يحتفي المسلمون في
البوسنة والهرسك بأول حافظة للقرآن الكريم تحصل على سند بالقراءات السبع، تتويجا لمسيرة بدأت قبل ست سنوات، واختتمت خلال شهر رمضان المبارك، قبل أيام.
وأجرت
"عربي21" حوارا مع الحافظة "زبيدة غوبيلييتش"، التي تعد أيقونة لمرحلة عودة
المسلمين البوشناق إلى ممارسة حرياتهم الدينية، والتي بدأت عام 1995، مع نهاية حرب
مريرة من أجل الاستقلال عن الاتحاد اليوغوسلافي.
وتروي
"غوبيلييتش" تاليا تفاصيل الرحلة وما شجعها على خوض غمارها وأبرز
المصاعب التي واجهتها، وما يعنيه تعلم قراءات القرآن
الكريم، مع لمحة عن وضع المجتمع المسلم في البلاد، وصولا إلى توجيهها رسالة إلى العالم
الإسلامي.
نشكركم بداية على إتاحة هذه الفرصة، ونبارك لكم إنجازكم، ونود أن نبدأ بسؤالكم عن قصتكم مع القرآن، كيف وأين بدأت؟ ومن وماذا شجعكم على سلك هذا الطريق؟
حب القرآن شعور ظهر في مرحلة الطفولة المبكرة،
ويعود إلى اهتمام الإمام المحلي وحضور دروس الكتّاب، إضافة إلى نشأتي في عائلة محافظة،
وصولا إلى التحاقي بمدرسة "الأفندي عثمان ريدجوفيتش" (الإسلامية شمال
غرب سراييفو).
ولدت فكرة حفظ النص القرآني بعد أن بدأ أستاذ القراءات في
المدرسة، الحافظ عبد القادر كادريتش، بتقديم حصة حفظ، وقررت، أنا وشقيقتي التوأم،
زاهدة، الانضمام إليها. وبدأت مسيرتي بشكل عفوي، ولم نكن نعرف ما يعنيه ذلك بالفعل،
وما هي أهميته.
في هذه الرحلة النبيلة للغاية، وعلى الرغم من
جميع المصاعب، فقد كانت السعادة أكبر لأننا تشرفنا بشراكة مستمرة مع كلام
الله. لقد كان الدافع للمضي في التعلم نابعا من القرآن نفسه، وأيضا من الأحاديث التي تبشر
بمكافأة عظيمة لمن يتعلمون هذا الكتاب العظيم، وأيضا لوالديهم.
لقد حصلنا على الدعم الذي لا غنى عنه من والدينا، مصطفى وعصميتا، وبفضل الله، أكملنا مشروع الحياة الخاص هذا، وهو المزين بأجمل دعوة
وأعز معرفة لهذه الحياة والحياة الآخرة. وهكذا، أصبحت أنا وأختي أول توأم في تاريخ
وطننا الجميل يكمل الحفظ في نفس اليوم. وما يمكن أن يكون مثيرا للاهتمام بشكل خاص،
وما أعتبره شرفا عظيما، هو أن كلينا تزوج بحافظ للقرآن أيضا.
كيف تعرفتم على القراءات؟ وماذا تعني القراءات للمسلمين؟
بعد اجتياز اختبار الحفظ في رمضان عام 2007، وتخرجي من كلية العلوم الإسلامية بجامعة سراييفو عام 2011، كواحدة من أفضل الطالبات، توجت رغبتي في التعلم الإضافي في مجال القرآن بفكرة تعلم القراءات الأخرى. وبدا لي هذا بعيدا حقا، لكن حبي للقرآن قادني إلى تحقيق هذه الرغبة.
لقد تحدثت عن هذا مرارا مع زوجي، ساود، الذي
شجعني وقال إنه يمكنني القيام بذلك. كان دعمه الكبير هو الريح التي دفعتني للأمام،
حتى بدأت بالفعل في خريف عام 2014.
وازدادت الرغبة بتعلم القراءات مع إدراكي بأنه تخصص علمي مهم للغاية، لأن الفروق الدقيقة في النطق تعطي معانيَ جديدة للنص دون أي تناقض. يمكن فهم الفروق في القراءات على أنها قطع تتناسب تماما مع الفسيفساء الخارقة للتعبير القرآني. وهذه القطع، على الرغم من اختلافها، تجمع من زواياها صورة مفصلة وكاملة لموضوع الخطاب القرآني.
وبما أن الاختلافات في القراءات تؤدي أحيانا
إلى تغيير المعنى، وهو مجال يتقاطع مع علم التفسير، فإن ذلك يؤدي إلى اشتقاق مبادئ
فقهية مختلفة لدى أماكن مختلفة من الأمة الإسلامية بحسب القراءة المعتمدة. ومن أجل
فهم شامل، من الضروري معرفة تلك الفروق النبيلة.
في نهاية المطاف، يجب أن يوضع في الاعتبار أن
دراسة القراءات هي ارتباط مباشر بنبينا الحبيب، وسنته، وفي الوقت الحاضر فإن الذين
يشرعون في هذا الأمر يقل عددهم باستمرار، وباتوا مطالبين بجهود أكبر.
استمرت رحلتكم مع القراءات السبع ست سنوات. كيف كانت هذه المسيرة وما هي أبرز الصعاب التي واجهتكم؟
هنالك مقولة متعارف عليها على نطاق واسع، تفيد بأن الصحبة في السفر هي الكفيلة بتعزيز التعارف، وقد حظيت بشرف عظيم أن رافقني في هذه الرحلة أستاذي المقرئ الدكتور جواد شوشيتش، الذي لم يدخر جهدا لنقل معرفته إلي، وكان صبورا للغاية وقادني إلى النهاية في هذا الطريق.
وبالإضافة إلى دعم الحافظ شوشيتش، فإنني سعيدة للغاية بالانسجام والتآزر في الأسرة، والذي ساهم في نمائي الفكري والروحي في مجال القراءات. لقد بذل زوجي ووالدته فاطمة قصارى جهدهما لتيسير هذه الرحلة، لا سيما أنني أنجبت ابني، عدنان البالغ الآن أربع سنوات وحسن البالغ سنة ونصف، خلال تلك الرحلة.
ومن حيث المصاعب،
كان البعد المكاني هو الأكبر، فقد كنت أسافر أسبوعيا للقاء أستاذي من توزلا حيث
أقيم إلى سراييفو (ثلاث ساعات ونصف بالسيارة).
اقرأ أيضا: ذكرى.. مفكر وسياسي تجرع "المرارة" من أجل دينه وشعبه
كيف تقيمون علاقة الشعب البوسني بالقرآن الكريم وهل من إقبال على قراءته وحفظه وفهمه؟
في تقاليد شعبنا البوسني، هنالك حرص على غرس محبة القرآن وتربية الأطفال بروح الرسائل القرآنية ووصاياها، في هذا السياق، يتم تنظيم الحياة الاجتماعية والأسرية حول تعليم الأطفال وتشجيعهم على التعلم ومصاحبة القرآن.
يتم تنظيم الدروس الدينية للأطفال حتى سن 14 عاما في الأحياء المسلمة (في الكتاتيب)، وبعد إتقان المعرفة الأساسية للقرآن، فإن لديهم الفرصة لمواصلة تعليمهم الثانوي في إحدى المدارس الدينية السبع في البوسنة والهرسك، حيث يتم رعاية الحفظ.
إن مدارسنا هي
التي أنتجت أكبر عدد من حافظ القرآن الكريم، ولكن الحمد لله، يعود عدد متزايد من
شبابنا المسلمين من خارج مؤسسات "المجتمع الإسلامي" (الجهة الرسمية المنظمة
للمؤسسات الدينية والأوقاف) إلى القرآن، مسرعين لتذكره وفهم محتواه. نعتبر وطننا
الجميل ثريا للغاية، مع الأخذ في الاعتبار أنه أنجب ثلاث مؤسسات للتعليم العالي
لدراسة العلوم الإسلامية وتوسيع المعرفة في مجال القرآن.
ما هي الخطوات القادمة بالنسبة لكم ولعلاقتكم الخاصة بكتاب الله؟
بالتأكيد لم أستنفد كل المعرفة القرآنية بتلك المسيرة، لذا فإن رغبتي وخطتي في المستقبل هي أن أكرس نفسي للاختلافات بين القاراءات من منظور التفسير والفقه، وبالتالي المساهمة في تطوير وتعزيز القاراءات في مجتمعنا في كل المجالات.
كما سأحاول أن
أؤكد قدر الإمكان أهمية الثبات، أي الارتباط الدائم بكلام الله، سواء على المستوى العلمي أو على
المستوى العملي.
وسيكون من دواعي سروري الخاص أن أشجع الآخرين في مستقبلي على اتباع هذا الطريق المبارك، والفخر بالاقتراب من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ما هي رسالتكم إلى المسلمين حول العالم؟
أقول للمسلمين حول العالم، إن أي خريطة، مهما رسمت بدقة، لا يمكن أن تقود صاحبها إلى الهدف النهائي من تلقاء نفسها. ولم يوضع قانون على مدار التاريخ، مهما كان عادلا، يمكنه أن يمنع الجرائم بحد ذاته. وكذلك لم يأت أي كتاب مقدس، بما في ذلك الوحي الأخير من الله، أدى إلى إحياء الناس ما لم يتم تصديقه والعمل بضوئه.
وبناء على ذلك، فإن التآزر بين الإيمان والعمل فقط هو الكفيل بتحقيق التقدم على مستوى الفرد والمجتمع. وبعبارة أخرى، فإن العمل هو الكفيل بتحقيق أهداف الخريطة أو القانون أو الكتاب المقدس.
يمكننا أن نقول
بحرية إن الحياة البشرية نفسها هي نسيج من العمل المستمر، وعليه فإن الإنسان هو انعكاس لمضمون حياته، لعمله
والطريقة التي ينفذ من خلالها عمله. قال رب العالمين، في الآية 60 من سورة الرحمن:
"هل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟!". إن هذه الآية، التي تنضح بالتفاؤل بشكل واضح، تشير إلى سنة في
الكون، ولنكون قادرين على فهم هذا بشكل جيد، فإن العلوم الطبيعية تثبت أننا
نعيش في عالم متعدد الأبعاد، ما يعني أن كل شيء نفعله، وبالطريقة التي نسلكها، ينعكس علينا في نهاية المطاف.
وفي هذا السياق
أيضا جاء في مقولة شرقية مشهورة: "نفحة من العطر تتشبث دائما باليد التي توزع
الورود"، وبعبارة أخرى، فإن فعل الخير سينعكس عليك بالخير، لأنك ستجني أفضل
ثمار هذا العالم، وما بعده، وستجد راحة البال.
في ضوء ذلك، يجب
على المسلمين أن يسألوا مرارا وتكرارا، وفي الظروف التي هم فيها، عن موقفهم تجاه
مجدهم (القرآن)، ليس لتأكيد وحدانية الله وحسب، بل ولاختبار إيمانهم بجميع كلماته.
بعبارة أخرى، يؤمن المسلمون اليوم بالله، ولكن من المهم أن نسأل كم يؤمنون به حقا.