يعيش العالم أزمة
كورونا التي انطلقت شرارتها في القطاع الصحي ثم امتد لهيبها إلى
الاقتصاد العالمي، وقد جاءت تلك الأزمة على خلاف الأزمات السابقة، لا سيما أزمة الكساد العظيم 1929م والأزمة المالية العالمية 2008م، والتي كان منطلقها اقتصاديا بحتا.
ورغم ذلك، فإن التاريخ يعكس أن الأزمات من السنن الكونية التي ترجع للسلوك البشري الذي يبتلى بالحسنات والسيئات لعله يرجع عن ظلمه وبغيه ويوقن بالقدرة الربانية في هذ الكون. والتاريخ يشهد كذلك أن الأزمة الصحية اجتمعت مع الأزمة الاقتصادية في عام الرمادة 18هـ، في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وإذا حيّدنا وسائل التقنية المعاصرة وتطور الوسائل الإنتاجية، فإن الواقع الذي نعيشه لن يختلف كثيرا في ظل طاعون عمواس في الشام الذي فتك بالناس فتكا، وأزمة اقتصادية حادة بالحجاز من قحط شديد وجدب نتج عنها مجاعة جعلت الناس يتركون ديارهم في البادية ليتنقلوا لاجئين إلى المدينة المنورة بحثا عن البقاء على قيد الحياة، لا سيما وقد انغلقت سبل التجارة مع الشام بفعل طاعون عمواس.
وقد كان علاج النظام الاقتصادي الإسلامي لكلتا الأزمتين ليس علاجا ماديا، فحسب بل علاجا معنويا كذلك. فقد اتسم سلوك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه باللجوء إلى الله والتوكل عليه والأخذ بالأسباب، من تخطيط وتنظيم وتوجيه ورقابة في علاج الأزمة في الحجاز.
وأزمة الرمادة في الحجاز وإن اختُلف في مدتها، حيث تراوحت ما بين تسعة شهور وستة سنوات وفق المؤرخين، فإنه من الراجح أن شدتها كانت تسعة شهور والتعافي منها أخذ تلك السنين، ما بين عامين أو ثلاثة أو خمسة أو ستة أعوام وفق اختلاف المؤرخين. كما ذكر البعض أنه عام اشتد فيه الطاعون مع الجوع، وقد سميت بالرمادة لأن الريح كانت تسفي ترابا كالرماد.
وقد برز تخطيط أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، من خلال إقامته في المدينة أماكن لإيواء المتضررين من البادية، والذين بلغ عددهم 60 ألف شخص، وقام بتنظيم ذلك بصورة تمنع التكدس وتيسر وصول حاجاتهم لهم، وقسّم العمل بين المسؤولين لخدمتهم، إشرافا وتوفيرا لمتطلباتهم المعيشية، وكانوا يقدموا مساء كل يوم تقريرا لأمير المؤمنين عن أعمالهم، وكان يوجههم، بل كان يمر على المتضررين ويعمل على خدمتهم بنفسه، كما كان يوفر كذلك الحصول على احتياجاتهم الغذائية من دار الدقيق.
وبذلك تكفلت الدولة وفق نظامها الاقتصادي الإسلامي بكل احتياجات المتضررين من الأزمة من بيت مال المسلمين، وكان الفاروق يرى أنه لو استمرت الأزمة فإن خطته لعلاج ذلك هو تحمل القادر لغير القادر بإدخال على أهل كل بيت من الموسرين عددهم من المحتاجين، حيث قال: "لو امتدت المجاعة لوزعت كل جائع على بيت من بيوت المسلمين، فإن الناس لا يهلكون على أنصاف بطونهم". ولكن شاءت إرادة الله أن جاءت لأمير المؤمنين قوافل الطعام من الشام ومصر، وجهز لجنة لتوزيعها من خلال كوبونات حتى انتهت الأزمة.
وكان السلوك الاقتصادي الشخصي لعمر رضى الله عنه في تلك الأزمة يعكس مسؤولية الحاكم وتبعاته، فقد كان أول من بدأ بتحمل مشاق الأزمة تطبيقا على نفسه بالتقشف، فلم يكن في برج عال بعيدا عن رعيته، بل كان قدوة بينهم، فحلف ألا يذوق لحما ولا سمنا حتى يحيا الناس، واقتصر على أكل الزيت حتى غير لونه، وكان يقول: "كيف يعنيني شأن الرعية إذا لم يمسّني ما مسهم"، حتى رأى من حوله إنه إذا لم تنقض الأزمة سيموت عمر همّا بأمر المسلمين.
كما أن الأسباب المعنوية كانت واضحة في زوال الأزمة، فها هو الفاروق عمر رضي الله عنه دائم الصلاة ودائم الاستغفار، وكان يصلي بالناس العشاء ثم يخرج إلى بيته، فلا يزال يصلي حتى يكون آخر الليل ثم يخرج فيمر على المحتاجين في أماكنهم، وكان يقول في السحر: "اللهم لا تجعل هلاك أمتي على يدي". وكان يردد دائما: "اللهم لا تهلكنا بالسنين وارفع عنا البلاء".
كما كان يحس بتبعة الأزمة وويلاتها فيقول: "أيها الناس إني أخشى أن تكون سخطة عمتنا جميعا، فأعتبوا ربكم، وانزعوا، وتوبوا إلى ربكم وأحدثوا خيرا". وكان يقول للقوم (كذلك) "هلموا فلندع الله يصلح قلوبنا وأن يرحمنا وأن يرفع عنا المحل". وقد استسقى بالعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قائلا: "اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا".. وكان العباس يقول: "اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يكشف إلا بتوبة، وقد توجه القوم بي إليك لمكاني من نبيك، وهذه أيدينا بالذنوب، ونواصينا إليك بالتوبة فاسقنا الغيث"، فأرخت السماء مثل الجبال حتى أخضبت الأرض وعاش الناس.
أما طاعون عِمَواس فقد ظهر في بلدةٍ صغيرة بين القدس والرَّملة تسمى عمواس، ومنها انتشر للشَّام واشتد فيها، وقد هلك فيه خلق كثير وصل إلى 20 ألف شخص، وكان عدد الموتى يمثل نصف عدد المسلمين بالشام، ليضاف ذلك إلى عدد الموتى من الوافدين في المدينة والذي وصل إلى الثلثين منهم، وضعف الموتى من الطاعون، أي 40 ألف شخص.
وقد مات في طاعون عمواس صحابة عظام، في مقدمتهم أبو عبيدة بن الجراح وكان أمير الناس، ومعاذ بن جبل، ويزيد بن أبي سفيان رضي الله عنهم وغيرهم الكثير، ولم يرتفع الوباء إلا بعد أن وُلي عليهم عمرو بن العاص رضي الله عنه، فخطب في الناس وقال لهم: "أيها الناس، إن هذا الوجع إذا وقع إنما يشتعل اشتعال النار، فتجنبوا منه في الجبال"، فخرج، وخرج الناس، فتفرقوا حتى رفعه الله عنهم. وقد بلغ ذلك أمير المؤمنين عمر فما كرهه، لا سيما وأنه حاول دخول الشام في بداية الطاعون، ولم يدخلها إلا بعد انتهاء الوباء، عملا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم عن الطاعون: "إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه".
كما كان الأخذ بالأسباب المعنوية باللجوء إلى الله حاضرا دائما معهم، فكان أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهي يقول حينما طعن: "إن الله قد كتب الموت على بني آدم فهم ميتون فأكيسهم أطوعهم لربه وأعملهم لمعاده".
إن ما نعيشه اليوم من أزمة كورونا وما نتج عنها من دخول العالم في نفق الكساد، يعود بنا بالذاكرة إلى قدرة النظام الاقتصادي الإسلامي على إنقاذ البشرية والرحمة بالعالمين، فهذه الأزمة التي تمس الجميع (وبغض النظر عن وجود تامر بها أو عدم وجوده من عدمه)، فإننا بحاجة إلى تكاتف الجهود الحكومية والخيرية والشعبية لعلاج هذه الأزمة الوقتية، والخروج منها كما خرج أمير المؤمنين عمر بن الخطاب من أزمة الرمادة.
إننا بحاجة في ظل هذه الأزمة إلى تحقيق السلامة الاجتماعية من خلال الالتزام بالحجر الصحي وترشيد الاستهلاك وعدم التكالب على السلع والخدمات، والتكافل المجتمعي ليحمل القادر المحتاج، وتحمل الدولة الجميع، بالتركيز على القطاع الصحي وتوفير احتياجاته، وتوفير الاحتياجات الضرورية في المجتمع، وتيسيرها في أيدي المحتاجين مجانا، مع الاستعانة بالمؤسسات الخيرية ورجال الأعمال لتحقيق
التكافل المجتمعي، كما يمكن للدولة فرض ضرائب على الأغنياء دون غيرهم بما يستوعب حاجة المحتاجين.
ومع كل ذلك ينبغي تفعيل الأسباب المعنوية للخروج من الأزمة، وليس غريبا ما نشهده في الغرب من تقطع السبل البشرية والدعوة للجوء إلى الله، حتى المآذن رفعت نداء "الله أكبر" في عقر دارهم، فما أحوجنا إلى الاستغفار والصلاة والصيام والصدقات، وإغاثة المحتاج، حتى يرفع الله عنا هذا البلاء.