كان الفقهاء دائما على وعي بأن للفقه قوله في النوازل المستجدة، وأن الأحكام تتغير بتغير الأزمان والأمكنة والأحوال، لكنهم في الوقت ذاته كانوا يميزون بين أحكام العبادات وأحكام العاديات، فيجعلون العبادات بمنطق الاتباع وحظر ما لم يرد به شرع، ويتوسعون في قضايا العاديات والمعاملات، فيجرون الأحكام على مقتضى النظر في المصالح والحكم.
غير أن هذا التمييز، لم يكن دائما هو الضابط الذي يفصل في الخلافات، فقد عرفت العبادات طروء نوازل ومستجدات، لم يعمل فيها بمنطق الحظر، وإنما درجت أقوال الفقهاء على اعتبار الاجتهاد والنظر في المعاني المعقولة حتى في العبادات. ومن ذلك أن أحد فقهاء المغرب، الشيح أحمد بن الصديق الغماري، عرضت عليه مشكلة ضعف خطباء الجمعة في مصر زمن الاستعمار، فأفتى رحمه الله بجواز صلاة الجمعة باتباع إمام عبر المذياع، وألف في الباب رسالة سماها "الإقناع بصحة صلاة الجمعة في المنزل خلف المذياع ".
وما كان أحد يظن أن فتوى الشيخ أحمد بن الصديق الغماري، التي أفتى بها زمن الاستعمار ستجد صداها اليوم، وتستعاد أدلتها، ويقذف بها في الجدال القائم اليوم حول جواز متابعة إمام عبر التلفاز في صلاة التراويح زمن كورونا والحجر الصحي.
فتوى الشيخ أحمد بن الصديق الغماري، التي لم تجد من يعارضها في زمنه، أو على الأقل لم تستفز معاصرين من الفقهاء للرد عليه، أصبحت اليوم بأدلتها وتخريجتها الفقهية جزءا من الأسلحة الفقهية التي تستعمل في الجدل الدائر في المغرب بين الفقهاء حول جواز الاقتداء بإمام عبر القنوات الفضائية لآداء صلاة التراويح جماعة في البيت وإحياء هذه الشعيرة.
والحقيقة أن النقاش حول هذا الموضوع، لم يأخذ فقط بعده الفقهي المتخصص، وإنما دخلت فيه مكونات أخرى، تلبست بلبوس تحقيق المناط الفقهي، واستحضرت أبعادا أخرى في السياسة، ووظيفة الدين وهيئاته الشرعية والتعبدية في تحقيق الأمن الروحي وتأمين وحدة الجماعة، وربما تأمين الشرعية الدينية للدولة.
في سياق فتوى الشيخ أحمد بن الصديق الغماري الطنجي
يحكي تلميذ الشيخ أحمد بن الصديق الغماري، الشيخ محمد بن الأمين بوخبزة لطلبته سياق هذه الفتوى، في درس مصور في الفيديو، أن الشيخ الغماري واجه نازلة تتعلق بجواز الترخيص لذوي الأعذار بصلاة الجمعة عبر الائتمام بإمام عبر المذياع، ولم يذكر الشيخ بوخبزة رحمه الله، سياق الفتوى وملابساتها، مما هو متضمن في رسالة الغماري، ذلك أنه ذكر أنه كتب الكتاب بسبب ما حدث في مصر من تصدر خطباء للجمع مع ضعفهم الشديد في فن الخطابة، فأفتى لذوي الأعذار بجواز الصلاة خلف الإمام عبر المذياع، وقيد الجواز بثلاثة شروط، أولها اتحاد الوقت في بلد الخطيب والمصلي، إذ لا يجوز أن يصلي المصري خلف إمام جزائري عبر المذياع لتباعد الوقت بينهما لتباعد البلد، وأن يكون بلد المصلي أو منزله متأخرا في المكان عن بلد الخطيب حتى لا يكون المأموم متقدما على الإمام، وأن لا يكون وحده في صف، ولو كان معه شخص واحد.
ومع أن فتوى الغماري شبيهة في حيثيات النازلة بقضية صلاة التراويح في الحجر الصحي عبر التلفاز، إلا أن التكييف الفقهي يجعلهما مختلفتين، فالغماري أفتى في قضية صلاة الجمعة التي تتعلق بها أحكام خاصة، ولذلك كانت أدلته الحجاجية مستقاة من طبيعة النازلة، ذلك أن الجمعة تضم خطبة، وهي أهم ما في الصلاة والقصد منها يحصل بالمذياع كما يحصل في المسجد، بينما لا تتضمن التراويح هذه الخطبة، وأن صلاة الجمعة لا يشترط فيها المسجد، وأن صلاة الجمعة تختص بحكم ورد في النقل من حديث عائشة رضي الله عنها، يجيز اقتداء من هم خارج المسجد بالإمام داخل المسجد، وأن العبرة في الاقتداء بالإمام سماع صوته، وذلك يحصل عن طريق المذياع.
وقد ذكر الشيخ محمد بن الأمين بوخبزة رحمه الله ألا أحد من العلماء رد عليه وقتها سوى ما كان من بعض فقهاء مصر لم يناقشوا ادلته، بقدر ما اتهموه بالعمالة للاستعمار.
أصول المالكية تجيز الاقتداء بالإمام عبر التلفاز
الدكتور الحسين آيت سعيد أحد الفقهاء المعاصرين والمبرزين في علم المقاصد، تناول القضية بقدر كبير من المرونة في النظر العلمي، فذكر أن المسألة ليست طارئة، وإنما تداولها العلماء قديما، ومنهم المالكية والشافعية، مفرقا في ذلك بين الفرائض والنوافل، ومذكرا بمرونة وتوسع العلماء في النوافل وتشددهم في الفرائض.
وحاول العلامة الحسن أيت سعيد أن يضبط تكييف المسألة الفقهية، ويحدد وجهها ومناطها، فذكر أن التكييف الفقهي لقضية صلاة التراويح بمتابعة إمام عبر التلفاز والاقتداء به، هو: هل اتصال الصفوف ووجود المأموم وراء الإمام، شرطان في الصلاة، وإذا كانا كذلك، فهل هما شرطا صحة أو كمال؟
يرى العلامة الحسين آيت سعيد إلى أن مذهب المالكية والشافعية أنهما شرطا كمال، خلافا لمذهب الحنفية بكونهما شرطا صحة، مبينا ضعف دليل الحنفية في ذلك، واستند العلامة إلى ما ورد في المدونة في جزئها الأول من إجازة الإمام مالك عدم اتصال الصفوف، وعدم كون المأموم وراء الإمام في الفريضة التي أمرها ضيق، معتبرا أن جواز ذلك في النافلة أولى، مقيدا ذلك بشرط واحد، وهو سماع المأموم تكبيرات الإمام، وركوعه وسجوده معه بالسماع، فلا تشترط الرؤية (رؤية الإمام)، وأن شرط الصحة متوقف على السماع دون الرؤية، وإن أجمعت الرؤية والسماع فذلك الوجه الأكمل، مبينا أن الأصل في المسألة عند الإمام مالك هو ما جرى عليه العمل في دار آل عمر بن الخطاب بالمدينة، والعمل لا يكون عندهم إلا عن عمل الصحابة، وقد استند العلامة في رأيه لقول مالك في وجود نهر صغير بين الإمام والمأموم هل تجزئ صلاة المأموم، فقال لابأس بذلك، فذكر العلامة أن اشتراط صغر النهر مظنة لسماع صوت الإمام، إذ لو كان النهر كبيرا، لمنع خرير مياهه وصول صوت الإمام للمأموم. فاستدل العلامة بأقوال المالكية واجتهاداتهم لتأكيد أن صلاة الناس للتراويح بالتلفاز وخاصة في ظل هذا الوباء الذي أغلقت فيه المساجد مؤقتا، أمر لا غبار عليه، وأنه جائز للفوز بفضل الجماعة الكبيرة.
وقريبا من هذا الرأي، عبر الشيخ أحمد الريسوني في لقاء عبر تقنية التواصل عن بعد، نظمته حركة التوحيد والإصلاح بمكناس بعنوان “رمضان وحالة الطوارئ"، عن الإمكان الشرعي لصلاة التراويح خلف إمام غائب بسبب الحجر الصحي، معللا ذلك بورود تخفيفات وتسهيلات كثيرة في النوافل، وذلك أخذا بقاعدة "يغتفر في النوافل ما لا يغتفر في الفرائض".
الفقيه محمد الروكي: حظر الاقتداء بالإمام عبر التلفاز لانتفاء المأمومية
أما الفقيه العلامة محمد الروكي، فلم يحرر قولا فقهيا مطولا، على عادته في التدقيق الفقهي، وإنما اكتفى بإدلاء رأيه لأحد المواقع الإلكترونية التي بادرت لسؤاله في الموضوع، مؤكدا عدم الجواز، معللا قوله بكون حقيقة الإمامة مفقودة تماما، إذ كيف تكون الإمامة بين إمام في بلد، ومأموم من بلد آخر، وحتى في نفس المكان، إذا كان بين المأموم والإمام، فيقول الروكي: "فإن ذلك لا يصح، ولا يجوز، معتبرا أنه لا ينبغي التوسع في هذه الأمور التي تتعلق بالعبادات، فالاجتهاد في العبادات هو خروج عن طبيعتها وخروج عن غاياتها ومقاصدها. واعتبر الروكي أن الأمر لا يقتصر على الفرائض فقط، وإنما ينسحب على الصلوات جميعها فرائضها ونوافلها، ففي الحقيقة أنا لا أقول ذلك من الفرائض فقط في جميع الصلوات فرائضها ونوافلها.
أما الشيخ مولود السريري، في جواب فقهي على سؤال طرح عليه في الموضوع من مقيمين مغاربة في هولندا، فقد حرر المسألة، بالنظر إلى مفهوم الاقتداء المتعلق بالإمامة، وهو يعتبر فيه المفهوم الشرعي الفقهي، أنم يعتبر فيه محظ المفهوم اللغوي الذي يمكن القياس عليه بصور مختلفة من لوازمه، منتصرا في ذلك إلى أن المقصود في الإمامة هو الاقتداء الذي له حد شرعي فقهي مرسوم، وأنه تبعا لذلك تفتقد حقيقة الإمامة في الصورة المستجدة للاقتداء بالإمام عبر التلفاز في صلاة التراويح.
تجويز صلاة التراويح بالاقتداء بالإمام عبر التلفاز فتح لذرائع الفرقة والتشتت
على نسق الشيخ محمد الروكي، استند الشيخ مصطفى حمزة على انتفاء حقيقة المأمومية في هذه الصورة من الاقتداء بالإمام عبر التلفاز، مؤكدا أن القول بالجواز لا معنى له ولا دليل عليه، وأن الإمامة في صورة هذه النازلة لا تحقق، فأنت يقول بن حمزة: تصلي بصلاة الأمام ولست معه، وهذه الأساليب تغير من حقيقة الصلاة ونحن نريد للصلاة أن تبقى على حقيقتها وعلى ما هي عليه.
وإلى ذلك اعتبر الشيخ مولود السريري أن الصلاة على هذه الصورة فيه إحداث هيئة في العبادة، والأصل في هيئة العبادة النقل، فاختار السريري تبعا لذلك القول بعدم ظهور وجه صحة هذه الصلاة شرعا من الناحية الشرعية.
وقد التفت الشيخ مصطفى بن حمزة إلى قضية أخرى في نظره المآلي في المسألة، داعيا إلى عدم فتح الأبواب لمثل هذه الصور المستحدثة، وذلك خشية أن تستحدث طرق جديدة في الصلاة غير الصلاة في المسجد، وتظهر جماعات لكل جماعة إمامها، فيزيد الوضع تفرقا وشتاتا وأن التأصيل الشرعي لمثل هذه الصور اليوم، سيكون له أثر خطير في القادم من الأيام، إذ ستفرغ المساجد، ما دام كل واحد سيجد الفتوى الشرعية التي تجعله يختار إمامه الذي يأتم به عبر التلفاز..
في الحجر الصحي لا مندوحة إلى العودة إلى أصل في صلاة التراويح
المخرج الذي اختاره الشيخ مصطفى بن حمزة، لهذه النازلة، هو أن يتم التذكير بالأصل الشرعي لصلاة التراويح، فهي صلاة نافلة، صلاها النبي صلى الله عليه وسلم فردية وجماعة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخشى أن يعتاد الناس على صلاتها جماعة خشية أن تفرض على المسلمين، فتركها جماعة حتى لا يختلط الفرض بالنفل، وتخوف النبي أن يظن الناس أن التراويح هي من فرائض رمضان، فتخلى عن صلاتها جماعة، وظل الناس يصلونها خلال حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وحياة أبي بكر الصديق في بيوتهم، وفي زمن عمر جمعهم لما رأى الناس يصلونها أوزاعا، إما فرادي أو جماعات صغيرة، فرأى أصواتهم تختلط، فجمعهم، فكانت هذه سنة من سنن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
ولذلك، يرى الشيخ بن حمزة أن هذه الظرفية التي ألجأت المسلمين للبيوت، فإن الأوفق، هو أن نعود إلى الفعل الأول، وهو أن نصليها فرادى. وقد اتجه الشيخ الريسوني في شق من رأيه هذا المتجه، إذ ذكر أن الأقرب والأصوب هو الامتثال للصورة المنقولة (عن الشرع)، و"هي الصلاة بالبيت ولو بمصحف يقرأ منه من يؤمنا".
وهو عين ما اختاره الشيخ مولود السريري الذي ذهب إلى أن الأفضل في صلاة التراويح أن تقام في البيوت سواء فتحت المساجد أو أغلقت، معتبرا أن هذا هو الحال الذي كان عليه الصحابة في خلافة أبي بكر وصدر من خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنها.
الشيخ الحسين آيت سعيد يستدرك ويوضح رأيه الفقهي
ربما أحس الشيخ والعلامة الحسين آيت سعيد بمخاطر تأويل فتواه في سياق سياسي ومذهبي مختلف، بعد خروج أكثر من فقيه في الرد على رأيه والانتصار للحظر وعدم الجواز، فأراد أن يقلص مساحة الخلاف، ومجال التوظيف رأيه الفقهي، وذلك بالتأكيد بأنه لم يقدم فتوى فردية ولا جماعية، وإنما قدم عرضا علميا لمسألة كما ظهرت في مظانها العلمية، وأنه لم يعرض رأيه وإنما عرض لرأي كبار علماء المالكية في الموضوع، وأن رأيه مقيد بزمانه ومكانه، ولا يمكن أن يفهم منه التعميم والإطلاق، فأكد أنه لا يجوز لأحد في المغرب أن يقتدي بأحد في المشرق أو في أوروبا وأمريكا للفارق الشاسع في أوقات الصلوات بيننا وبينهم، وأن المسألة منحصرة في مكان واحد، يشترك أهله في اتحاد وقت الصلاة وحتى في البلد الواحد لا تجوز المسألة عند اختلاف الأوقات، كما ولو كان أحد في مراكش، فلا يصح له أن يقتدي بواحد في وجدة، لأن العشاء للفارق الزمني بين وقتي الصلاة في المدينتين مع وجودها في بلد واحد.
واضح من خلال هذا الاستدراك المفصل الذي أخذ من الشيخ وقتا طويلا لتحريريه، أنه أدخل في الحساب المآل الذي انتهى إليه رأيه، والتوظيفات التي يمكن أن يستغل به، فتفطن إلى ضرورة تقييد رايه بهذه الاعتبارات، حتى لا يكون رأيه سلاحا قويا بيد جماعات متطرفة تسعى للمس بالوحدة المذهبية للمغرب من خلال صناعة إمامة أخرى للصلاة من خارج إطار مؤسسة إمارة المؤمنين، ومن خارج الدائرة المذهبية المالكية.
وقد فهم بعض الباحثين الضيق الذي وقع فيه العلامة الحسين أيت أحمد من حيث أراد أن يوضح رأيا فقهيا، فحاول الدكتور حمزة النهيري، الانتصار إليه ورد الاعتبار العلمي لرأيه، مذكرا برسوخ قدمه في العلم والفقه والأصول والمقاصد، مشيرا إلى انه حرر فتواه في جواز صلاة التراويح خلف التلفاز ووسائل الاتصال الحديثة من خلال الاعتماد على قواعد الفقه والأصول المعتبرة وعلى منهج التخريج في فروع مالك، وأن آراء مخالفيه، الشيخ محمد الروكي، والشيخ مصطفى بن حمزة، لم تحرر المسألة تحريرا علميا دقيقا، وإنما جنحوا إلى القول بالمنع احتياطا وسدا للذرائع، وأن حجتهما في المنع لا ترقى إلى قوة رأي الفقيه آيت سعيد.
في الخلفيات الأخرى للخلاف
واضح أن الخلاف بين الفقهاء في مسألة صلاة التراويح خلف التلفاز ليس مرتبطا فقط بتحرير الرأي الفقهي وتكييف المسألة وتخريج أصولها في المذهب وتخريجها على القواعد، وإنما ثمة اعتبار آخر مرتبط بالسياسة، كان الشيخ مصطفى بن حمزة أقرب إلى اعتباره والتفطن إليه، ولم ينتبه إليه الشيخ العلامة الحسين آيت سعيد إلا في استدراكه الذي قيد به رأيه بجملة احتياطات وتحرزات، فالقضية لا تقف عند الجواز من عدمه، وإنما ترتبط ببنية السياسة الدينية في المغرب، وارتباط الإمامة بنظام إمارة المؤمنين، بدور الإمامة الجامعة في خدمة هذا النظام، والحفاظ على وحدته وتماسك خطوط سياساته، فلو تم السماح بتغيير قاعدة الإمامة، وإحداث إمامة افتراضية، لتغيرت قواعد العلبة في السياسة الدينية، من حيث كونها قائمة على ثوابت عقدية ومذهبية، وترعى سياسة الدولة، وتحافظ على الأمن الروحي، وتضمن الوحدة الدينية للمغاربة، وأي تغيير في طبيعة الإمامة سيمس هذا البنيان من أساسه.
دعاوى إسقاط الصيام بسبب الجائحة.. هل لها ما يسّوغها؟
الأردن.. عالم تفسير يثير جدلا حول أحاديث الصحيحين
الإشاعة والفكر التضليلي زمن كورونا.. الجزائر نموذجا