قبل أكثر من عشر سنوات، استطاعت
جزيرة صغيرة في المحيط الأطلسي أن تعطي دروسا للعالم في كيفية إدارة أزمة مالية
عالمية ضربت مختلف الاقتصاديات عام 2008. وبعد جائحة كورونا (كوفيد- 19) قدمت
تجربة متميزة في التعامل مع الوباء تختلف عن تجارب بقية دول العالم. ولكن يبدو أن
الجوار الجغرافي الأوروبي الذي تنتمي إليه آيسلندا لم يستفد من هذه التجربة بنفس
الطريقة التي تجاهلتها بها الدول الأخرى، لأنها ببساطة غردت خارج السرب الاقتصادي
والسياسي السائد دوليا.
يقترب العالم الآن من نفس ظروف
الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008، إن لم يكن قد دخلها بالفعل دون أن نشعر،
ولهذا فإننا بحاجة لاستخلاص دورس تجربة آيسلندا الناجحة في التعامل الاقتصادي معها
بعد مرور عقد كامل على خروجها من عنق الزجاجة أكثر تعافيا. ويكمن السر ببساطة في
أن البلاد قررت أن تغير وتحاسب السياسيين وليس فقط السياسات، أيضا أن تنقذ أموال
الناس وليس أموال البنوك.
كانت أولى خطوات التعافي الاقتصادي
هي رفض ما يمكن تسميته بالاقتصاد المزيف؛ هذا الذي يعطي مؤشرات واعدة لا تنعكس
بالضرورة على حياة الناس ومعيشتهم. يكفي أن نعرف أن تقرير الأمم المتحدة عن
التنمية البشرية عام 2007 قد صنف آيسلندا كأفضل بلد يمكن أن يعيش فيه الإنسان مع
انخفاض كبير في معدلات البطالة ونصيب خيالي للفرد من الناتج المحلي الإجمالي. حدث
كل هذا والبلاد على مرمى حجر واحد من أسوأ أزماتها الاقتصادية.
غامرت آيسلندا ورفضت النصائح
الجاهزة والمعروفة لصندوق النقد والبنك الدوليين، وبدلا من أن تنقذ البنوك المعرضة
للإفلاس، ضمنت فقط ودائع المواطنين وتركت المؤسسات المالية تواجه مصيرها نحو
الإفلاس. هل تفقد بذلك البلاد سمعتها الاقتصادية في سوق المال العالمي بعد هذه
المغامرة؟ بلى، هكذا قررت البلاد أن تضحي بهذه السمعة المزيفة بعد تهديدات الاتحاد
الأوروبي والولايات المتحدة بعدم إعطائها قروضا والمطالبة بديونها المستحقة فورا.
اختار الشعب حينئذ حكومة يسارية
جديدة رفضت خطط التقشف التي تتغنى بها الدول الكبرى، ولم تنزلق البلاد لأية حلول
اقتصادية ذات مخاطر اجتماعية عالية. وبدلا من ذلك قدمت الدعم للفقراء والفئات
المهمشة، وراهنت الحكومة على تحسين الاقتصاد عبر رفع مستوى الخدمات الصحية والتعليمية
لتصبح رائدة وفقا للمعايير الدولية. وكانت المفاجأة التي أذهلت الجميع أن البلاد
نجحت في غضون سنوات قليلة في أن تخفض من الانكماش الاقتصادي وتعود للنمو السريع.
التغريد خارج السرب بقي عالقا في
أذهان الشعب والمسؤولين هناك عند ظهور جائحة كورونا، إذ قررت البلاد إجراء فحوصات
على عشرة في المئة من السكان، بالإضافة لاتباع سياسات العزل والتباعد الاجتماعي.
وهي نسبة فحص كبيرة نسبيا ترفض حتى الآن كثير من الدول الغنية أن تطبقها بسبب
تكلفتها العالية، ولأنها ببساطة على عكس الأولويات الاقتصادية لهذه الدول التي تضع
المال قبل الإنسان والبنك قبل المستشفى.
سياسة مواجهة الوباء في آيسلندا بدأت
مبكرا مع أواخر كانون الثاني/ يناير وأوائل شباط، فبراير الماضيين، الأمر الذي أدى
لأن تكون البلاد في مقدمة الدول التي تعلن محاصرة الوباء والتحكم فيه. وهي سياسة
منسجمة مع فلسفة البلاد الجديدة التي تضع الرعاية الصحية في مقدمة أولوياتها
الاقتصادية والاجتماعية والتنموية. ولهذا جاء الوقت الذي تحصد فيه غراس ما حصدته
قبل أكثر من عقد من الزمان.
تحتاج دول العالم اليوم وأكثر من
أي وقت مضى للتعلم من تجربة آيسلندا، وخاصة الدول العربية والإسلامية. فإن فاتتها
الاستفادة من تجربة هذا البلد عام 2008 مع الأزمة المالية العالمية وتجربته مطلع
هذا العام مع وباء كوفيد- 19، فليس أقل من الاستفادة مما هو قادم في الخيارات
الاقتصادية في ظل حالة اللايقين المتفشية حاليا.
twitter.com/hanybeshr