يقول "هيرمان جورنج" مارشال الرايخ الثالث في شهادته أمام محكمة نورمبرج، التي مثُل أمامها قادة النظام النازي في ألمانيا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وهزيمة هتلر وانتحاره: "إن زعماء البلاد هم الذين يقررون السياسة، واقتياد الشعب وراءهم أمر بسيط دائما، سواء أكان النظام ديمقراطيا أو ديكتاتوريا فاشيا أو ديكتاتوريا شيوعيا أو برلمانيا.. وسواء أكان للشعب صوت أم لا، فإنك تستطيع أن تطوعه حسب رغبات الزعماء، وهو أمر سهل، ماعليك سوى أن تقول لهم إنهم يتعرضون للعدوان، وأن تدين الداعين للسلام على أنهم يفتقرون للوطنية وأنهم يعرضون البلاد للخطر. وهذا أسلوب صالح للاستخدام في أي بلد"..
بهذه القاعدة البسيطة التي تحدث بها هيرمان جورنج استطاعت أمريكا أن تمارس أكبر أنواع الابتزاز والسيطرة على العالم، بدعوى "الحرب على الإرهاب" التي أطلقها جورج بوش الابن بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، فدمرت أفغانستان والعراق وجعلتهما خارج التاريخ، وابتزت السعودية ودول الخليج الغنية بقانون جاستا تارة وبداعي الحماية تارة أخرى، ومارست الإرهاب والتخويف على كل من عارض سياساتها. وكلنا يتذكر عبارة جورج بوش الابن "من ليس معنا فهو علينا". والسؤال.. هل يوجد لدى الإدارات الأمريكية المتعاقبة تعريف لمعنى الإرهاب؟!
وبفضل لعبة المصطلحات واختراع الأعداء الوهميين وعملية خلط الأوراق هذه، أصبحت إسرائيل المحتلة لأرض فلسطين هي ضحية الإرهاب الفلسطيني، وتحول من يدافعون عن أرضهم وعرضهم ومقدساتهم في وجه محتل غاشم هم الإرهابيون والمُحاصَرون، وأصبحت النظم الديكتاتورية القمعية العربية طليقة اليد في قتل المعارضين وسجنهم وتعذيبهم وإخفائهم قسريا، والانقلاب على إرادة الشعوب وسحقها بحجة "الحرب على الإرهاب"، وتحول المظلومون المقهورون الذين يطالبون بالحرية والديمقراطية والعيش الكريم إلى إرهابيين يُنكل بهم ليل نهار بفضل هذه اللعبة.
فاختراع العدو المحتمل هو الباب الواسع لتبرير احتلال البلاد وتدميرها وإخراجها من التاريخ، وكذلك ترسيخ القمع والاستبداد والديكتاتورية وإرهاب السلطة في بلادنا العربية. وهذه الخدعة ليست جديدة، فهي قديمة قدم
الاستبداد والسلطوية، وتزداد وتيرتها وحدتها مع الانقلابات العسكرية وما يتبعها من حكم عسكري.
يقول خالد محيي الدين، أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة، في مذكراته: "إن جمال عبد الناصر كان ضد الديمقراطية على طول الخط، وإنه هو الذي دبر الانفجارات الستة التي حدثت في الجامعة وجروبي وفي مخزن الصحافة بمحطة سكة حديد القاهرة، وإنه اعترف لعبد اللطيف البغدادي وكمال الدين حسين أنه هو من دبر هذه التفجيرات لإثارة مخاوف الناس من الديمقراطية، وللإيحاء بأن الأمن سيهتز وأن الفوضي ستسود إذا مضوا في طريق الديمقراطية هذا، وإن جمال عبد الناصر هو الذي نظم إضراب العمال الشهير في آذار/ مارس 1954، وهو الذي أنفق عليه وموله". وذكر خالد محيي الدين أن عبد الناصر قال له بالحرف: "هذا الإضراب كلفني أربعة آلاف جنيه".
بهذه العقلية التآمرية كان جمال عبد الناصر (العسكري) يدير شئون
مصر بالتفجيرات وتنظيم الإضرابات لتخويف الناس من الديمقراطية الوليدة، وترسيخ حكمه القمعي الاستبدادي السلطوي، وتبرير القمع والبطش والإرهاب الذي مارسه بحق الشعب المصري طوال سنوات حكمه.
وعلى نفس النهج سار وراءه السادات ومبارك بنسب مختلفة، إلى أن قام عبد الفتاح
السيسي والعسكر بانقلابهم على التجربة الديمقراطية الوليدة في 3 تموز/ يوليو 2013 بنفس العقلية التآمرية.
بعد الانقلاب العسكري مباشرة، في 26 تموز/ يوليو 2013، طلب عبد الفتاح السيسي من الشعب أن ينزل في مظاهرات ليفوضه في الحرب على "الإرهاب المحتمل"! انظر إلى كلمة المحتمل وتمعن فيها جيداً!!.. فارتكب السيسي والعسكر أبشع جرائم الإبادة في تاريخ مصر الحديث في رابعة والنهضة وغيرهما، ولا يزال، تحت لافتة "الإرهاب المحتمل" الذي لا يعلم أحد من وراءه؟ ومن يديره؟ ومتى سينتهي؟ وما هو تعريفه؟ هل أصدرت سلطة السيسي أي تعريف للإرهاب؟ مجرد كلام عام مرسل ومكرر بدون أي محددات، ولكن المستفيد من استمراره معروف وهو السيسي والعسكر.
قام السيسي والعسكر بممارسة أبشع أنواع القتل والتدمير والإبادة في سيناء بدعوى الحرب على الإرهاب، واعتقل عشرات الآلاف من المصريين وعذبهم بأبشع الطرق، ولفق لهم كل التهم المعروفة وغير المعروفة، وأخفى المئات قسريا وقتلهم في الشوارع والبيوت أمام أبنائهم وزوجاتهم بلا رحمة، وأصدر قضاؤه المسيس المئات من أحكام الإعدام والمؤبد والمشدد على الخصوم السياسيين، وأحال المئات إلى القضاء العسكري، واعتقل الصحفيين والإعلاميين ونكل بهم، وقتل العشرات داخل السجون والمعتقلات بالإهمال الطبي المتعمد، وأغلق كل وسائل الإعلام المناهضة له، وحتى التي معه ولا تقول بنفس ما يقول!
واقتحمت داخليته نقابة الصحفيين لأول مرة في تاريخها (الإحتلال الإنجليزي لم يجرؤ على اقتحام نقابة الصحفيين!)، واقتحم المساجد ودنسها وأحرقها وأغلقها، وأصدر العشرات من القوانين سيئة السمعة والمقيدة لكل أنواع
الحريات، وأغلق مئات المستشفيات والمستوصفات والجمعيات الخيرية التي تقدم الخدمات المجانية لملايين الفقراء والمحتاجين، وصادر أموال الشرفاء وممتلكاتهم وألصق تهمة الإرهاب بكل الأشخاص والكيانات والجماعات والتيارات التي عارضته..
كل هذه الجرائم والانتهاكات تحت لافتة الحرب على الإرهاب، بينما برأ قضاؤه كل الفاسدين والقتلة والمجرمين واللصوص.
وللعلم.. كل هذه الجرائم وثقتها المنظمات الحقوقية المحلية والدولية، بما فيها لجنة مناهضة التعذيب التابعة للأمم المتحدة في تقاريرها.
وما زالت البلاد تنتقل من تفجيرات هنا إلى حرائق هناك في ظل انهيار غير مسبوق في كل المجالات سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وأخلاقيا، وتغرق في الديون وتفقد ثرواتها ومقدراتها وسيادتها حتى أصبحت في ذيل الأمم وربما تخرج من التاريخ.. تخيل مصر الكبيرة تابعة لدويلة مثل الإمارات!
وما زال هو ونظامه العسكري يمارسان إرهاب السلطة على الشعب في ظل حماية دولية وإقليمية، ويرددون شعارات الحرب على الإرهاب الذي اخترعه هو والعسكر؛ بسياسات القتل والتعذيب والتهجير وتقييد الحريات وتدمير التداول السلمي للسلطة، وبث الرعب في نفوس الشعب وعودة إعلام الصوت الواحد، وممارسة إرهاب السلطة في أبشع صوره من أجل هدف واحد وهو البقاء على كرسي الحكم، وحتى يبقى العسكر يحكمون ويتحكمون في مقدرات البلاد والعباد، ولو على أشلاء هذا الشعب ودمائه وتدمير حاضره ومستقبله.
انظر إلى ماقاله السيسي في ندوة للقوات المسلحة بعد الانقلاب "الظابط اللي هيضرب مش هيتحاسب"، فرسّخ لقاعدة القتل والتعذيب والقمع بلا أي حساب أو عقاب، ما يعني "تغييب القانون بشكل كامل" واعتماد شريعة الغاب!
انظر إلى الأذرع الإعلامية للسيسي، مثل أحمد موسي ومحمد الباز وغيرهما، وهم يحرضون على القتل وسفك الدماء والعنصرية ضد أبناء الوطن الواحد علناً على الشاشات، دون رقابة أو حساب!
يُطالب أحمد موسي
بعدم علاج المصريين المصابين بكورونا من الإخوان المسلمين وتركهم يموتون! وقبل ذلك حرّض على قتلهم وهلل لسفك دمائهم هو ومن معه! قلي بربك إذا لم يكن هذا هو الإرهاب والتطرف بعينه فماذا يكون؟
بطبيعة الحال هناك أفكار متطرفة وهناك متطرفون في كل مجتمع من المجتمعات، فكيف يتم علاجه في المجتمعات التي تسودها الحرية والديمقراطية؟ بالحوار ومناقشة الفكر بالفكر والرأي بالرأي وتفعيل القانون على الجميع، وليس بالقمع والبطش والقتل.
إن القمع والاستبداد والقهر والتعذيب والإذلال الذي تمارسه السلطة الفاشية وغياب القانون والعدالة هو السبب الرئيس لتفشي الإرهاب. ولنسأل أنفسنا سؤالاً.. أين نشأ التكفير والتطرف؟ في السجون والمعتقلات نتيجة أهوال التعذيب والانتقام الذي لم تعرفه البشرية إلا في هذه الأماكن.
إن الإرهاب والتطرف والشطط والإنحراف الفكري والسلوكي مرفوض بشكل قاطع، ولا يُقره دين ولا عقل ولا منطق ولا قانون ولا عُرف، سواء من الأفراد أو الجماعات أو السلطات الحاكمة، والحل هو الحوار وعودة السياسة والتعددية وتفعيل القانون.
حفظ الله مصر وشعبها وسائر بلاد الإسلام والمسلمين والإنسانية جمعاء من كل مكروه وسوء.