لا أحد كان يتوقع أن العالم، وفي وقت قصير ومحدود، سيجتاحه وباء كثيف الانتشار، لا يميز بين الأعمار، ولا بين الديانات، ولا بين الألوان واللغات، ولا بين المواقع الاجتماعية والسياسية. إنه جائحة كما نعتته المنظمة العالمية للصحة في بيان رسمي، وكما دأبت وسائل الإعلام بكل أنواعها على تداول الحديث والكتابة عنه.
ليس لهذا الوباء حسنات، له أضرار فقط، وينبه البشرية إلى ما يجب أن تستخلص منه من دروس وعبر. فالجائحة حصدت حتى الآن 248.346 شخصا، وأصابت ثلاثة ملايين و568.143 إنسانا على امتداد 193 دولة، وتعافى منه مليون و157.278 شخصا حتى صبيحة هذا اليوم، كما وُضع مليارات الناس من بلاد المعمور في وضع حجر منزلي وتباعد اجتماعي. والقائمة مفتوحة، ولا أحد يعرف على وجه اليقين كيف ستؤول الأمور، الله وحده في ملكوته له أصدق المعرفة وأحق ّاليقين.
لعل الضرر اللاّفت لوباء "كوفيد- 19" إلزام البشرية بتغيير نمط عيشها، والتفكير في اعتماد أساليب وطقوس اجتماعية جديدة لم تعرفها من قبل. ففي غياب لُقاح حتى الآن، اعتمدت الدول والحكومات في نطاق تدبير الأزمة سياسات بديلة مسّت جوهر ما دأب الناس على اعتماده في حياتهم اليومية والعادية. فقد فُرض عليهم الحجر المنزلي، والتباعد الاجتماعي، وهو ما يعني إفراغ نمط حياتهم السابق من جوهره وقوامه.
الضرر اللاّفت لوباء "كوفيد- 19" إلزام البشرية بتغيير نمط عيشها، والتفكير في اعتماد أساليب وطقوس اجتماعية جديدة لم تعرفها من قبل
وتنفيذا لهذا ساد صمت القبور على المدن، وتحولت المؤسسات والمرافق إلى أمكنة مهجورة، وأقفلت المطاعم والمقاهي والفنادق، ودور السينما، والمتاحف والحدائق والمتنزهات أبوابها، وأصبح الإنسان الذي ناضل من أجل الحرية وإطلاق العنان لرغباته، سجين بيته، يتنقل من غرفة إلى أخرى، إن كان في بيته متسع من الغرف، أما الذين لا يتوفر لديهم سكن لائق، فضاقت صدورهم، وضاعفت الجائحة معاناتهم، وتفاقمت أزماتهم المادية والاجتماعية والنفسية.
ولم تطل أضرار الوباء هذه الفضاءات الأساسية في حياة الإنسان، بل امتدت إلى مجالات لا تقل أهمية عنها، أي تلك المتعلقة بالأمن الروحي والديني. فقد سُدّت بيوت الله، ولم نعد نسمع سوى الأذان دون مصلين، بل حلّ الشهر الفضيل رمضان، وحظر الوباء على المسلمين إقامة الصلوات في أماكنها الطبيعية. والأمر نفسه في ديانات أخرى، فقد أقام البابا قداساً وصلاة لوحده دون حضور التابعين من ديانته.
ثم إن خدمات مهمة، كنا نعتبرها بسيطة، والحال أنها ليست كذلك، سرعان ما فرض الوباء في قمة تصاعده إيقافها، وإقفال أماكنها التجارية، من قبيل صالونات الحلاقة، وورشات إصلاح السيارات والمركبات، ومحلات بيع الالكترونيات، وأماكن تنظيف وكيّ الملابس، وحدها متاجر أو "مولات" بيع الأغذية بكل أنواعها ظلت مفتوحة بشكل محدود وضمن إجراءات احترازية دقيقة.
ففي الإجمال، فرض الوباء نمطا للعيش يصعب تحمّله لوقت طويل، لذلك بدأت تطفو مظاهر القلق والتذمر من هذه السياسات على ألسنة العديد من الناس، بل إن بعضهم شرع في التمرد عليها، وآخرون تظاهروا من أجل رفعها.
لكن كما يُقال "ربّ ضارة نافعة". فالوباء بطبيعته ضار، وهو الضرر بعينه، وكما أسلفت ليس له حسنات على الإطلاق، غير أنه قادر على أن يفتح عيون العالم والبشرية على ظواهر كثيرة لم نكترث إليها، أو لم يُعرها العقل الأهمية اللازمة والمطلوبة.
فأول درس يمكن استخلاصه من هذه الجائحة يتعلق بضرورة الزيادة في الاستثمار في الإنسان، وتحديدا في ما يحفظ بدنه (الأمن الصحي)، ويُنمي عقله وإدراكه (التربية والتعليم). ومن أفضال الاستثمار في الصحة والتعليم إعداد المواطن القادر على مواجهة الأزمات والكوارث الكبرى، كما هو حال هذا الوباء، فمهما كانت إرادة الدولة وحزم مؤسساتها في صياغة سياسات لتدبير الأزمات الكبرى، يتوقف نجاح ما تقوم به على تجاوب المواطنين وانضباطهم، ومناصرتهم باقتناع لمثل هذه السياسات، وهذا لا يحصل ولن يحصل كما يجب، وكما هو مطلوب، إذا كان إعداد المواطن ناقصا أو معطوبا.
درس آخر جدير بالاهتمام لمواجهة مثل هذه الجائحة، يتعلق بتكاتف الجهود الدولية من أجل التغلب على الوباء وآثاره وأضراره، وتجنب الملاسنات والتجاذبات السياسية
هناك درس آخر جدير بالاهتمام لمواجهة مثل هذه الجائحة، يتعلق بتكاتف الجهود الدولية من أجل التغلب على الوباء وآثاره وأضراره، وتجنب الملاسنات والتجاذبات السياسية التي لا تُجدي نفعا أمام هول
الكوارث والأوبئة. فقد تبين واضحا منذ بداية هذا الوباء أن النزوعات الفردية، والبحث عن حلول قُطرية وليس عالمية تضامنية هو الغالب على مواقف الدول وسياساتها، وهو ما لم يمنع دولا بعينها من التعبير عن هذه النزعة الفردية في العالم؛ أشار إليها صراحة الرئيس الكرواتي حين انتقد الاتحاد الأوروبي وأوروبا عموما التي تنكرت لبلده. وعبرت إيطاليا، التي تضررت في بداية الوباء بشكل أكبر وأخطر من غيرها، عن نسيان حلفائها في الاتحاد لها، وتركها وحيدة ينهش فيها الوباء، ويضرب بقوة الشمال الذي يشكل عصب اقتصادها. والأمر نفسه يلاحظ على مجمل الأقطار الأوروبية المتضررة من الوباء. وحتى أمريكا ما وراء الأطلسي استصغرت الوباء أولا على لسان رئيسها، قبل أن تجد نفسها عاجزة (رغم قوتها) عن التحكم فيه، والحدّ من أضراره الخطيرة.
ربما يحتاج العقل البشري، وهذا هو الدرس الثالث، إلى إعادة النظر في تكوينه، ومصادر تفكيره واشتغاله، فقد أنجز خلال القرون السالفة فتوحات مهمة وذات قيمة كبيرة، غير أنه استمر ينحرف شيئا فشيئا عن قيمة الإيمان وبوصلة الأخلاق، فوصل إلى ما وصل إليه. لذلك، يحتاج عقلنا الجمعي إلى جرعة أكبر من الإيمان والأخلاق كي نرشّد أفعالنا وفتوحاتنا، بما يخدم البشرية، كل البشرية.