عندما هبت رياح الثورات العربية أواخر كانون الأول (ديسمبر) 2010، وكانت أصداؤها تتردد عبر وسائل الإعلام في صور إبداعية وغير مسبوقة لا في الشارع العربي الحديث والمعاصر، ولا في وسائل إعلامنا التقليدي منها والحديث.. لم يكن أحد يتوقع أن أصناما سياسية بحجم أنظمة قوية على غرار نظام الراحل بن علي في تونس، ولا الراحل معمر القذافي ولا نظام الراحل صالح في اليمن ولا نظام مبارك صاحب العلاقات القوية مع الولايات المتحدة الأمريكية أن يرحلوا بتلك السهولة.
ولم يكن يجول في خاطر أكثر المتفائلين بمستقبل الانتقال الديمقراطي في منطقتنا العربية، أن تلك الرياح الشعبية ستنفض الغبار من جديد عن أسئلة كبرى ظلت معلقة في تاريخنا العربي والإسلامي، تتصل بالحكم ومشروعيته، وعلاقة النقل بالعقل، وتحيي معارك سياسية وفكرية وأيديولوجبة خلناها مضت مع سنوات النهضة العربية الأولى مطلع القرن العشرين..
ثم جاءت الجائحة المستجدة المنطلقة تفاعلاتها من شرق المعمورة، قبل أن تعم مختلف قارات العالم، لتدفع بالسياسة والفكر وتوابعهما إلى مزيد من التشظي السياسي والفكري، إذ كيف يعجز العقل المعاصر، الذي استطاع اختراق كل المجاهيل العلمية في مواجهة فيروس فتاك لم يعرفوا له دواء إلى يوم الناس هذا؟
وهو تحد علمي في ظاهره، لكنه في باطنه حضاري بامتياز، يتصل ليس فقط بالمشهد الدولي الذي يمكن أن ينشأ عن نتائج هذا الفيروس من حيث حجم الضحايا والجهات التي ستسبق لاختراع دواء له، وإنما أيضا بالقوى الفاعلة في هذا المشهد..
الكاتب والإعلامي بسام ناصر، يستعرض في هذا التقرير الخاص بـ"عربي21"، مع نخبة من المشتغلين بالفكر والدين والسياسة في العالم العربي، تداعيات هذا المشهد من زاوية علاقته بسؤال النهضة العربية، أو قل من مدخل قدرة العالم العربي والإسلامي على مواجهة مثل هذه التحديات، على اعتبار أن التطورات المعاصرة على جميع المستويات ليست منبتة بالكامل عن إرث إنساني موغل في التاريخ.
الإصلاح الديني مجددا
تثير أسئلة النهضة في غالب الأحيان الجدل حول مفهوم الإصلاح الديني، في أوساط من يرفضون اعتبار الدين عائقا أمام تحقيق النهضة، كما تلح على ذلك غالب الاتجاهات العلمانية، لكنهم يرون أن كثيرا من الأفهام الدينية التقليدية المتوارثة هي التي تعيق إنجاز التقدم والتحديث والمدنية، وهو ما يوجب إحداث الإصلاح الديني المطلوب كمقدمات أولية لازمة في مشروعهم الإصلاحي.
وهذا ما تجلى في تجربة الإصلاح الديني التي رفع لواءها، جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ومحمد رشيد رضا أواخر القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين، ومع أن شيوخ تلك المدرسة وروادها يجتمعون بشكل عام على قضية التجديد الديني، إلا أن لكل واحد منهم رؤيته في ترتيب سلم أولويات ما يجب الاشتغال به من قضايا الإصلاح.
تمركزت أفكار ذلك الاتجاه على الإصلاح السياسي والإصلاح التعليمي والتربوي والإصلاح الديني، وبحسب باحثين فقد ركز الأفغاني على الإصلاح في جانبه السياسي، واشتغل محمد عبده بالإصلاح في ميادينه التعليمية والتربوية، وجمع محمد رشيد رضا بين الاشتغال بقضايا التجديد الديني والاهتمام بقضايا العالم الإسلامي السياسية.
وحدد الأفغاني رؤيته بشأن الإصلاح الديني بقوله: "إن حركتنا الدينية بالدعوة إلى القرآن كناية عن الاهتمام بقلع ما رسخ من عقول العوام ومعظم الخواص من فهم بعض العقائد الدينية والنصوص الشرعية على غير وجهها، مثل حملهم نصوص القضاء والقدر على معنى يوجب عليهم أن لا يتحركوا إلى طلب مجد أو تخلص من ذلك، ومثل فهمهم لبعض الأحاديث الشريفة الدالة على فساد آخر الزمان أو قرب انتهائه فيما يثبط هممهم عن السعي وراء الإصلاح والنجاح مما لا عهد للسلف الصالح به".
وهو ما ركّز عليه الشيخ محمد عبده في بيانه لأبرز ما يدعو إليه في مجال الإصلاح الديني: "وارتفع صوتي بالدعوة إلى أمرين عظيمين: الأول: تحرير الفكر من قيد التقليد، وفهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كسب معارفها إلى ينابيعها الأولى".
ومن الملاحظ أن مبررات ودواعي نشوء ذلك الاتجاه الإصلاحي، ما زالت ذاتها دافعة لنشوء تيارات إصلاحية وتجديدية في عالمنا الإسلامي، فالاستبداد السياسي ما زال مستشريا، وترهل السياسات التعليمية والتربوية وعقمها هو السائد، والتخلف والتبعية والضعف هي الصبغة الدائمة، وعجز الخطاب الديني عن التحرر من قيود التقليد، والاستغراق في قضايا خلافية تاريخية جذرت انقسام الأمة، وأقعدتها عن النهوض لمواجهة تحديات اللحظة الراهنة هو العنوان الأبرز في الحالة الدينية، ما يعني أن تجربة تلك المدرسة الإصلاحية التجديدية ما زالت قادرة على إمداد دعاة تجديد الخطاب الديني المعاصرة برؤى وأفكار جوهرية وهامة لإنجاز مشاريعهم التجديدية والإصلاحية.
اتجاهات مدرسة المنار
عُرفت مدرسة المنار باحتفائها الكبير بقضية الإصلاح الديني، وسعيها الدؤوب لنقل الفكر الديني من حالة الجمود التي سيطرت عليه لعقود طويلة، والتي تمثلت بغلق باب الاجتهاد لعقود طويلة، ومنع العقل من ممارسة دوره في فهم نصوص الشريعة والاجتهاد بما يواكب العصر ويعالج قضاياه ومشاكله، وهو ما دفعها إلى رفع لواء التوفيق بين الدين والعلم، ودرء أي تعارض بينهما.
وكان لافتا مدى اهتمام شيوخ تلك المدرسة، بإعلاء شأن العقل، وإعماله في فهم الشريعة والواقع معا، حتى وُصف شيوخها الكبار، جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ومحمد رشيد رضا بـ"معتزلة العصر"، وقد كان لهم عناية شديدة، بتناول الجانب الحضاري، وفلسفة التاريخ، وأسباب نشوء الحضارات وانهيارها، وعوامل نهوض الأمم وسقوطها، إضافة إلى دورها الكبير في مراجعة التراث ونقده.
وشاع عن شيوخ مدرسة المنار تأويلهم لبعض المعجزات الوارد ذكرها في القرآن الكريم، بتقديم تفسيرات تنزع عنها صفة الخوارقية والإعجاز، وتدرجها ضمن أقوال وتفسيرات يتقبلها العقل، وتتماشى مع مألوفات الوقائع بإرجاعها إلى أسباب مادية معروفة، وهو ما دفع المفكر الإسلامي سيد قطب إلى وصف سلوك تلك المدرسة بأنه يجنح إلى "رد الكثير من الخوارق إلى مألوف سنة الله دون الخارق منها، وإلى تأويل بعضها بحيث يلائم ما يسمونه "المعقول" وإلى الحذر والاحتراس الشديد في تقبل الغيبيات" وهو ما انتقده بشدة في معرض تفسيره لسورة الفيل.
من أبرز المعجزات والعقائد الدينية التي أولتها مدرسة المنار إلى معان مغايرة للمقرر في المنهجية الإسلامية الأصولية، تأويل الطير الأبابيل المذكور في سورة الفيل بالبعوض والذباب، وحجارة السجيل بميكروبات الجدري والطاعون، ونفي قتال الملائكة إلى جانب الرسول والصحابة في معركة بدر، وأن نزولهم لا يعدو أن يكون تثبيتا وبشرى، وإنكار حادثة انشقاق القمر، وأن الانشقاق سيقع مستقبلا بين يدي الساعة..
رشيد رضا أبرزهم
يتناول الباحث في التاريخ والحضارة الإسلامية، محمد إلهامي الأفكار الأساسية التي دعا إليها شيوخ ذلك التيار، منبها إلى أن "مدرسة المنار تُعد علما على الشيخ رشيد رضا، وليس صحيحا إدراج الأفغاني وعبده فيها، فهما سابقان على تدشين المنار، ومع ما بين الرجال الثلاثة من العلاقة الوثيقة إلا أن لكل منهما ما يختص به بحيث يعد إدراج الثلاثة تحت عنوان واحد ليس مقبولا إلا بكثير من التجوز والتساهل".
أما الأفغاني، بحسب إلهامي، "فقد كانت عنايته بالنضال السياسي والحركي، وتثوير الشعوب الإسلامية ودفع الاحتلال عنها، وإيقاظ همتها وتوحيد كلمتها، وإصلاح حال ساستها أو الثورة عليهم، وشغل هذا الجانب حياته كما شغل عموم مؤلفاته، فهو إما ساعٍ في إصلاح الحكم والسياسة، وإما ساعٍ في تثوير الشعوب على الفساد المتأصل فيها، وهو الفساد الذي كان في ذلك الوقت يمهد الطريق للاحتلال الأجنبي، ولقد توقع الأفغاني قبل موته أن الاحتلال سيعم الديار الإسلامية وهو ما تحقق بالفعل بعد وفاته".
وبيّن إلهامي في حديثه لـ"عربي21" أن "محمد عبده بدأ حياته صوفيا متدينا حتى قابل الأفغاني فانبهر به وانخرط في طريقه الإصلاحي وطريقته الثورية، إلا أنه بعد إخفاق الثورة العرابية تعرض عبده لصدمة الهزيمة التي دفعته لتبني طريق يخالف طريقة شيخه، حيث آمن أن النهضة إنما تقوم بالتربية وإصلاح التعليم، ومن ثم توجهت عنايته لإصلاح المناهج التعليمية ومحاولة البحث عن الشخصيات التي يمكن العناية بها لتكون قيادات إصلاحية مستقبلا".
وأضاف: "وأدّاه هذا الطريق إلى التصالح مع السياسات القائمة والحكومات المتغلبة مهما تكن ولو كانت الاحتلال الإنجليزي نفسه.. لذلك فقد كانت له علاقة جيدة بكرومر، وحاول كل منهما توظيف الآخر في مشروعه.. إذ حاول عبده التسلل من خلال هذه العلاقة لإصلاح الأزهر والتعليم والإفتاء بما يؤهل الأمة لاكتساب القوة، وحاول كرومر توظيف عبده في هدم مكانة الأزهر وزرع الشقاق فيه، وتمرير ما يمكن من الحداثة والتغريب في البنية الأزهرية".
واعتبر إلهامي سعي عبده في توظيف علاقته بكرومر بأنه "كان مخلصا وصادقا في اجتهاده، وحريصا ألا يكون ذراعا للإنجليز، إلا أنه كان أقل ذكاء كما أنه كان أقل قوة ونفوذا من كرومر، فكانت المحصلة النهائية في صالح مشروع كرومر".
وعن مشروع الشيخ رشيد رضا أوضح إلهامي أنه "لم يترك السياسة كلية كشيخه محمد عبده، ولكنه لم ينخرط فيها كل الانخراط كشيخ شيخه الأفغاني، وإنما كانت له مشاركات سياسية معدودة، واهتمام سياسي واسع وتفاعل دائم مع ما يموج به العالم الإسلامي، إلا أنه غلب عليه مع ذلك كله الهمّ العلمي والدفاع عن الإسلام في وجه المتغربين والنصارى والإنجليز، وكان وحده همة عالية سامقة يقف كالجبل أمام مؤسسات تعليمية وإعلامية مدعومة من الاحتلال الإنجليزي ومن قصر الخديوية والملكية المصري، ومن العلمانيين الأتراك والقوميين العرب".
ووصف رضا بأنه "كان فارسا عظيما، وكان شيخ الإسلام الأشهر في الثلث الأول من القرن العشرين، ولذلك كله فقد كان أغزر علما بالشريعة من شيخه، وشيخ شيخه، وكانت مجلته المنار هي مجلة العالم الإسلامي الكبرى، ومنذ وفاته لم تبلغ مجلة، بل ولا قناة تلفازية المكانة التي بلغتها المنار في عصرها" على حد قوله.
عن العلاقة بين الإصلاح والنهضة
من جهته رأى أستاذ الفقه الإٍسلامي وأصوله، بدار الحديث الحسينية للدراسات العليا بالمغرب، الناجي لمين أن "العنوان الأبرز لمشروع مدرسة المنار هو رفع شعار الإصلاح الديني والنهضة، والتمس لذلك عدة مقاربات، أخطرها تفكيك القواعد والأصول التي تُفهم بها الشريعة باعتبارها اجتهادا بشريا، فجعلتها مرنة إلى درجة السيولة، فهي تأخذ منها ما تريد، وتترك منها ما تريد".
وواصل حديثه لـ"عربي21" بالقول: "فهي تأخذ الأصل عندما تحتاجه وتشكك فيه عندما يقف عائقا أمامها، وأحسن مثال لذلك هو أصل الإجماع.. فكان من نتائج ذلك بروز اللامذهبية وإنكار المؤسسات العلمية، واعتبار العلماء عائقا أمام النهضة والإصلاح، واستُثمِر في هذا السياق كلام واجتهادات بعض علماء الإٍسلام، كالشيخ ابن تيمية، وابن القيم والشوكاني والقنوجي والصنعاني، وسبب اختيار ابن تيمية على وجه الخصوص أنه أعاد النظر في جل العلوم الإسلامية".
وتابع: "لكن هذا الإصلاح تمثل فقط في شغل الناس بإعادة النظر بقضايا مضت وفُرغ منها، ولا يتوقف عليها عمل، مثل: انشقاق القمر، ورفع عيسى عليه السلام ونزوله آخر الزمن، وبعض القضايا الفقهية المتعلقة بما سمي الأحوال الشخصية، كمسألة الطلاق الثلاث في كلمة واحدة، ومسألة الطلاق بيد الزوج، والوصية الواجبة في المواريث".
وانتقد الأكاديمي المغربي، الناجي لمين توجهات مدرسة المنار بأنها كانت متأثرة كثيرا "بالحضارة الغربية، واعتبارها المرجعية الحقيقية لها، مع التأثر بالفلسفة المادية، وأن ما توصل إليه العلم الحديث واجب الوجود والبقاء، ويجب الاحتكام إليه حتى في الغيبيات، وهو ما دفع العلماء للتصدي لأطروحات هذه المدرسة، على رأسهم علماء الأزهر الشريف، مثل الشيخ يوسف الدجوي الملقب بفيلسوف الأزهر، وكذلك بعض كبار علماء الأتراك، كالشيخ الكوثري، والشيخ مصطفى صبري".
ولفت إلى أن مدرسة المنار "أسهمت في نشر التدين على نطاق واسع من خلال السلفية المعاصرة والحركات الإسلامية، لكنه تدين ليس له مرجعية مذهبية راسخة في تاريخ المسلمين، وإنما تدين معتمد على كتب مدرسة المنار التي حاولت أن تتخطى في زعمها الخلافات المذهبية، وتجمع الناس على كتب عقدية وفقهية مختصرة، وسهلة المأخذ، فنشأت بسبب ذلك خصائص ثقافية غريبة على الثقافة الإسلامية الموروثة".
ووفقا للمين فإن "من أهم تلك الخصائص "تصنيم" الأشخاص وإعادة النظر في المفروغ منه، والميل إلى اتباع الشاذ من الأقوال، والتقليل من شأن العلماء الحقيقيين الذي وُصفوا بـ"التقليديين" والمتعصبين للمذاهب العقدية والفقهية، وكان للحركات الإسلامية وبعض الاتجاهات السلفية الحديثة الأثر الأقوى في نشر هذه الثقافة، حيث أنشأوا جيوبا داخل المجتمع تكن العداء لكل أفراده ومؤسساته (التقليدية) وتاريخه ورموزه، فاعتادوا على وصف الأشاعرة والماتريدية بالمبتدعة، وعلماء الإسلام بالمقلدين" وفق وصفه.
إصلاح التعليم أولا
بدروه قال مدير مركز شؤون العالم الإسلامي بالجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا، وليد فارس: "كان هدف مجلة المنار واضحا منذ أول يوم وفق صياغة رشيد رضا نفسه حينما قال (إن معالجة قضايا التربية والتعليم ونشر الأفكار الصحيحة لمقاومة الجهل والأفكار الفاسدة التي فشت في الأمة كالجبر والخرافات، هي الباعث لي على إنشاء هذه الجريدة، وإنني أسمح أن أنفق عليها سنة أو سنتين من غير أن أكسب شيئا)"، ما يعني أن المجلة باعتبارها امتدادا لتيار الإصلاح الديني كانت صاحبة رسالة تربوية أساسا في تجديد الفكر الإسلامي.
وأردف: "كانت مجلة المنار نذير الوعي في العالم الإسلامي، ولم تنس وصاحبها الشيخ رضا أن أغلب الدول الإسلامية كانت في ذلك الوقت ترزح تحت الاحتلال الأجنبي مع ضعف الخلافة العثمانية في ذلك الوقت، وتراجع دورها في العالم الإسلامي".
وأشار فارس في تصريحاته لـ"عربي21" إلى أن المجلة الوارثة لرسالة تيار الإصلاح الديني "أثبتت وجودها في ذلك الوقت، وتوسع تقدير الناس لها، وظهرت حاجة المسلمين في كل مكان لمثل هذا الطرح الجديد المتوازن الواعي، فتواردت عليها الأسئلة والاستفسارات من كل مكان، الهند واليابان وبلاد جاوة (ماليزيا وإندونيسيا لاحقا)، إضافة لدول العالم العربي ودول السلطنة العثمانية، وهو ما يكشف عن أثرها الواسع بمجهود فردي ودون دعم من أحد، ما يظهر أهمية رسالتها الإصلاحية".
وعن مضامين المدرسة الإصلاحية التي توجت بتجربة مجلة المنار أكدّ فارس أن "المجلة مثّلت قراءة متوازنة للإسلام بعيدا عن الاتجاه العقلي المتشدد، أو الاتجاه النصي المتشدد، أو توجهات خرافية متوغلة في الخرافات والشطحات، ذلك أن الشيخ رضا مر بكل المدارس في وقته، فقد بدأ مع التصوف، ولازم حلقات العلم التقليدية في الشام ومصر، وكذلك تتلمذ على مدرسة الإمام محمد عبده التي كانت تميل إلى المدرسة العقلية".
وأشار إلى أن "الشيخ رضا اطلع على التراث السلفي متمثلا في كتابات ابن تيمية، وأعمال محمد بن عبد الوهاب، فكان هذا الخليط المتوازن في النظر إلى نصوص الإسلام بلا إفراط ولا تفريط، ونظرا لاستقلاليته الفكرية، واستقلالية مجلته عن كافة الهيئات والمؤسسات والجمعيات والجماعات الرسمية وغير الرسمية، رأى القراء فيها أنها لا تمثل طائفة أو جماعة أو مؤسسة بعينها، وإنما تمثلهم، لذا كان الهجوم عليها من كافة الاتجاهات الصوفية والسلفية والسياسية، لكنها صمدت وأدت واجبها".
منطلقات مدرسة المنار
من جانبه ذكر الباحث الأردني في الفكر الإسلامي، عماد أبو قاعود أن "شجرة مدرسة المنار أثمرت ثمارا يانعة من الطاهر بن عاشور، إلى القاسمي إلى محمد شكيب أرسلان إلى عبد الرازق إلى المراغي ومحمد دراز".
وردا على سؤال "عربي21" حول منطلقات مدرسة المنار في الإصلاح الديني والفكري بيّن أبو قاعود أنها "تنطلق من القرآن الكريم باعتباره مهيمنا وحاكما على غيره من الكتب وإعادة المركزية له، وتفعيل قيمه التي تدعو إلى العقل والتفكر والنقد والسؤال والتسامح وقبول الآخر مهما كان اعتقاده وفكره دون الإحالة على نظرية المؤامرة".
وأردف: "وفي سبيل فهم القرآن الكريم فهما صحيحا وضعت مدرسة المنار النقاط على الحروف، فدعت إلى بيان القرآن الكريم من خلال القرآن ذاته، وذلك من خلال تقاطع الآيات التي تتحدث عن الموضوع ذاته للخروج بنظرية وافية حول الموضوع، فأكدّت على أن الكتاب مبين وميسر للذكر".
وتابع: "كما أن مدرسة المنار وضعت يدها على الجرح حين أكدّت على تخلفنا وتقدم غيرنا، فتدعو إلى التواصل مع الغير بالحكمة والموعظة الحسنة، والإفادة مما عندهم، إلا أن هذا المشروع تم إجهاضه على يد الحركات الإسلامية السياسية لأسباب يطول ذكرها" بحسب عبارته.
وختم حديثه بالإشارة إلى أن دعاة تجديد الخطاب الديني الراهنة يمكنهم الإفادة من تجربة مدرسة المنار باستلهام "جهودها في إعادة المركزية للقرآن الكريم، وجعله حاكما على الروايات مهما كان سندها، وفهمه فهما حضاريا لا فهما أعرابيا، وأن نفهم واقعنا فهما واقعيا، وأن نفعل العقل تفعيلا حقيقيا باعتباره سبيلا لأي نهضة، وأن نؤكد على قبول الآخر المختلف مهما كان حجم اختلافنا معه، وأن نفعل النقد والسؤال ونتقبله دائما"، وفق تعبيره.
تصوير الصدقات.. تحريض على الإنفاق أم إذلال للفقراء؟
كورونا وخيار الدولة الشمولية المنقذة والإكراه المشروع
هل ترويج وصفات علاجية مستقاة من الدين تخدمه أم تضره؟