يقول كثير من عشاق الأدب إن الشعر يحرر النفس. يقصدون بذلك المعنى المجازي، مثل تحرير النفس من الألم والضغوط المادية الثقيلة؛ ونحو ذلك. لكن لا يعرف كثيرون أن ثمة شاعرا كتب شعرا ليحرر نفسه بالمعنى الحرفي وليس المجازي. أراد أن يتحرر من العبودية بشعره. لكنه للأسف لم ينجح.
وُلِد جورج موسى هورتون في العبودية سنة 1797. عمل في حلب أبقار سيده وليم هورتون، الذي نُسب إليه. حتى نتصور حياة السود، ينبغي أن نعلم أنّ ملكية جورج انتقلت إلى ابن سيده حين كان في السابعة عشرة، وعمل في مهن شاقة مرتبطة بالزراعة. كيف يمكن أن تنتقل ملكية البشر هكذا لمجرد أنهم سود البشرة؟!
لكن المختلف لدى جورج هورتون أنه علّم نفسه القراءة وكتب الشعر سماعيا دون أن يتعلّم الكتابة. تكسّب من بيع قصائد الحب التي كتبها لطلاب الجامعة الذين اشتروها لتلهب عواطف حبيباتهم. ظل جورج يكتب الشعر وينشره ليسدد ثمن حريته من عوائد النشر ومكافآته. وحين نشر ديوانه الأول سنة 1829 خطّط لشراء حريته من سيده بالأرباح التي يجنيها من بيع ديوانه، لكنها لم تكن كافية.
أخيرا، نال جورج حريته عام 1865، بعد انتصار الولايات الشمالية على الجنوبية في الحرب الأهلية الأمريكية، التي قاتل جورج فيها تحت لواء الولايات الشمالية التي أقرّتْ تحرير العبيد. لكنه ظل الشاعر الوحيد الذي ربح مالا من شعره أثناء عبوديته. ثمة شعراء كثيرون أبدعوا قصائد تطالب بالحرية وتنشدها، لكنّ هورتون قد يكون الشاعر الوحيد الذي كتب الشعر ليشتري به حريته!
قبل هورتون، في زمن أشد حلكة وظلما، نشأت فيليس ويتلي في رعاية أسرة أمريكية بيضاء متحضرة، فتعلمت القراءة والكتابة، وحين قدمت ديوانها الشعري إلى ناشر سنة 1772، لم يصدق أن أَمَةً سوداء تستطيع كتابة شعر جميل كشعرها، حتى إنه طلب من لجنة قراءةٍ أن تفحص الديوان ليتأكد من أنها لم تنتحل شعر غيرها لنفسها. كأن الإبداع محرمٌ على البشرة السمراء!
أما بول دنبار، فقد نجا من العبودية لكن أبويه كانا من العبيد، فقد قاتل أبوه في جيش الاتحاد، الذي مثّل الولايات الشمالية دفاعا عن حريته أيضا. ويعتبر دنبار من الممهدين لنهضة هارلم الشعرية. وحتى نفهم طبيعة نهضة هارلم، يتعين علينا تأمل مرحلة ما بعد الحرب الأهلية، التي ذكرتها آنفا. لقد تحرر العبيد، لكن حقوق السود كانت سرابا. فدنبار مثلا كافح حتى تخرج في المدرسة العليا، لكن بسبب التفرقة العنصرية أصبح عاملَ مصعدٍ في أحد الفنادق، وكان يكتب الشعر في أوقات راحته.
لم تُترجَم قصائد هورتون وويتلي إلى العربية، لكنّ لدنبار قصائد جميلة مترجمة، يتضح في بعضها بعض ملامح الشعر الأفروأمريكي بوجه عام، وملامح شعر هارلم بوجه خاص. فهي تجنح نحو الطبيعة، ذاكرتُها مفعمة بالغابات الأفريقية البكر ومساحات العشب اللامتناهية، كما تفيض بالظمأ للحرية والرفض الصارخ للظلم. يقول دنبار في قصيدة "تعاطف":
"أعرف ما يحسّ به الطائر في القفص
لحظةَ تلمع الشمس على المنحدرات العالية،
لحظة تمضي الريح رقيقة وسط العشب الطالع،
... ويشدو أول طائر من طيور الصباح،
ويتفتح أول برعم،
لحظة ينسلّ العطر الرهيف من تاج زهرته،
أعرف ما يحس به الطائر في القفص".
هذا شاعر لم يولد في أفريقيا لكنها تجري في عروقه.
يقول جيمس ويلدون جونسون، الذي يعد من أهم شعراء نهضة هارلم في قصيدة "منذ ما ذهبتِ":
"يبدو لي كما لو أن النجوم لم تعد تلمع لمعانها
يبدو لي كما لو أن الشمس فقدت ضياءها
... يبدو لي كما لو أن السماء فقدت ما يزيد على نصف زرقتها
... يبدو لي كما لو أن الطائر نسي أغنيته".
تسيطر الطبيعة الأفريقية على لوحات النص. وأحبّ، هنا، أن أتأمل قليلا صورة السماء التي فقدت نصف زرقتها. ثمة دهشة وابتكار في هذا التصوير. فكثيرا ما تأمل الشعراءُ السماءَ، ووصفوها أوصافا شتى، لكنّ تخيُّلَها وقد فَقَدَتْ نصفَ زرقتها لم يخطر في بال أحدهم ممن عبّروا عن غياب الحب في حياتنا، وافتقادنا لشيء ما ضاع منا بسبب غياب الحبيب.
ورغم أن القصيدة مترجمة، ولم تُتَرْجَم بوزن ولا قافية، فإن إيقاعها يصلنا واضحا، بموسيقاه التي تتأسس على تكرار بنية "كما لو أن" وعلى تكرار الضمير المضاف إلى الكلمات الأخيرة في السطر. وهذا ملمح مهم للشعر الأفروأمريكي: الاحتفاء بالموسيقى.
هؤلاء السود متشبّعون بتقاليد الشعوب الشفاهية السمراء. هي شعوب غير متعلمة في مجملها، منغمسة في حياة الغابات وفي موروثاتها الجماعية البدائية؛ فالقبيلة تنشد أغانيها وصلواتها معا مرتديةً خرزها الملون وأصباغها المستمدة الطبيعية القوية. هذا الاحتفاء بالألوان والموسيقى البكر صبغ إبداع السود في شتى نواحيه.
يمضي كلود مكاي (أحد رموز نهضة هارلم أيضا) في اللعب بالألوان والظلال إلى حدود الغرابة. يقول في قصيدة "المدينة البيضاء":
"هذا الألم الأسمر
الذي يستحوذ عليّ في أي حالة كنتُ
ويخلق لي جنتي في جحيم العالم الأبيض".
يضفي الشاعر سُمْرَتَه على الألم مجترحا مجازا مبهرا.
أما لانجستون هيوز، الذي كان أيضا أحد مؤسسي نهضة هارلم، فهو يتكئ على جماليات شعرية أخرى، منها تعرية القبح على نحو مباشر، خال من زخرفة المجاز. يقول في قصيدة "ما زلت هنا":
ضُرِبتُ إلى أن ملأتني الندوب والكدمات
بعثرتْ آمالي الريح.
جعّدتني الثلوج
وشَوَتْني الشمس
يبدو أنهم أضمروا محاولة أن يجعلوني
أكفّ عن الضحك، أكفّ عن الحب...
لكني لا أبالي
فما زلت هنا".
ليس في القصيدة صورة شعرية ولا مجاز بالمعني الذي نعرفه، بل هي صيحة غاضبة لا تطمح إلا إلى تحدّي عنجهية القمع.
وفي قصيدته "عاشق الجمال في هارلم"، يصوّر هيوز الحياةَ تصويرا مباشرا، عاريا تماما:
"غريب أنني في حي الزنوج هذا
أقابل الحياة وجها لوجه،
وأنا الذي -منذ سنين-
كنت أبحث عنها
في أماكن ألطف كلاما
إلى أن أتيت إلى هذا الشارع القذر
ووجدتُ الحياةَ تحاذي خطايَ".
هذه العزيمة التي لا تكلّ هي التي تلهم المتضامنين مع فلويد في شتى أنحاء العالم.
*ترجمة القصائد المختارة وإطارها التاريخي مقتبس من كتاب "وجه أمريكا الأسود.. وجه أمريكا الجميل" للمترجم أحمد شافعي.
رواية "كأنها نائمة" وبناء حكاية النكبة
قراءة في رواية (عَين القِطّ) لحسن عبد الموجود