في منتصف السبعينيات أنشد المطرب عبد الحليم حافظ قصيدة للشاعر نزار قبانى بعنوان "رسالة من تحت الماء"، وختمها بهذا المقطع: إني أتنفس تحت الماء.. إني أغرق أغرق أغرق، وكررها ثلاثا.. والحقيقة أن القصيدة من القصائد الرمزية البديعة التي عرف بها نزار خاصة في سنوات نضجه الأخيرة.. نحن أمام إنسان يتنفس تحت الماء وفي الوقت نفسه يغرق! مشهد يذكرك بصورة المهزوم المتراجع الذي يتموضع ويتمركز، المجاز الجميل الذي استخدمه نزار كان شعرا، ليس هذا فقط بل شعرا يغني.
لكنه للأسف لا يكون كذلك حين يستخدمه معتد مهزوم في وصف هزائمه وهزيمة أهدافه.. سيلفت نظرنا أن "الخطاب" المصاحب لهذه الهزائم السريعة التي تلقاها الفيلدمارشال مؤخرا؛ كان هو تقريبا نفس الخطاب الذي سمعناه أيام هزيمة حزيران/ يونيو عن القوات التي تعيد تمركزها، أو عن خسارة معركة وليست خسارة حرب. ومن مثل ذاك الحديث الذي وصفه الراحل الدكتور إدوارد سعيد (1935-2003م) بأنه "خطاب ذو تأثير قوي جدا على الإنسان بدون أن يشعر به، يشكل نوعا من الضغط النفسي على الناس لمواكبة متطلباته وإلا سيجدون أنفسهم خارجه"..
لكن هناك فارق بين الخطابين يبدو أنه هام! فذاك الخطاب قيل وقت الراديو والتلفزيون، وهذا الخطاب قيل وقت الإنترنت والموبايل! ولك أن تتوقع التوقعات وتنستنتج الاستنتاجات.
نيسان يا أقسى الشهور.. هكذا قال الشاعر البريطاني الكبير إليوت في قصيدته المشهورة "الأرض الخراب". وقد كان نيسان/ أبريل 2019م من أقسى الشهور على أهل
ليبيا الطيبين. في ذلك الوقت كانت المساعي للتوصل إلى اتفاق يجمع اطراف النزاع قد وصلت إلى محطتها النهائية أو تكاد، إذ تقرر أن يعقد في غدامس في الفترة من 14 إلى 16 نيسان/ أبريل 2019 اجتماع "المؤتمر الوطني الليبي لتنظيم الانتخابات وعملية السلام في ليبيا"، للتوصل إلى إجراء استفتاء على دستور جديد وإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية يشارك فيها الشعب الليبي بأكمله.
لكن أصل النزاع كله وجوهره ولبه، وكما يعرف الجميع، هو أن
حفتر ليس لديه مشروع سياسي!! فكيف ستأخذه إلى مفاوضات سياسية وهو يعلم تمام العلم أن أي اتفاق سياسي سينتهي حتما إلى استبعاده؟ فلا هو جنرال عتيد في العسكرية العربية وسيكون بالتالي موضع إجماع واحترام، ما يجعله قائدا للجيش في الجمهورية الأولى، ولا هو السياسي المثقف صاحب الأفكار الملهمة؛ ما يجعله رئيسا وزعيما لشعب ثار على ديكتاتور شرس مفترس، وهو في النهاية لم يأت من أمريكا بعد كل هذه السنين ليجتر فشلا جديدا بعد وادي الدوم في تشاد سنة 1987م.
كان الليبيون ينظرون إلى المستقبل، حيث وطن يجمعهم للبناء والعيش في سلام، وكان هو ينظر إلى الماضي حيث السلطة متغطرسة متعالية كالتي حكم بها القذافي البلاد أربعين عاما، فيقرر الرجل قلب الطاولة على الجميع ويشن هجوما مفاجئا دون سابق إنذار على طرابلس، معلنا أن هدفه هو السيطرة على كامل التراب الليبي، والهدف المعلن بالطبع هو محاربة الإرهاب.. أعلن ذلك والسيد الأمين العام للأمم المتحدة جوتيريتش في طرابلس يحضر ويرتب لنجاح مؤتمر غدامس، فيذهب الرجل مفزوعا إلى حفتر في بنغازي ليثنيه عن هذه الفكرة بالغة الجنون والغباء، لكنه يفشل ويغادر ليبيا "مفطور القلب" كما ذكر.
وبدأ بالفعل الهجوم على المدينة من سبعة محاور.. كان هجوما ضخما جيد الإعداد كامل العتاد (عدد الجنود الذين نزلوا من جبل غريان متجهين إلى العاصمة وصل إلى ما يزيد عن عشرة آلاف، جندي مدججين بالسلاح ومدعمين بمنظومات دفاع وآليات ضخمة).
لكن الفيلدمارشال الذي أدمن الفشل لم يستطع بكل هذه الاستعدادات دخول المدينة بعد ما يقرب من عام، والعالم كله يشاهد القصف والتدمير على المدينة، وأهلها المرابطون الشجعان صامدون صابرون (ستالينجراد أشهر ملحمة صمود تاريخية لمدينة محاصرة كانت ستة أشهر، من 21 آب/ أغسطس 1942 - 2 شباط/ فبراير 1943). حتى تدخلت تركيا على خط الأزمة وليتم توقيع اتفاق بينها وبين
حكومة الوفاق في تشرين الثاني/ نوفمبر 2019م، لتبدأ الململة الدولية من هذا التطور الجديد، والذي بدا أنه سيكون مؤثرا، فتسارع روسيا إلى دعوة السراج وحفتر لمؤتمر في موسكو بترتيب تركي/ روسي لعقد هدنة، وليخرج بوثيقة لوقف إطلاق النار من ليلة 12 كانون الثاني/ يناير، ستوقع عليها الوفاق ويرفضها حفتر الذي سيغادر موسكو فى صلافة صليفة (يا للأيام). سيمر أسبوع ويعقد مؤتمر "احتفالي" واسع في برلين، لم يهدف أصلا إلى التوفيق بين الليبيين (وهم بالفعل لم يتوافقوا)، بل كان أساسا من أجل تحقيق توافق بين الغربيين وهم أيضا لم يتوافقوا.
كان حفتر قد ضاعف من حصاره على المدينة الباسلة، فقطع خطوط الماء والكهرباء، وأغلق الموانئ، وقصف المستشفيات والميناء، وبالغ في قصف المدنيين ليُظهر للعالم عجز حكومة الوفاق عن تأمين أبسط وسائل العيش والحماية لأبناء المدينة. وكما أديب في الأسطورة الشهيرة، يستمر حفتر في السير إلى قدره ظنا منه أنه يهرب من قدره، ويدخل الاتفاق الأمني حيز التنفيذ وليكون في حده الحد بين الجد والهزل، ويتزامن ذلك وللمرة الأولى مع صوت أمريكي غاضب وواضح يطلب من حفتر وقف هجومه على المدينة.
ستنقلب موازين الموازين وستسيطر قوات الوفاق على مدن الساحل ما سيفتح الطريق على تطورات عسكرية هائلة ومتسارعة وموجعة، لتقف حكومة الوفاق بعدها على مشارف مدينة سرت.
خلال ذلك كان الفيلدمارشال يسير ويسير ولا يبدو أمامه إلا الطريق كما يقولون، فيعلن نفسه حاكما على ليبيا بتفويض من الشعب، متجاهلا مجلس نواب طبرق ورئيسه عقيلة صالح الذي شعر بالغدر من رفيق الأمس، فيتحصن بقبيلته (العبيدات) ويحذر حفتر من هذا الإعلان المريب.
تركيا ستعلن ان ما حدث من تطورات في ليبيا كان بتوافق مع أمريكا، وستكون هناك خطوات أخرى مقبلة مع روسيا التي
تساند حفتر من خلال مجموعة "فاغنر التي تنفذ سياسة "الإنكار المقبول" لروسيا، والذي يسمح لها بالمشاركة في عمليات عسكرية دون قوات نظامية.
سيكون علينا أن نعلم أن روسيا تنظر إلى ليبيا بعين الطمع منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ففي مؤتمر بوتسدام 1945م (ستالين وتشرشل وترومان) طلب ستالين صراحة بانتداب روسي على طرابلس ورُفض طلبه.
سيعلو ستيفن تونسيند القائد العسكرى لـ"أفريكوم"، فيقول علانية إن مقاتلات روسيا موجودة في ليبيا.. وهي تحاول بوضوح الحصول على مزايا في ليبيا ولا مجال للنكران.
لكن المفاجأه المثيرة حقا كانت من الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية السفير حسام زكي؛ الذي قال صراحة إن جامعة الدول العربية تعترف بحكومة الوفاق، وأن التدخل التركي تم بناء على اتفاقيات موقعة مع الحكومة الشرعية، وحان الوقت للقبول بحل سلمي.
البحث عن
بديل لحفتر أصبح مطلبا دوليا أكثر من أي وقت مضى. تركيا قالت ذلك صراحة بل وناقشت ذلك مع أمريكا. إيشلر، المبعوث التركي في ليبيا، قال إن تركيا دعمت الأمم المتحدة لعودة اللجنة العسكرية 5+5. فنحن نرى من البداية أن الأزمة سياسية، وتركيا وروسيا في طريقهما إلى عقد صفقة تخرج بموجبها روسيا قواتِ
فاغنر من سرت والجفرة مقابل أن تضمن تركيا المصالح الروسية في ليبيا.
بناء الدولة وتحقيق السلام ودعم الشرعية في المنطقة الغربية بتفاهم تركي/ أمريكي سيعتمد بدرجة كبيرة على مبادرات الشرق الليبي والجوار الإقليمي، خاصة مصر والجزائر.
مجلة ناشيونال انترسيبت الأمريكية نشرت تقريرا في 6 حزيران/ يونيو الجاري يقول: "ما يبدو مؤكدا هو أن اتفاقا سياسيا لن يبرم في وجود حفتر الذي يرفض ذلك من البداية، وعلى الأرجح لن يغير رأيه الآن، وإن تمكن من الاستمرار في الحصول على دعم عسكري لن يستسلم. أما إن خسر كل الدعم العسكري الذي يتمتع به، فيمكن أن نقول بثقة إن
أيامه معدودة..".
دعونا ننتظر رسائل حفتر من تحت الماء.
twitter.com/helhamamy