لا يصطدم المرءُ كثيرًا بروايةٍ يُشير عنوانُها إلى عنوان روايةٍ كتبَها بطلُ الرواية ويفكر في إصدار طبعةٍ ثانيةٍ مُعدَّلَةٍ منها بنفس العنوان، حيث استلهمَ هذا العنوانَ من كتابِ تعليماتٍ كتبه بطلٌ آخر للرواية بنفس العنوان! عن كتاب أمان ياسر عبد الحافظ يصعُب أن نقدِّم موجزًا للحكاية، وذلك أنّ الحكايةَ نفسَها مكسورةٌ عَمدًا ومتشظِّيةٌ بشَكلٍ لا يمكن إغفالُه. لكنّنا رغم ذلك لا نجد بُدًّا من محاولة تقديم هذا الموجَز.
بطل الرواية هو (خالد مأمون)، شابٌّ قارئٌ مثقَّف، فاجأه ذاتَ يومٍ إعلانٌ غريبٌ في الجريدة عن مسابقةٍ تقيمُها جهةٌ غيرُ مُعلَنٍ عن هُوِيَّتِها، لشَغل وظيفةٍ تعتمدُ على براعة السَّرد، وموضوع المسابقة أن يقدِّمَ المتسابقُ قصةَ حياتِه في ما لا يزيد على ثلاثمائة كلمة.
ينجح (خالد) من بين المتقدمين ويعمل كاتبًا للتحقيقات مع محقِّقٍ هو (نبيل العدل) في هذه الجهة الغامضة. يظلّ خالد نفسُه إلى آخر لحظةٍ يجهل طبيعة هذه الجِهة ولا يدري لِمَن ترفعُ تقاريرَها إن كانت ترفعُها إلى أحد. الحدَث الأبرز هو مُثول (مصطفى إسماعيل) أستاذ القانون أمام قاضي التحقيقات، حيث تحوّل هذا الرجُل من أستاذ جامعي محترَم إلى أمهر لِصٍّ في تسعينيات القرن العشرين.
والسؤال الذي لا تجيبُنا عنه الرواية رغم إلحاحه على ذهن البطل الراوي (خالد مأمون) هو: لماذا حدث هذا التحوُّل في حياة مصطفى إسماعيل؟!
احترف الأستاذ اللصُّ سرقةَ بيوت الأغنياء بشكلٍ حصريٍّ، ووصلَ إلى بيوت أهم الشخصيات في مصر، حتى إنه قد راودَته فكرة سرقة بيت رئيس الجمهورية.
وفي محاولتِه الوصول إلى الكمالِ كتبَ مصطفى كتابَ تعليماتٍ هو (كِتابُ الأَمان)، وهو بمثابة مفكّرةٍ له تضُمُّ القواعد الأساسية التي عليه أن يتحرّاها لئلاّ يسقُط في قبضة القانون.
يقع (خالد) فريسةً للإعجاب بمصطفى، ولسببٍ غير واضحٍ تمامًا – كما هي حالُ جملة الأسباب في الرواية – يرفض أن يوقِّعَ بصِفَته شاهدًا قرارَ الإفراج عن مصطفى، رغم أنَّ رئيسَه المباشِر (نبيل العدل) طلبَ منه ذلك بعد أن أبرمَ مع (مصطفى) صفقةً فحواها أن يُسلِّمَه النسخة الأصلية من كتاب الأمان ويحصل في المقابل على حريتِه ويكون له كلُّ ما سرقَه من أموال.
ومِن ثَمَّ يَجِدُ (خالد) نفسَه بعد خمس سنواتٍ من العمل في جهة التحقيقات الغامضة وقد انتهَت علاقتُه تمامًا بتلك الجِهة. أصبح خارجَها!
يقرِّر (خالد) كتابة روايةٍ بعنوان (كتاب الأمان) عن مصطفى إسماعيل، يحاول فيها سَبرَ دوافعِه للتحوُّل الأسطوريِّ من أكاديميٍّ مرموقٍ إلى لِصّ، وينشرُها له صديقُه (أنور الورقيّ) الناشِرُ، بعد أن يقدِّمَ لها بمقدمةٍ تتنصّل من كلِّ بطولةٍ ترسُمُها الرواية لذلك اللِّصّ.
وحينذاك تظهر في الأفُق (حسناء) بنت (مصطفى إسماعيل)، حيث تبدأ علاقةٌ مرتبكةٌ تربطُها بخالد مأمون، فهي ترى أنّ خالد حوَّلَ أباها إلى أسطورةٍ، بينما الحقيقة مختلفةٌ تمامًا عن ذلك.
في إطار رؤية (حسناء) المختلفة يروي لنا (خالد) ذكريات هجرة أبيها سنواتٍ طِوالاً، ثم عودتِه إلى زوجتِه الموظفة بسيطة الثقافة أُمِّ (حسناء)، والعام الذي عاشَته الأُمُّ بعد عودتِه قبل أن تموت في فِراش الزوجية، ثم محاولات الأب العائد للسيطرة على ابنتِه والبرنامج الثقافي الصارم الذي وضعَه لها، ثُمَّ رغبة حسناء في التمرُّد على كلِّ شيءٍ يتعلّقُ بأبيها.
اقرأأيضا : رواية "حياة معلّقة".. حساسية "الفني" وعدوى "السياسي"
رغم استرسال خَيط حكاية مصطفى إسماعيل من البداية إلى النهاية، إلا أنّ حبكاتٍ جانبيّةً أخرى كثيرةً تظهر كُلَّ حِينٍ وتُزيحُها من مكانِها، حتى لكأنَّ مصطفى إسماعيل يتحول إلى مجرد شخصيةٍ ثانويةٍ في اللحظات التي تستبِدُّ فيها هذه الحبكات الجانبيّة بموضوع السَّرد!
هناك مثَلاً خَيطُ الحياة العائليّة لـ(نبيل العدل)، حيث تستعرض الروايةُ شبابَه والفريق الذي كوَّنَه مع ابنة عمِّه (ريهام) لجمع تاريخ العمارة في حي (مصر الجديدة) الذي نشآ فيه وأحبّاه، وكيف تطورَت علاقتُهما إلى أن تزوّجا.
لدينا أيضًا لمحاتٌ من طفولة (نبيل) وتعرُّضِه للتنمُّر من ابن عمِّه ثم ردِّه له الصاعّ صاعَين، فضلاً عن غرامِه بحكاية (هيلانة) أخت البارون (إمپان) مؤسس مصر الجديدة، تلك التي سقطَت من بُرج قصر البارون ميتةً، وهو غرامٌ يمتدُّ إلى قصر البارون نفسِه وكُلِّ تفاصيلِه، حتى لقد سُمِّيَ مجنون قصر البارون.
وهناك خيوطٌ عِدَّةٌ متشابكةٌ في (قهوة المجانين) التي يتردد عليها (خالد). أوّلُها خيط المهندس (أشرف السويفي) الأشقر زير النساء الذي ورِثَ القهوةَ عن أبيه.
وثانيًا، هناك خَيطُ الأستاذ (فخري) محترِف الشطرنج الذي تدور حياتُه في فلَك رُقعة الشطرنج التي أهداهُ إيّاها الملِك فاروق قبل أحداث 23 يوليو 1952 بثلاثةِ أيامٍ، جزاءَ تغلُّبِه في اللعِب على كُلِّ مَن تصدَّوا له من حاشية الملِك وهو بعدُ صبيٌّ، ثُمّ تعادُلِه مع المَلِك نفسِه. وثالثًا هناك (تاليا) البنت الريفيّة القادمة من (تلّ الفراعين/ تل المساخيط) في مدينة دسوق بدِلتا النيل، تلك التي تربَّت في أجواءَ صوفيَّةٍ تُنزِل آلَ البيت النبويِّ منزلةً خاصةً، ثم نزلت القاهرةَ وعملَت في محلِّ حلوانيٍّ وسكنَت مع رفيقتين في شقةٍ مؤجَّرَة، وكيف استدرَجها (السويفي) ثم قررَ (الورقي) الزواجَ منها. وقريبًا من قهوة المجانين، هناك خيطُ مكتبة (سافو) التي يمتلكُها (ديمتري) العجوز اليوناني الذي يحفظ تاريخَ (شبرا) ويتعجّب من التدهوُر الذي أَلَمَّ بحَياةِ المصريين.
وبعدُ، فلدينا خَيط صداقات (خالد مأمون)، تحديدًا صاحبتَه القديمةَ (هُدَى) وصديقَه (لطفي زادَه) و(منال) صاحبةَ لُطفي. في هذا الخيط نعثُرُ على جوانب مُظلِمةٍ من شخصية (خالد)، فهو يتشهّى صاحبةَ صديقِه المتكرر الفشَل في كُلِّ ما يَهُمُّ به، ويُبدي استعدادًا لخيانة (هُدى).
و(لُطفي) نفسُه حكايةٌ أخرى، فهو (مثقَّفٌ) آخَر يتراءى له فجأةً أنّ مشروع حياتِه هو الشِّعر، وبإيعازٍ من (منال) يُقدِم على حفظِ ألف بيتٍ من الشِّعر ليكوِّن قريحةً شِعريةً جيِّدةً – وهي النصيحة الأسطورية المعروفة التي نصحَ بها (خلفُ الأحمرُ) أبا نُواسٍ الحَسنَ بنَ هانئ – لكنّه يفشل في تنفيذ الجزء الثاني المهمِّ من النصيحة، وهو نسيان ما حفِظَه! يتعثّر مشروعُ (لطفي) الشِّعري، وتستقطبُه جماعةٌ إرهابيّةٌ ويُلقَى القبضُ عليه، ولا يعودُ إلى بيتِه إلاّ مُقعَدًا مشلولاً، ويجيء تتابُع المشاهِد الختاميّة في الرواية على خلفيّة إصرار (لطفي) على حضور فلم بعنوان (الحقيقة النهائية) لأميتاب باتشان في سينما (شبرا پالاس) وهو على مقعده المتحرّك الذي يدفعُه (خالد)، بينما الجماهير المصرية محتشِدة في الشوارع المحيطة بالسينما لرؤية موكب زيارة (باتشان) لمصر عام 1991.
تنتهي الرواية بجمع (خالد) لطبعته الأولى من كتاب الأمان، وما كتبه بإلهامٍ من رؤية (حسناء) ليكون الطبعة الثانية، وكل ما يتعلق بقضية (مصطفى إسماعيل) من أوراق، ووضعِه كُلَّ هذه الرزمة في مظروفٍ في الحقيبة السامسونايت الخاصةِ بالأستاذ (فخري)، تلك المحتوية على رقعة الشطرنج الملكيّة، داخل دولابٍ زجاجيٍ في قهوة المجانين، حيث كتب على المظروف بخطّ يدِه "لِمَن يُريدُ أن يَعرِفَني"، وهو نفس عنوان المسابقة التي أَدخَلَته جهة التحقيقات الغامضة التي أسماها (قصر الاعترافات)!
إحالاتٌ متعددة:
تحتشد الرواية بالإحالات إلى رواياتٍ وحكاياتٍ معروفة. ومعظم هذه الإحالات يجيء بلسان الراوي (خالد مأمون). تتابَعُ الإحالاتُ أوّلاً في القصة التي يكتبُها (خالد) عن نفسه ويقدمها في المسابقة. فهو يُخبِرُنا بأنّ أوّلَ مَرّةٍ بكى فيها كانت حين مات فهمي ابن السيد أحمد عبد الجوّاد في ثلاثية نجيب محفوظ، وأول مرّةٍ انتابَه الفزَعُ كانت حين تحوَّلَ (جريجوري سامسا) إلى حشرةٍ في (التَّحوُّل Die Verwandlung) لكافْكا.
أمّا حين قرأَ (ثلاثية نيويورك) لپول أوستر فقد أدرك أنّ "المعاني مختلطةٌ بدرجةٍ غير عاديّةٍ وأنه غالبًا لا قِيمةَ لشيء."
وفي رأيي أنّ هذه الإحالة الأخيرة إلى ثلاثية (أوستر) هي الإحالة المفتاحية في العمل كُلِّه. ثلاثيةُ نيويورك معدودةٌ في الصف الأول من تيّار ما بعد الحداثة المُحتَفي بأدب الجريمة، حيث تتداخل مستويات الحقيقة حتى تضيع تمامًا الحدودُ الفاصلةُ بينها. وهذا بالضبطِ ما يَحدثُ في (كتاب الأمان).
تمضي قصّة حياة (خالد) الموجَزَةُ ذاتُ الكلمات الثلاثمائة مرسِّخةً شعورَه العميقَ بخواء حياتِه، فيبدو لنا إقدامُهُ على التقديم في المسابقة الغامضة فِعلاً أدخَلَ في باب المُغامَرَة، ويبدو التحاقُهُ بقصر الاعترافاتِ ملجأً من هذا الخَواء، لكنّه في التحليل الأخير ملجَأٌ حُلُمِيٌّ تمامًا، فهو لا يعرفُ اسمَ الجهةِ التي توظِّفُه، ولا يعرفُ حتّى مُسمّاه الوظيفيَّ فيها، وحين يقتربُ من أحد زملائه (عبد القويّ) تتضاربُ حكاياتُ الزملاءِ عن هذا الأخير فلا يكاد يقطع بصِحَّةِ أيَّةِ معلومةٍ عنه، ولعلَّ في اسم (عبد القوي) مشروعًا رمزيًّا إلى وضع ذلك الرَّجُل في تلك المنظومة الغامضة، فهو (عَبدٌ) مُخلِصٌ لسُلطةٍ قويَّةٍ تكادُ تكونُ إلهيَّةً في خفائها ولُطفِها، وهو لا يقِلُّ عن تلك السُّلطةِ غُموضًا وتَفَلُّتا. وهو يرُدُّ على الهَمِّ المعرفيِّ المؤرِّقِ لـ(خالد) بتوجيهٍ تقنيٍّ تسليميٍّ أقربَ إلى عِظاتِ المؤمنين: "بدل ما تسأل ماذا نعمل؟ اسأل نفسَك: كيفَ أعمل؟". هل هو مَلَكٌ أمينٌ يعمل في قصر الاعترافات؟!
على لسان الناشر (الورقيّ) نجد إحالةً إلى قصة (نوعٌ آخَر من الجنون) لإحسان عبد القدُّوس، ولا نجد ذِكرًا لأيٍّ من تفاصيلِها هنا، حيث يكتفي الورقيُّ بسؤال (خالد) عمّا إذا كان يعرفُ القصّةَ – وهو بسبيل تبرير غرامِه بـ(تاليا) – ويجيبُ (خالد) إجابةً تَشِي باستخفافه بأدب (إحسان).
اقرأ أيضا : قراءة في رواية "صانع المفاتيح" لأحمد عبد اللطيف
المهمُّ أنَّ تلك القصَّةَ تتحدثُ عن فتاةٍ تحاول الهروب من مصير وراثة عُزلة وشذوذ تصرفات أُمِّها (الذي تسميه القصةُ جنونًا هادئًا)، بأن تغمس نفسَها في كلِّ ما مِن شأنه أن يجعل الآخَرين يتحدثون عن اجتماعيتِها وانطلاقِها، حتى إنها تُبالِغُ في ذلك إلى درجة الجنون، مُثيرةً مشكلاتٍ لا حصرَ لها في البيتِ وخارجَه.
أما (تاليا)، فنعرف من الرواية جملةً من تفضيلاتها الشاذّةِ، فهي تشترط على (الورقيِّ) ثمنًا لقلبِها ساعةَ حائطٍ زرقاءَ بعقاربَ حمراءَ زاهيةٍ يَخرجُ منها على رأس كلِّ ساعةٍ ثلاثةُ عصافيرَ صفراء، وحين يزورُهما (خالد) في بيت الزوجية بعد عامٍ من زواجِهما يراها جالسةً في الشُّرفة كخَيالٍ لا يتحركُ، إلا حركةَ رأسِها كلما مرّت طائرة! ككُلِّ الحبكات (الجانبيّة) في الرواية، تبدو حبكةُ (تاليا) الناقصةُ صالحةً لبناء روايةٍ مستقلَّةٍ عنها، فهي تسمِّي نفسَها اسمًا متمرّدًا على أصولِها الريفيّة، ولا نعرفُ اسمَها الأصليَّ أبدًا، وهي متفرّدةٌ بخصائصِها الجسديّةِ، أطولَ وأنحلَ من بناتِ جنسِها "كما لو كانت غُلامًا مسكونًا بالأنوثة"، ما يدعو (خالدًا) إلى أن يعتقِدَ أنَّ (الورقيَّ) يشتهيها لأنَّ "آخِرَ ما يُريدُه امرأةٌ مُثقَلَةٌ باللَّحمِ تنطَرِحُ خاضِعَة".
في الحقيقة، تجسِّدُ (تاليا) في سياقِ الرِّوايةِ نفسِها (جنونًا من نوعٍ آخَر)، فهي فتاةٌ غريبةٌ في بيئتِها القرَويَّة، يملأُ حياتَها خواءٌ من نوعٍ آخرَ هناك، حيثُ هي محرومةٌ باسم الزُّهد، مُسَيَّرَةٌ باسمِ التقاليد، تهاجِرُ إلى المدينة لعلَّها تجدُ أمانًا من هذا الخَواء، لكنَّ حياتَها في المدينةِ تتمخَّضُ عن خواءٍ آخَر، ولا يبقى منها في مشهدِها الأخيرِ إلاّ تلك الصامتةُ التي تتابعُ شغفَها بالرحيلِ والهِجرةِ مع كلِّ طائرةٍ تمُرُّ فوقَها، حتى إنها اشترطَت كذلك لإتمام زيجتِها من الورقيِّ شقَّةً في (النزهة) قُربَ مَطار القاهرة!
ثَمَّ إحالاتٌ أخرى دالَّةٌ في الفصل السابع عشر من فصول الرواية الأربعة والعشرين، حيث تتخلّص (حسناء) من مكتبةِ أبيها بالكامل، إلا صفحاتٍ مختارةً من كُلِّ كتابٍ، قررت أن تؤلِّفَ من أبرز ما جاءَ فيها كتابًا تسمِّيه (الحقيقةَ النهائيَّةَ)، وهو نفس اسمِ الفِلم الهنديِّ الذي تختتم الروايةُ بالإشارةِ إليه، ولم أُفلِح في الاهتداءِ إليه بينَ أفلام (باتشان)! المهمُّ أنَّ (حسناء) تُحيلُنا إلى مقطعٍ في مدح الحُرِّيّة من (دون كيخوته)، ثم جملةٍ في السخرية من الحُرّية كقيمةٍ مُطلَقَةٍ بلسان (مدام رولان 1754- 1793) إحدى ضحايا الثورة الفرنسية من حِزب الجيرونديِّين المعتدِل، وأخيرًا إلى فقرةٍ من رواية (والِدَة Génitrix) لأديب نوبل فرانسوا مورياك (1885-1970) حيثُ الابنُ الخاضع لسُلطة والدته حتى بعد وفاتِها والمتمرِّدُ عليها في ذاتِ الآنِ يعتادُ استخدامَ مقصِّ أُمِّه في قّصِّ أوراقٍ من طبعةٍ شعبيةٍ لحِكَم الفيلسوف الرواقِيِّ إبِكت Epictetus لاعتقاده أنَّ الكِتابَ المشتمِلَ على أهمِّ الحِكَم منذُ خُلِقَ البشرَ قد يكشف له بطريقةٍ رياضَّةٍ عن سِرِّ الحياةِ والموت.
وتعقِّبُ (حسناء) على ذلك بأنّ "الحياةَ والموتَ ليسل سوى لعبةٍ صغيرةٍ، بعد انتهائها ستبدأ أُخرى. بطلُ مورياك وكثيرون غيرُه مثلُ الأطفالِ ينهارُون بُكاءً عندما تتحطّمُ لُعبتُهم ظَنًّا منهم أنّها الوحيدة. أنا لم أُحدِّد ملامح للحقيقة، لكنّ ظنّي أنّ كتابي لديه قُدرةُ إرشادِ كل شخصٍ إلى حقيقةٍ يبحثُ عنها."
هنا تتوازى مشكلة حسناء وأبيها مع مشكلة (فرناند) ووالدته (فِلِيسيتيه) في روايةِ (مورياك)، ففي العلاقتَين سلطةٌ لا فِكاكَ منها، ورغبةٌ مؤلمةٌ في التَّمَرُّد، وبين قُطبَي السُّلطة والتمرُّد تعاني (حسناء) ذلك الخَواءَ هي الأخرى، وتجرِّبُ أن تصنعَ لنفسِها كتابَ أمانٍ ينقذُها من الخَواء بنفس طريقةِ (فرناند)، أي أن تتعاملَ مع ما قالَه السابقون باعتبارِه صندوقَ دشتٍ يحوي قِطَعَ اللُّغز الذي يختزنُ كنزَ الحقيقةِ، منثورةً بين أوراقِه عديمةِ القِيمة. ومِثلَ (فرناند)، تتوقّفُ حين تكتشفَ عبثَ ما تفعلُه، وتعودُ إلى حياتها الخاوية.
خواءاتٌ وهُروباتٌ أخرى:
لا نكتشف أنّ (لطفي زاده) هو الآخَر متمرِّدٌ على أبيه إلا قُربَ النهاية حين يُقبَضُ عليه ويأتي أبوه الأستاذ (علي) المُعلِّم المهووسُ بالرياضيات إلى (خالد) ليسألَ عن ابنِه. هنا نعرفُ أنّ الرجُل سمَّى ابنَه باسم عالِم الرياضيات الأذربيجانيِّ الإيرانيِّ (لطفي زادَه) مؤسس المنطق الضبابي Fuzzy Logic والرياضيات الضبابية ونظرية المجموعات الضبابية.
يتغلبُ المنطقُ الضبابيُّ على قُصور المنطقِ التقليديِّ عن إعطاء قيمةٍ للقضايا التي يصعُب الحكمُ بصدقِها أو كذبِها، فبينما يُعطي المنطقُ التقليديُّ للقضيّة قيمةَ الصفر أو الواحد فقط، يستطيع المنطق الضبابيُّ أن يعيِّن قيمًا لا متناهيةً لمختلف القضايا حسبَ وقوعِها على متّصِل الصِّدق والكذِب.
ومن الواضح أنَّ هذا الطَّرحَ الرياضيَّ المنطقيَّ يبدو حلاً لأزمة الحقيقة التي تفوحُ من حكاياتِ كتاب الأمان. لكنّ (لطفي) صديق (خالد) يسخر من اسمه المركَّب الغريب الذي اختارَه أبوه، وفي إطارٍ من الخواءِ يحاولُ أن يعثُر على معادلٍ يستطيع امتلاكَه للحقيقة، ويتصادفُ أنّ هذا المُعادِلَ هو الشِّعر، لكنّه يدور في فلَك فشلٍ شبيهٍ بفشل (حسناء)، إذ يجمع شِعرَ الأوَّلِين متصوِّرًا أنه قد ينطلِقُ منه إلى مشروعه الشِّعريِّ الخاص (كتابِ حقيقتِه النهائية)، ثم يظلُّ أسيرًا لمقولاتِهم دونَ أملٍ في الوصول إلى حقيقتِه.
ومن المُثيرِ أن نرى الأستاذ (عَلِيًّا) في ختام الرواية يقابل (حسناء) في منزل (خالد) مصادفةً، فيحدِّثُها عن المنطق الضبابيِّ، و"يلتهي برُجولَتِه عن ابنِه" كما يقول (خالد)، حيث يُغري (حسناء) بالذهاب معه إلى الصحراء في رحلةٍ لاصطياد العدَم! في هذا التَّحوُّل المفاجئِ نجدُ ممثِّلَ المنطق الضبابيِّ الذي كان يبدو حلاًّ وحيدًا لأزمة الحقيقة يتحولُ إلى العبث، كأنّ الجميعَ إزاءَ صيدٍ متفلِّتٍ لا سبيلَ إلى الإمساكِ به.
على صعيدٍ آخر، نجد حكاية (سوسن الكاشف) زوجة أخ (نبيل العدل) التي اقتحمَ (مصطفى) منزلَها بين ما اقتحمَه من منازل، ووجدَ الصُّورةَ التي تحتفظُ بها لنفسِها مع عشيقِها شِبهَ عارِيَين، فعلَّقَها على الحائط بجوار صورةِ زفافِها ليَراها زوجُها فيرتدع عن إبلاغ الشُّرطة بتعرُّضِه للسرِقة خوفًا من الفضيحة.
في هذه الحكايةِ تحاول (سوسن) الهرَبَ مِن خواء حياتها الزوجيّة والاجتماعيّة ككُلٍّ، وهي تنشُدُ الأمان في علاقةٍ بشابٍّ يصغُرُها وهي التي أَغوَته.
هنا نجدُ المرأةَ التي تراود خيالَ أبطالِ الرِّوايةِ بصفتها موضوعًا جنسيًّا تصلُ إلى ذروة هذا التمثيل، حيث تتحولُ الممارسةُ الحميمةُ نفسُها إلى مُعادلٍ للبحث عن الحقيقة، وهي في الوقت ذاتِه انعكاسٌ جسديٌّ لخروج (مصطفى إسماعيل) على القانون. كلاهما يضرب بالمواضعات الاجتماعية و(أمانها الزائفِ) عرض الحائطِ باحثًا عن أمانٍ حقيقيٍّ في السرقة أو الزِّنا، كأنّهما لم يجدا بُدًّا مِن أن يسلُكا تلك السبيلَ المارقةَ إلى العِرفانِ والحقيقة.
شذراتُ النسخةِ الأصلية – ماذا تعني؟!
بين هذه الحبكات الجانبية وغيرِها يتواصلُ خيطُ (مصطفى إسماعيل) من خلالِ شذراتٍ من تعاليم نسختِه الأصليّةِ من كتاب الأمان، تتحدثُ أحيانًا عن أنسبِ الأوقاتِ لاقتحام البيوت، وأحيانًا عن ضرورةِ تجنُّب اقتحامِ بيوت الفقراء لحتميّةِ السقوطِ نتيجةَ تلاحُمِهم وتزاحُمِهم، إلى غير ذلك. وهي شذراتٌ تسبق كُلَّ فصلٍ من فصول الرواية بانتظامٍ، لكنّنا نجهد لاستخراج العلاقة الملتفّة بين الشذرةِ وأحداثِ الفصل التالي لها. هناك مثَلاً تلك الشذرةُ التي تتحدث عن فشل أحد أعضاء شبكة (مصطفى) في فتح باب شقّةٍ وشَدِّ زملائهِ مِن أزرِه طيلةَ شهرَين إلى أن دبَّت فيه الرُّوحُ من جديدٍ وعاودَ عملَه بكفاءة. يتلوها الفصل الخامس عشر، حيث يبدأ بسرد (خالد) لتحوُّل كلمات التشجيع التي استُقبِلَ بها في بداية عمله بقصر الاعترافات إلى كلماتِ توبيخٍ شيَّعَته مطرودًا من القصر، ثم ينتهي الفصل بالحديث عن فشل (لطفي) في كتابة الشِّعر وتحوُّلِه إلى الالتحاق بالجماعة الإرهابية، وبداية الخلافات بينه وبينه (منال) وشماتة (خالد) و(هدى) فيهما.
الشاهدُ هنا أنَّ كتابَ الأمانِ في نسخته الأصليةِ يُطِلُّ علينا من آنٍ لآخَرَ كما لو كان كتابًا مقدَّسًا فشِلَ الجميعُ في تأويلِه. أو كأنّه ذلك الكتابُ المقدَّسُ وقد تعطَّلَ نزولُه من سماواتِه إلى أرضِ (خالد) ودوائر معارِفِه وأصدقائه!
ولعلَّ اسمَ (مصطفى إسماعيل) يُحيلُنا لا محالةَ إلى اسم مُقرئ القرآن الأشهر الشيخ مصطفى إسماعيل من بداية الرواية، ثم يفاجئنا المؤلِّفُ بذِكر هذا التشابُه صراحةً وهو يعرضُ أفكارَ (حسناء) بينما تُراجِعُ اسمَها تحت عنوان كتابها (حسناء مصطفى إسماعيل)، حيث تريد أن يخرج الكتابُ لائقًا باسمِ الشيخ مصطفى إسماعيل، لا بأبيها الذي لا يعرف المجتمع عنه إلا لصوصيَّتَه. وفي تقديري أنَّ (ياسر عبد الحافظ) يُلمِح هنا من بعيدٍ إلى احتمالٍ كامنٍ في اسمِ بطلِه العِرفانيّ، فـ(مصطفى) لقبٌ للنبيِّ، و(إسماعيل) جَدُّ النبيِّ الذي ينتهي إليه نسبُه. هل أراد كاتبُنا أن يجعل بطلَه حاملَ كتابٍ مقدَّسٍ غنوصيٍّ يكسِرُ قوانين المجتمع ومواضعاتِه الزائفةَ ليخلُقَ أمانًا بديلا؟ هل أرادَه نبيًّا للعِرفان؟!
إذا صدقَ هذا، فإنّ اسمَ (خالد مأمون) يُشيرُ هو الآخَر إلى خُلود ذلك الكاتبِ الذي يتردد بن مستوياتٍ عِدَّةٍ من الكتابة، أعن خُلودَه في جحيمِه الأرضيِّ الذي يضربُه الخَواء، وما اسمُ عائلته (مأمون) إلا مُعادِلٌ لسُخريةِ القدَر، فهو مأمونٌ في عجزِه عن اقتحامِ عالَم الأمانِ الذي يطمحُ إليه!
ولدينا الحادثُ الذي يسرِدُه (خالدٌ) عن مراهقتِه، حيث تآمرَ مع أصدقائه على التنمُّر على زميلِهم الذي لم يُبدِ مشاركةً في اهتماماتِهم الذكوريّةِ المفعمةِ بالحركة، وآثَرَ البقاءَ في مكتبة المدرسة منذورًا للكتُب. يقولُ (خالدٌ) إنّ إحساسَه بخيانةِ ذلك الزميلِ ولَّدَ لديه شُعورًا قويًّا بالنَّدَم، ربّما يكونُ حاولَ التكفيرَ عنه طيلةَ حياتِه بالإخلاصِ لعالَم الكُتُب، ولم يُخرِجه من هذا العالَم إلى أرض الواقعِ المَوّارَةِ بالحَرَكَةِ إلا ظهورُ مصطفى إسماعيل. إنه إذَن مُريدٌ خائبٌ، أرادَ أن يحذُوَ حذوَ (مصطفى) وشرَعَ بالفعل يُخَطِّطُ لأولِ سطوٍ يقومُ به على غِرارِ أستاذِه اللصِّ العِرفانيّ، لكنّه ظلَّ أسيرَ الكلماتِ الجوفاء في الكتُب الخاوية.
قلعةُ كافكا وأرضُ الخَوف:
ما لم يُشِر إليه كاتبُنا ضمنَ إحالاتِه المباشِرَةِ كثيرا. لكنّي لا أستطيعُ أن أُغفِلَ مقارنةً بزغَت في رأسي بين ما في (كتاب الأمان) مِن دورانٍ حولَ خواءِ الحياةِ، وما في (الغريب) لألبير كامو من سُخفٍ أصيلٍ مزروعٍ في قلبِ الحياة.
في الروايتَين هناك ذلك العبثُ الذي يَحكُمُ مصائرَ البطلِ ومَن حولَه، لكنّ بطلَ (كامو) ينطلِقُ من أرضٍ إلحاديّةٍ صارمةٍ لا تَلين، فهو لا يَرَى غايةً يمكنُه أن يطمحَ إليها بخلافِ قضاء أيامه مستحرجًا منها ما يستطيعُ من اللذَّة، ولا شيءَ يُحزِنُه لافتقادِه المعنى تماما.
أمّا (خالد مأمون) فهو مجذوبٌ إلى طريقٍ عِرفانيَّةٍ غامضةٍ، ربما تحقِّقُ له الأمانَ في نهاياتِها من خواءِ عالَمِه وسُخفِه، ويبدو لي أنَّ مِن تجلّياتِ هذا الخلافِ الأساسيِّ إحجامَ كاتبِنا عن المُضِيِّ خطوةً أوسعَ في الإشارةِ إلى (نُبُوَّةِ) بطلِه مصطفى إسماعيل، فربّما لم يُشِر إليها إلاّ مِن طرفٍ خفيٍّ احترامًا لمقام النُّبُوَّةِ وانحيازًا إلى رقيبٍ داخليٍّ مُحافِظ.
كذلك أحالَتني الروايةُ في خُطّتِها العامَّةِ إلى رواية (القلعة) لكافكا، فبطلُها (كاف K) يجدُ نفسَه مرغمًا على خوض المتاهة البيروقراطيّة المعقَّدَة لموظفي القلعة ليُنجِزَ مهمَّةً لا تُنجَزُ في النهاية، وهو مسعىً شبيهٌ بما يحدُثُ في الرواية التي بين أيدينا، وإن كان (خالد مأمون) يُضَمُّ إلى كيانٍ شبيهٍ في غموضِه بقلعة كافكا، ويبقى فيه خمس سنواتٍ دون أن يستطيع سَبرَ غورِه، فالبُعدُ الميتافيزيقيُّ هنا يسيرُ خطوةً أبعَدَ إذ يجعلُ موظَّفي القلعة أنفسِهم عاجزين عن الإحاطةِ بها عِلمًا، ولعلّه يُجبرُنا على استحضارِ الآية: "وما مِنّا إلاّ لَهُ مَقامٌ مَعلومٌ" أو حديث جبريل للنبي: "إذا أنتَ تقدَّمتَ اخترقتَ وإذا أنا تقدَّمتُ احتَرَقتُ".
أخيرًا، أجِدُني أتذكَّر سيناريو (أرض الخوف) لداوُد عبد السيّد منذ الصفحاتِ الأولى لكتاب الأمان. في السيناريو المذكور، يقومُ (المنقبادي/ أبو دبُّورة) بمهمّةٍ طويلة الأجل شديدة السِّرِّيَّة لحساب شرطة مكافحة المخدرات بأن يزرع نفسَه بين تُجّار المخدِّراتِ إلى أجَلٍ غير مسمَّى. إنه يَترُكُ عالَمَ الأمانِ المتمثِّلَ في الشُّرطةِ إلى أرضِ الخوفِ وسط المُجرِمين، كأنه يتنزَّلُ كآدمَ مِن جنَّةِ الخُلدِ ومُلكٍ لا يَبلَى إلى عالَم الخطيئةِ والدَّنَسِ.
أمّا هنا فخالدُ يهربُ من عالَم الخواءِ الذي يختزلُه في قصة حياته ذات الكلمات الثلاثمائة، إلى ملجأٍ غامضٍ مُتعالٍ هو قصرُ الاعترافاتِ، ومن ثَمَّ إلى منزلةٍ أرفعَ (منزلة مصطفى إسماعيل)، عندها تسقُطُ التكاليفُ والمواضَعات المجتمعيّةُ كما تسقُطُ في مقامات الأولياء المُقرَّبِين في الممارسة الصُّوفيَّة.
لكنّه لا يُطيقُ صَبرًا، فالحُجُبُ تتكاثَرُ عليه حتى تُغبِّشَ الرُّؤيةَ، وتشتبكُ خطوطُ حياتِه كما ينعكسُ هذا في اشتباكِ خُطوط السَّرد، فيسقُطُ في حمأةِ الخواءِ من جديدٍ، ويجمعُ في النهايةِ أوراقَ مغامرتِه في مظروفِ (إلى مَن يُريدُ أن يعرفَني)، فمَن يُريدُ أن يعرِفَه لن يجدَ إلا محاولته الحزينةَ المحكومةَ بالفشل.
انتهاءً، ليس (كتابُ الأمان) روايةً سهلةَ التلقّي. إنه عملٌ معقَّدٌ للغاية، مُجهِدٌ قطعًا في قراءتِه، إلى الحدِّ الذي يجعلُني أتصوّرُ أنّ الفهمَ والتلذُّذ بالسَّرد لن يكتملَ لدى القارئِ إلا بصبرٍ ودأَبٍ، فضلاً عن قلَمٍ لا يفارقُ يدَه، يكتبُ في الهوامشِ أوّلاً بأوَّلٍ ملاحظاتِه، ويُفرِدُ الخيوط المتشابكةَ خيطًا خَيطا.
"هيا لنشتر شاعرًا".. الأديب في دور البطل المخلّص
صدرت حديثا.. ترجمة "عاشق الكتب" وهذه قصته
معاوية عبد المجيد: حين يعيدنا إيكو إلى العصر الفاشي