لا يمكن بالنظر إلى "ظاهر الخطاب"، الوقوف على دلالة سؤال عبد الفتاح
السيسي عن الشخص المدني في الموقع مجهول العنوان الذي حل به
في رحلته التفتيشية، ربما ليؤكد ما قاله من قبل؛ أنه يغير من هيئته وينزل للشارع فيجد الناس غير ملتزمة بوضع الكمامات، فلا بد من فحص خطابه بعمق للوقوف على ما في بطن الشاعر!
عندما تحدث عبد الفتاح السيسي عن تغييره للهيئة المعروفة عنه والنزول للشارع، افتقدت مهنة تبدو أنها انقرضت في زمن الإعلام الجديد، وهي مهنة "الرسام"، الذي يقوم بريشته بالتعبير بشكل كوميدي عن الممارسات والسياسات، وهو الأمر الذي كان معروفا بالصحافة الورقية بالضرورة. وقد صدرت في القاهرة مجلة "كاريكاتير"، ليقوم عليها رسامون من "الجلدة للجلدة"، وإن استعانت بكتاب ساخرين مثل زميلنا الراحل محمد حلمي!
وكان لكل صحيفة تصدر رسام أو أكثر، ولا أعرف إن كان عدم اهتمام الصحافة الالكترونية بذلك، مرده إلى الشعور بعدم الأهمية لهذا اللون من الفنون الصحفية، أم أنه من باب توفير النفقات، وعلى أساس أن الواقع صار أكثر سخرية من ريشة أي فنان، فمن يساير عبد الفتاح السيسي في المهمة، وهو في كل حركاته وسكناته يمثل المادة الخام للفكاهة.
يتفقد الرعية:
وفي تقديري، أن مجرد ما قاله عن تغيير هيئته وتفقده لراكبي الميكروباص، يكفي للتعبير عنه بعشرات الرسومات، لكن عند اليوم الأول كان سيتوقف الرسامون بعد أن جد جديد تمثل في صيحته الشهيرة: "فين المدني اللي هنا؟"، وربما كان في جولته هذه يريد التأكيد على صحة ما قال من كونه يتفقد الرعية، لكن فاته أن يغير هيئته، فقد وجدناه بذات الهيئة، وذات الموكب، وفي حضور حراس شداد غلاظ، يتسمون ببسطة في الجسم، وكأنهم يأكلون مع عميان!
ولم يكن هذا فقط هو الخطأ الوحيد في هذه الجولة، فالخطأ الأكبر أنه لم يكن على مستوى أداء رئيس الدولة، ولكنه كان في حكم "ريس
العمال"، أو قائد الوحدة العسكرية، وهو يمارس "الشخط والنطر"، عندما وجدهم بدون كمامات!
لا نعرف إن كان وقوف العمال بدون كمامات، هو جزء من السيناريو الموضوع، أم أنه نتاج عدم توفيق إلهي، يدفعه للحدة هكذا، فيتحول الأمر إلى مادة للفكاهة على السوشيال ميديا. وإذا كانت أجهزته هي من أذاعت هذه "اللقطة"، فقد استشعرت الحرج في وقت لاحق وقامت بحذفها، لكن الفأس كانت قد وقعت في الرأس، والنشر لم يتم على كل الصفحات بذات الرابط المحذوف، فمن الواضح أن الفيديو جرى تحميله وإعادة نشره، حتى إذا ما تم الحذف من المنبع، لم يتأثر بذلك من نقلوه وعلقوا عليه!
النظر إلى ما جرى على أنه جزء من السيناريو المرسوم، ولتصديق ما قاله السيسي من أن الناس في "الميكروباص"، لا يلتزمون بوضع "الكمامات" وقد شاهد الأمر بنفسه في جولاته بعد أن يغير هيئته، يعزز منه أن حرسه كان جاهزا بالكمامات فوزعها على العمال، لكن في المقابل فقد كان واضحاً أنه تهيب الموقف ووقف محتميا في سيارته من الفيروس، ولم يقترب خطوة للأمام، بسبب عدم ارتداء العمال الكمامات، وكان في حكم من اضطرته الظروف للنزول من السيارة، وبمجرد أن وضع قدميه على الأرض اكتشف أنه كان قد خلع الحذاء بالداخل، أو أنه سُرق منه في المسجد! عندي عقدة نفسية من لصوص الأحذية في المساجد منذ أن سرق لص جاحد حذائي وأنا أصلي الجمعة في الأزهر الشريف قبل ثلاثين سنة!
الأداء الارتجالي:
وفي جميع الأحوال فقد خرج السيسي عن شعوره، ولا نعرف إن كان هذا جزءا من السيناريو، أم أنه الأداء الارتجالي، وهو يحتد على أحد الواقفين الذين لا نعرف موقعه الوظيفي في هذا المولد، وقبل أن يسأل: "فين المدني اللي هنا"؟! والذي يكشف أن من يخاطبهم هم عسكريون، فكان سؤاله عن المدني، فمن هؤلاء العسكريون وما محلهم من الإعراب في أمر خاص بالعمال والبناء ونحو ذلك؟!
للإجابة على هذا السؤال كان ينبغي اسم إعلان الموقع الذي زاره السيسي، وهو ما لم يحدث، وإن كنت أستبعد بالنظر إلى تفاصيله أن يكون ضمن أعمال العاصمة الإدارية الجديدة، والبناء فيها يخضع لرقابة هيئة المشروعات الهندسية بالقوات المسلحة، لكن وجود عسكريين في الموقع المُزار يؤكد أنه ضمن المنشآت التي أسندت بالأمر المباشر للهيئة المذكورة، والتي تمنحها لشركات مدنية أيضاً بالإسناد المباشر، وهو الأمر الذي تحدث عنه الفنان والمقاول محمد علي في فيديوهاته، باعتبار شركته كانت من هذه الشركات صاحبة القسمة والنصيب!
لنصل هنا إلى بيت القصيد، وهو دلالة السؤال الاستراتيجي المخيف: "فين المدني اللي هنا"؟!
المسؤول المدني:
في جميع الأحوال فإن دلالته غير مريحة، فهل سؤاله باعتبار أن القائم الحقيقي على العمل هي شركات المقاولات المدنية، وأن دور العسكريين ثانوي لتمكينهم فقط من الاستحواذ على أعمال المقاولات، وما يرتبه من عمولات ونحو ذلك؟ ومن هناك كان السؤال عن المسؤول المدني، باعتباره هو المسؤول الفعلي، وأن وجود العسكريين هو تحصيل حاصل، وينفي حضورهم عن الزيارة أنها تمت بشكل مباغت، لا سيما وأن الأصل أن يكون العمال في أعمالهم وليسوا في طابور الصباح على النحو الذي ظهروا عليه!
الدلالة الأخرى للسؤال: "فين المدني اللي هنا"، هو رغبة السيسي الدائمة لتقديم الانضباط والالتزام والحسم والإنجاز على أنه سمة من سمات العسكريين، وبهذا ليثبت أنه بصفته العسكرية من هؤلاء وليس من المدنيين الذين يتسمون بالفوضى وعدم والجدية والإهمال!
وعلى الرغم من أن الجنين في بطن أمه وقف على أن فيروس
كورونا أكد على أهمية الأطباء والعلماء وطواقم التمريض لا سيما في المستشفيات الحكومية، فإن السيسي ظل بعيداً إلى أن رتب للجيش دوراً استعراضيا في الأمر، واجتمع بقياداته ليثبت أن الأداء كله للعسكريين، ووجود وزيرة الصحة في أمر كهذا في الصفوف الخلفية في هذا الاجتماع كاشف عن الرسالة التي يتبناها والتي يريدها أن تصل للجميع!
لقد لفت انتباه البعض، أن الوزيرة لم توضع في الحجر الصحي بعد عودتها من إيطاليا، لكن السماح لها بالحضور، كان يستدعي أن يكون وجودها في الصف الأول، وليس في المؤخرة في لحظة افتعال دور للجيش، بينما الأطباء والممرضون يعملون منذ ظهور الفيروس في ظروف سيئة وعلى خط النار، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم استمر في أداء الواجب المهني والوطني!
والملاحظة المهمة في هذه الزيارة بعيدا عن "الشخط والنطر"، هو أن السيسي وحراسه لم يكونوا على مستوى تمثيل القدوة للعمال، فقد غضب لعدم ارتدائهم الكمامات بينما كان هو حاسر الفم والانف وكذلك حراسه الشداد الغلاظ، ولم ينبته إلى أن إلزام العمال بوضع الكمامة بشكل يومي، سيكلفهم من أمرهم رهقاً، حيث يحتاج إلى ميزانية أخرى، كما تحتاج ذلك الشركة المدنية التي لم يكن هذا في حسبانها عند إسناد المهمة إليها من قبل الجهة الإدارية بالأمر المباشر!
الملاحظة الأكثر أهمية والتي لم ينتبه لها أحد، أن العمال قد عادوا لمواقع العمل، وهو تصرف يفتقد للحكمة ويذكرنا بالتهاون في التعامل مع الوباء في البداية وهو ما نتج عنه انتشاره، ومن المعلوم أن هناك إصابات بين العمال في مجال المقاولات بالذات لا سيما في العاصمة الإدارية الجديدة، فهل من المنطقي أن يكون السؤال أين الكمامات؟ أم لماذا نزلوا للعمل في وقت يتردد على لسان مسؤولين أننا في أسبوعين حاسمين؟ فلماذا لم يتم الانتظار حتى نهايتهما للسماح بنزول العمال إلى مواقع العمل!
متى يفهم أن العسكريين لا يصلحون للحكم؟!