرون آخرون في بلداننا العربية تباهوا بالمناعة العربية في مواجهة الفايروسات، وتغنوا بقدرة القطاع الصحي على مواجهة أسوأ السيناريوهات، والنتيجة ما نراه اليوم من ارتفاع أعداد الإصابات والوفيات التي يتواصل إحصاؤها والإعلان عنها، وما خفي أعظم. ترمب وغيره من رؤساء وقادة ومسؤولو الدول "الديمقراطية" سيحاسبون انتخابيا أو سيجرون إلى المحاكمات إن ثبت تقصيرهم، أما عندنا فلا شيء من هذا سيحدث بل سيتغنى الجميع بحكمة الرئيس والأمير والملك والزعيم، وستصبح الجرائم التي ارتكبت في حق الشعوب نسيا منسيا.
في اجتماع بدائرة الصحة بولاية مينيسوتا، يعدد الحاضرون الحالات المسجلة والوفيات. الطبيبة ايرين ميرز مبعوثة من مركز الأبحاث القومي لتقييم الوضع هناك.
ميرز: نعتقد، حتى الآن، أنه ينتشر بالتنفس وربما بأدوات العدوى الأخرى.
موظف 1: ماذا تقصدين بأدوات العدوى؟
ميرز: نقصد بذلك انتقال العدوى من سطح الأشياء. فالمرء يلمس وجهه من ألفين إلى ثلاثة آلاف مرة يوميا. كما نلمس مقابض الأبواب وآلات الشرب وأزرار المصاعد وبعضنا البعض. تلك الأمور هي أدوات العدوى.
موظف 1: هل سنعلن ذلك للصحافة؟ التنفس وأدوات العدوى؟
مسؤولة الدائرة: كيف سيتجاوب الناس مع ذلك؟
ميرز: يصعب الجزم. قرش بلاستيكي في فيلم يحرم الناس من نزول البحر. أما التحذير على علبة سجائر.....
مسؤولة الدائرة: علينا إطلاع الحاكم على هذا قبل إثارة الذعر، فنحن لا نعرف ما يجب تحذير الناس منه. جربنا ذلك مع أنفلونزا الخنازير وأثرنا خوف أناس سليمين. هذه أهم فترة للتبضع في السنة.
موظف 1: ربما يجدر بنا إغلاق المدارس.
مسؤولة الدائرة: ومن سيبقى مع الأطفال في البيت؟ العاملون في المتاجر؟ الموظفون الحكوميون؟ العاملون في المستشفيات؟ متى سنعرف طبيعة المرض وسببه وعلاجه؟ هذه الأمور تهدئ روع الناس.
ميرز: ما علينا تحديده هو مقابل كل شخص مريض، ما عدد الذين تنتقل إليهم العدوى؟ بالنسبة للأنفلونزا الموسمية العدد واحد. أما الجذري فاثنان. وكان شلل الأطفال قبل إيجاد لقاح له ينتقل بمعدل ما بين أربعة إلى ستة. هذا الرقم ندعوه معدل التكاثر.
موظف 1: هل من سبيل لمعرفة معدل تكاثر هذا الفيروس؟
ميرز: تعتمد سرعة التكاثر على عدة عوامل كمدة الحضانة ومدة إمكانية نقل العدوى حيث يمكن للمرء نقل العدوى دون أن تظهر عليه أعراض وأيضا معرفة عدد السكان المعرضين للفيروس.
مسؤولة الدائرة: حتى الآن، كل من له يدان وفم وأنف.
كل من له يدان وفم وأنف معرضون للإصابة في مختلف أنحاء العالم. لكن كان للساسة حسابات أخرى غير إنقاذ الأرواح. فمن مستبد يحاول تضليل الرأي العام المحلي والدولي أو رئيس دولة عظمى يرى في إغلاق المؤسسات الاقتصادية خطرا على المواطنين أكبر من فيروس أثبت على سرعة انتشاره وتطوير سلالته وقدرته على إيذاء البشر دون اعتبار للسن والجنس والقدرة الاقتصادية.
بدعوى محاربة الإرهاب قامت الولايات المتحدة الأمريكية، على مدار عقود، بتدمير دول وأنظمة وشعوب وأقامت مكانها دمى عميلة تاجرت بنفس الظاهرة، وباسمها استحلت الأنفس والأعراض.
ترامب لم يهتم إلا بوصم الفيروس بجنسية الصين، ربما اعتقادا أن ذلك قد يساعد في انحساره ومنع دخوله الولايات المتحدة الأمريكية بفعل إجراءاته ضد الهجرة، التي أطلقها منذ اليوم الأول لاستلامه مفاتيح البيت البيض. بالمقابل، لم يجد نفس الرئيس غضاضة في فتح المجال استثناء للأطباء واستقطابهم من أنحاء العالم لمساعدته في محاصرة الجائحة ولو على حساب بلدانهم الأصلية التي ترزح تحت كل أنواع الضعف والوهن والأمراض.
بدعوى محاربة الإرهاب قامت الولايات المتحدة الأمريكية، على مدار عقود، بتدمير دول وأنظمة وشعوب وأقامت مكانها دمى عميلة تاجرت بنفس الظاهرة، وباسمها استحلت الأنفس والأعراض. ففي سيناء، يقطع السيسي وجيشه أصابع القتلى للذكرى، وفي السعودية يقوم ولي العهد بنشر "دينه" الجديد ويعتقل الدعاة والنساء وبعض من الأمراء. أما الإمارات فتتكفل بنشر "السعادة" في مختلف دول "الثورات"، وفي سوريا تشريد وتقتيل وفي غيرها من الدول استغلال لمصلحة استدامة الأنظمة الاستبدادية بموافقة القوى الغربية التي لم يعد مسؤولوها يخجلون من الحديث عن إرهاب "إسلامي" بعد أن كان اللفظ ماركة مسجلة باسم اليمين المتطرف ومن والاه.
في دول الفشل، تخرج التظاهرات ضد كورونا فالعقل الجمعي ألف تظاهرات التفويض. أما في الدول الغربية فصارت المنازل ملاجئ للاحتماء بعد أن فشلت الدول على مواجهة مخلوق صغير أصغر من تراه العين جعلها صاغرة وكل جيوشها وميزانياتها العسكرية بالمليارات.
الإرهاب في الأخير، في زمن كورونا وخارجه، هو أن تكون عالما بالمصير الذي ينتظر البشرية وتخفي ذلك بدواعي الأمن القومي أو السعي لاحتكار الدواء والعلاج.
وبعد أن توالت طوابير النعوش، والتعاون الدولي مجرد شعار مفضوح، والمنظمات الدولية مجرد آلة حاسبة للحالات دون قدرة على مساعدة الحلقات الأضعف في المواجهة، صار واضحا أن التضليل الممارس على الشعوب إرهاب. وأن تلقي المساعدات ولو كانت من روسيا وتركيا والصين ومنع دول أخرى كإيران وفنزويلا من التصرف في ممتلكاتها، وفق قرارات أحادية لا مسوغ قانوني لها، إرهاب. وأن محاولة احتكار اللقاح وإغراء المختبرات والكوادر الطبية بالأموال والجنسيات إرهاب. وأن الاستيلاء على الشحنات الطبية في قرصنة ترتكبها دول ضد أخرى نهارا جهارا إرهاب. أما أن تحاول نسب الفيروس لجنسية دون غيرها بما يمثله ذلك من عنصرية مقيتة وتحريض فذاك أيضا إرهاب.
منع الناس بالقوة دون تعويض عن ممارسة أعمالها والحيلولة بينهم وبين قوت يومهم ولو بإطلاق النار كما أمر الرئيس الفليبيني إرهاب. احتكار المواد الغذائية وغيرها بين الدول والأفراد "جريمة حرب"، كما يريدها قيس سعيد بتونس، وهي أيضا إرهاب.
الإرهاب في الأخير، في زمن كورونا وخارجه، هو أن تكون عالما بالمصير الذي ينتظر البشرية وتخفي ذلك بدواعي الأمن القومي أو السعي لاحتكار الدواء والعلاج.
بعد أن يحقن الدكتور أليس تشيفر، الطفل أنطوني باللقاح، يمد الطفل يده للسلام عليه.
تشيفر: هل تعرف أصل عادة المصافحة؟
أنطوني: كلا..
تشيفر: كانت طريقة تظهر بها للغريب أنك لا تحمل سلاحا. كان المرء يمد يده لإظهار حسن نيته.
والد أنطوني: لم أكن أعرف ذلك.
تشيفر: وهل يعرف الفيروس ذلك؟
ربما لا يعرف الفيروس ذلك. لكن من يعلمون حولوه إلى سلاح في يد الأقوياء إيذاء واستشفاء. وهم بذلك إرهابيون يستحقون العزل ومن ثم الحساب.
"كوفيد 19".. لماذا تنتشر نظريات المؤامرة؟
فيروس كورونا.. الفرضيات والتداعيات