ضربت جائحة
كورونا جميع مناحي الحياة في أنحاء العالم، كما ألقت بظلالها على المعترك السياسي، وغيرت حسابات الأحزاب الحاكمة والمعارضة، في ظل الجهود التي تبذلها كافة الدول لمواجهة الجائحة، والحد من آثارها السلبية، وأصبحت جميع الملفات الأخرى ثانوية تأتي في الأولوية بعد هذه الأزمة العالمية.
المنشقون من حزب العدالة والتنمية، الحاكم في
تركيا، أسَّسوا قبل فترة حزبين جديدين، أحدهما حزب المستقبل برئاسة رئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو، والآخر حزب الديمقراطية والتقدم برئاسة نائب رئيس الوزراء السابق علي باباجان. وكان كلا الحزبين يتمنيان انطلاقة قوية، إلا أن الأجواء الحالية في البلاد لا تسمح بذلك، لأن الكل منشغل
بمواجهة الجائحة، ومتابعة التطورات المتعلقة بها.
الحكومة التركية نجحت حتى الآن في
إدارة الأزمة واتخاذ التدابير اللازمة، إلى حد كبير، دون توقف الحياة اليومية وعملية الإنتاج والتصدير، كما أن هناك حالة من التضامن الشعبي والشعور بضرورة التوحد ضد هذا العدو الذي يهدد الجميع دون التمييز بين مؤيد للحكومة والمعارض لها. وهذا ما يقلص المساحة التي يمكن أن يتحرك فيها المنشقون من حزب العدالة والتنمية لانتقاد الحكومة والترويج لأنفسهم. بالإضافة إلى ذلك، فإن العلمانيين المتطرفين والمنتمين للكيان الموازي، التنظيم السري لجماعة كولن، هم الذين يقودون حاليا عملية
نشر الإشاعات والتشكيك في التدابير المتخذة لمكافحة الجائحة، وبالتالي قد يعتبر الرأي العام المشاركة في انتقاد الحكومة في الوقت الراهن اصطفافا مع هؤلاء.
داود أوغلو طالب الحكومة بعد تفشي فيروس كورونا بإعادة الأطباء الذين تم فصلهم من أعمالهم في المستشفيات الحكومية بتهمة الانتماء إلى الكيان الموازي، إلى أعمالهم السابقة، مدَّعيا بأن البلاد بحاجة إليهم في مواجهة الجائحة. إلا أن هذا الطلب أثار استياء واسعا في المجتمع التركي الذي لا يثق بهؤلاء الأطباء الذين يقدِّمون انتماءهم إلى الكيان الموازي على مسؤوليتهم المهنية في معالجة المرضى، بدليل أن بعضهم امتنعوا ليلة محاولة الانقلاب الفاشلة عن معالجة المصابين بنيران الانقلابيين وقالوا لهم: "اذهبوا فليعالجكم أردوغان". كما أن وزارة الصحة التركية لا تعاني من نقص الأطباء والكوادر الطبية، وأن إعادة هؤلاء إلى أعمالهم السابقة يفتح الباب أمام تمكين خلايا التنظيم من التغلغل مرة أخرى في أجهزة الدولة.
ومن أزمة المنشقين من حزب العدالة والتنمية، أنهم قد يقعون في تناقضات واضحة خلال انتقادهم للحكومة وإجراءاتها، ويطلقون تصريحات تنسف ما صرحوا به قبل أشهر، حين كانوا في صفوف حزبهم القديم، ما يدفع الناخبين إلى التساؤل عن مدى مصداقيتهم في أقوالهم ومواقفهم الجديدة.
وفي آخر أمثلة تلك التناقضات، انتقد القيادي في حزب الديمقراطية والتقدم، مصطفى ينر أوغلو، اعتقال صحفي تركي استهزأ بالقرآن الكريم وآياته. وكان الصحفي المذكور كتب في تغريدة أن هناك سورة جديدة باسم "سورة كورونا"، وأن إحدى آيات تلك السورة: "جعلنا لكم الكحول حلالا". وقال النائب المنشق من حزب العدالة والتنمية إن الصحفي لم يرتكب أي جريمة، ولم يتجاوز بتغريدته على حقوق أحد، مدَّعيا بأن ما كتبه يدخل ضمن حرية التعبير، على الرغم من أنه (أي النائب ينر أوغلو)، نشر تغريدة في أيلول/ سبتمبر الماضي، قبل استقالته من حزب العدالة والتنمية، كتب فيها قوله تعالى: "أوَلا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون"، ثم أضاف قائلا: "لا ينتظرْ أحد منا أن نحترم الذين يستهزؤون بمقدسات المسلمين ومبادئهم".
الحزب الجديد الذي يؤسسه المنشقون من حزب ناجح يحافظ على شعبيته إلى حد كبير، يجد صعوبة في التنافس مع ذاك الحزب الذي خرج من رحمه. ومما يزيد هذه الصعوبة، تأسيس حزبين جديدين في آن واحد من قبل المنشقين من ذات الحزب، لأنه يعني أنهما سيتنافسان فيما بينهما، بالإضافة إلى تنافسهما مع الحزب الأم.
الأجواء السياسية لم تكن لصالح المنشقين من حزب العدالة والتنمية، حتى جاءت جائحة كورونا لتهمش كافة المناكفات السياسية. وكانت المعارضة تنتقد إنشاء المستشفيات الحديثة والمدن الطبية الضخمة، بحجة أن البلاد ليست بحاجة إليها، إلا أن تلك الانتقادات السابقة أصبحت اليوم دعاية لصالح الحكومة، في ظل ما تعانيه كثير من الدول الغربية من نقص كبير في عدد الأَسِرَّة وغرف العناية المركزة.
استطلاعات الرأي تشير إلى أن مجموع شعبية الحزبين الجديدين لا يكاد يتجاوز 2 في المئة. ولعل الشيء الوحيد الذي لصالحهما هو أن البلاد حاليا ليست أمام أي انتخابات. ومن الآن حتى 2023 هناك فرصة أمام المنشقين من حزب العدالة والتنمية، لإقناع الناخبين، إن لم يضيِّعوها بتصريحات متناقضة يطلقونها فقط لمجرد معارضة ما تقوم به الحكومة.