كشفت
قيادة القوات الأمريكية في أفريقيا (أفريكوم) مؤخرا؛ عن صور التقطتها أقمارها
الصناعية لعدة طائرات روسية (14 طائرة ميج 29 وسوخوي-24) تحط في قاعدة الجفرة
الليبية قادمة من قاعدة إحميميم السورية، بعد تغيير طلائها الخارجي لتتشابه مع
الطائرات الليبية. ورغم النفي الروسي لهذا الأمر، إلا أن ذلك لا يبدد الشكوك حول
الدور الروسي المتعاظم في ليبيا، ولا ينفي أيضا تصريحات روسية سابقة عن الاستعداد
لتأسيس قاعدة عسكرية روسية في شرق ليبيا.
الحرص
الروسي على بناء قاعدة ثابتة في ليبيا يأتي في إطار الدور الروسي المتنامي في
البحر المتوسط، والذي سبق أن عبر عنه رئيس لجنة الدفاع في مجلس الدوما فلاديمير
شامانوف، الذي صرح في كانون الثاني/ يناير الماضي بأن "روسيا ستعزز وجودها
العسكري في البحر الأبيض المتوسط، الذي لم تكن موجودة فيه منذ زمن طويل، وستضع
خططها هناك انطلاقاً من المصالح الوطنية".
وقد جاءت
تلك التصريحات بالتزامن مع استضافة موسكو جلسة حوار بين وفد الحكومة الليبية
برئاسة فائر السراج؛ ووفد من الشرق الليبي بقيادة اللواء خليفة حفتر الذي غادر
ووفده موسكو في اللحظات الأخيرة دون التوقيع على مسودة الاتفاق.
تسعى
روسيا لتكرار تجربتها في سوريا في دولة تشاطئ أوروبا هذه المرة، وهي ليبيا، ولتؤسس
لنفسها قاعدة انطلاق في الشمال الأفريقي الغني بالنفط والثروات المعدنية الأخرى،
والذي لا يفصل بينه وبين أوروبا أكثر من مئتي كيلومتر من المياه.
في
تجربتها مع سوريا تتذرع روسيا بأنها دخلت إلى ذلك البلد العربي المشرقي وأقامت فيه
قاعدتها العسكرية؛ بناء على طلب من نظام بشار الأسد، الذي تراه نظاما شرعيا معترفا
به دوليا، ولكنها في تلك التجربة تجاوزت حدود الطلب الأسدي لتبني قاعدة روسية
خالصة حرّمت دخولها على السوريين، بمن فيهم بشار الأسد نفسه الذي منعه الحرس
الروسي من الدخول والوقوف إلى جانب بوتين في إحدى زياراته للقاعدة. وحين تتمكن من
تأسيس قاعدة في ليبيا فإنها ستسلك المسلك ذاته مع أي قيادة ليبية لاحقا.
الحلم
الروسي في قاعدة عسكرية كشف عنه بشكل مباشر رئيس لجنة الاتصال الروسية المعنية
بتسوية الأزمة الليبية، ليف دينغوف، حين زعم في تصريحات نقلتها وكالة سبوتنيك
الروسية أن الجيش الليبي بقيادة خليفة حفتر قدم طلبا لروسيا لإقامة قاعدة عسكرية
روسية شرق البلاد، مؤكدا أنه لا يزال من غير الممكن معرفة إذا ما كان ستتم
الموافقة على ذلك الطلب!!
ومنذ ذلك
الوقت شرعت روسيا في دخول المعترك الليبي عن طريق قوات فاغنر، وهي قوات خاصة لا
تتبع مباشرة الجيش الروسي لكنها لا يمكن أن تتحرك في مهام قتالية خارجية دون
موافقة رسمية. ولعبت قوات فاغنر دورا مهما في معارك حفتر في الغرب الليبي، حتى تم
طردها مؤخرا ضمن عمليات عاصفة السلام التي تخوضها قوات بركان الغضب التابعة لحكومة
الوفاق. وقد تم طرد فاغنر من قاعدة الوطية العسكرية ثم من جنوب طرابلس، ولكن قوات
الوفاق لم تشتبك مع قوات فاغنر أثناء انسحابها وحتى وصولها إلى مطار بني وليد، وذلك
ضمن تفاهم تركي روسي.
تعددت
التوقعات حول الجهة التي تنسحب إليها قوات فاغنر، ولكنها رست أخيرا في قاعدة
الجفرة، ما يعزز التكهنات بتحول هذه القاعدة إلى قاعدة روسية خاصة بعد وصول سرب
الطائرات الروسي لها أيضا. ولكن روسيا لا تريد أن تعلن عن هذا التحول العملي للقاعدة
خشية ردود الفعل الأمريكية والأوروبية، وربما تنتظر حتى تتمكن من استكمال عتادها
العسكري في القاعدة، لتفرض أمرا واقعا.
المطامع الروسية في ليبيا تستند إلى تاريخ مع ديكتاتور
ليبيا الراحل معمر القذافي، والذي عقد سلسلة من الاتفاقات العسكرية والاقتصادية مع
موسكوا، وكان آخرها ما تم توقيعه قبيل أيام من ثورة 17 شباط/ فبراير 2011، وضمنها
اتفاق لمد خط سكك حديدية بين بنغازي وسرت بقيمة 2.2 مليار دولار، وهو ما أكد
المبعوث الروسي في ليبيا دينغوف؛ من أن بلاده "بصدد
رسم خارطة الطريق لاستئنافه". كما أن رئيس الوزراء الليبي السابق عبد الله الثني (والداعم لحفتر حاليا)
كان قد أكد أهمية تنفيذ الاتفاقات الموقعة مع روسيا في عهد القذافي.
وتسعى
روسيا لإصلاح ما تعتبره قيادتها الحالية (حكومة بوتين) خطأ تاريخيا لقيادتها
السابقة في عهد ديمتري ميدفيدف الذي رفض استعمال الفيتو ضد القرار الأممي (1973)
والذي فتح الباب لحلف الناتو للتدخل عسكريا والإجهاز على حكم معمر القذافي، بينما
يرى بوتين أنه كان واجبا على روسيا وقف ذلك القرار باستخدام حق الفيتو، ولذلك يسعى
زعيم الكرملين حاليا لتعويض ذلك بموطئ قدم ثابت في ليبيا؛ يتيح له المشاركة في أي
عملية سياسية تخص مستقبل ليبيا.
وقد وجد
بوتين بغيته في الجنرال خليفة حفتر الذي استضافه في موسكو مرتين، في حزيران/ يونيو
وتشرين الثاني/ نوفمبر 2016، ثم توالت زيارات سرية وعلنية له لاحقا؛ كان آخرها
مشاركته في جولة تفاوض مع رئيس الحكومة الليبي فايز السراج في كانون الثاني/ يناير
الماضي، وهي الجولة التي غادرها حفتر قبل التوقيع على الاتفاق. ورغم أن هذا الهروب
سبب حرجا لروسيا، مستضيفة المحادثات، إلا أنها لم تنتقد حفتر، وظلت على تواصل معه
تحقيقا لمشروعها الأهم في ليبيا، وهو تأسيس تواجد عسكري قوي.
والسؤال
الآن: هل ستقبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، أو بالأحرى حلف الناتو الذي
يضم الطرفين، قاعدة عسكرية روسية على حدود أوروبا الجنوبية؟
كل
الشواهد والمعطيات وسوابق الخبرات السياسية تؤكد رفض الأمريكان والأوروبيين هذا
المسعى. وقد أظهرت واشنطن عينها الحمراء لموسكو عبر نشر صور الأقمار الصناعية
لطائراتها القادمة إلى ليبيا، وتمركزها في قاعدة الجفرة، كما أعلنت أنها تدرس مع
تونس وضع لواء عسكري أمريكي في تونس لمواجهة هذا الخطر الروسي.
وأرسلت
واشنطن وفدا عسكريا رفيعا إلى طرابلس لبحث الأوضاع على الأرض، وكان الأمين العام
لحلف الناتو ينس
ستولتنبرغ قد هاتف السراج منتصف أيار/ مايو الجاري، مبديا غضبه لوجود قوات فاغنر
الروسية، ومؤكدا استعداد الحلف لمساعدة الحكومة الليبية في بناء قدراتها الأمنية
والعسكرية بناء على طلبها.
يشعر الأمريكان أن الروس كسبوا
منهم الجولة في سوريا عبر حضورهم العسكري القوي هناك، والذي تم بناء على طلب من
بشار الأسد، ولا يريد الأمريكان والأوروبيون السماح بتكرار الأمر في ليبيا. ورغم
الانقسام بين دول حلف الناتو تجاه ليبيا، حيث تدعم فرنسا حفتر، فيما تدعم تركيا
الوفاق، وتقترب إيطاليا أيضا من الوفاق، إلا أن رفض الوجود الروسي في ليبيا سيكون
محل اتفاق بين جميع الأعضاء الذين لن يرحبوا بهذا الجار على بعد 200 كيلومتر فقط
من حدودهم الجنوبية.
وعلى الأرجح سيتحرك الاتحاد الأوروبي
من خلال بعض دوله القائدة، مثل ألمانيا أو إيطاليا، للوساطة مجددا بين أطراف
النزاع في ليبيا، تمهيدا لاستئناف الحوار السياسي وصولا إلى تسوية سياسية تحقق
الاستقرار في ليبيا، وتنهي هواجس الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، وتبعد الوجود
العسكري الروسي.
twitter.com/kotbelaraby