الكتاب: "عبد الناصر وثورة يوليو فى ميزان التاريخ"
المؤلف: حلمي سلام
إعداد وتقديم: آمال حلمي سلام
الناشر: المكتبة الأكاديمية- القاهرة، 2018
يعتبر شهر تموز (يوليو) واحدا من أهم شهور السنة في مصر، لسبب بسيط، أنه شهد حدثين سياسيين بارزين، الأول كان في العام 1952، حين عمد الضباط الأحرار إلى إنهاء العهد الملكي والتأسيس للنظام الجمهوري، والثاني في العام 2013، حين عمد وزير الدفاع يومها عبد الفتاح السيسي إلى إيقاف المسار الديمقراطي.. وفي الحدثين استلم العسكر الحكم.
وفي الحدثين معا احتاج قادة المؤسسة العسكرية المصرية إلى التعاون مع واجهات ثقافية وإعلامية، قادرة على تحويل واقع القوة إلى فعل ثقافي وسياسي عبر أقلام ومؤسسات إعلامية رعتها وتحكمت فيها المؤسسة العسكرية ذاتها..
الكاتب والباحث الفلسطيني عبد القادر ياسين، اختار أن يعيد قراءة تجربة ثورة تموز (يوليو) 1952، من خلال تجربة واحد من الرموز الإعلامية، التي رافقت الثورة منذ بواكيرها الأولى، وارتبط بقادتها واشترك معهم في الحلم، ويتعلق الأمر بالكاتب والإعلامي حلمي سلام، الذي تقلب في مؤسسات إعلامية مختلفة قبل وبعد ثورة تموز (يوليو).
ولد ليكون زعيما
تحت عنوان "عبد الناصر رجل وُلد ليكون زعيمًا!" جاء الفصل الثالث، وفيه رأى سلَّام "أن خطأ الذين يجرِّدون، أو يحاولون تجريد عبد الناصر من كل موقف عظيم، ومن كل إنجاز عظيم، مساو، تمامًا، في تقديري، لخطأ أولئك الذين يحاولون تبرئته من كل خطأ". وأوضح سلام أن في عبد الناصر "من (الجَمَل) كل شيء فيه؛ منه اسمه، ورسمه، وصبره، وقوة تحمُّله، وأيضًا قدرته المذهلة (الثأر)... فقد منحه الله بسطة في الجسم، أضفت عليه كثيرًا من الهيبة، ثم جاء ذلك الشيب، الذي مشى، مبكرًا، في فوديه، فزاده هيبة. وكان قليل الضحك، قليل الكلام، أقرب أن يكون خجولاً، بطبعه، أكثر منه مجترئًا، مقتحمًا. وكان مستمعًا، ذا صبر عجيب على الاستماع ـ بالإضافة إلى قدرة جبارة على ضبط النفس، تحت أقسى الظروف، وأصعب الأزمات". أما غالبية أعضاء "مجلس قيادة الثورة"، فأخذوا ينسحبون من تحت الأضواء، واحدًا بعد آخر؛ بعضهم صفق باب مجلس الثورة، بأقصى العنف، وهو يغادره، لآخر مرة... وبعضهم شاء أن يُحدث (فرقعة)... (وهكذا)، تفرَّق الصحاب، وكان حتمًا أن يتفرقوا" (ص 129، 130).
انتقل سلَّام إلى تقديم المشير عبد الحكيم عامر، فوصفه بأنه "رجل الوفاء، والشهامة"، مؤكدًا بأن عامر هو "النقيض، تمامًا، لشخصية صديق عمره... عامر شخصيته بسيطة، ودودة، ومرحة، كان يتذوَّق النكتة... (و) يُقبل على الأخرين، وعلى الحياة نفسها، بقلب مفتوح، وبعقل مفتوح... وكانت مشكلته الحقيقية مع نفسه؛ أنه كان يعتقد أن الناس جميعًا مثله... (فكان)، خروج أكثر من مؤامرة، وأكثر من انحراف من بين جدران مكتبه، في القاهرة... ودمشق... وعلى الرغم من هذه الأحداث الأليمة... إلا أنه أبى أن يستفيد منها، في تغيير شيء مما كان يُعتبر نقاط ضعف في شخصيته... لم يكن عامر...حذرًا، كعبد الناصر، ولا فوَّارًا، كصلاح سالم، ولا غامضًا، كزكريا محيي الدين، ولا ماكرًا، كالسادات... كان نسيجًا وحده، كل ما يعتمل في أعماقه تبوح به عيناه، وكل ما يدور في ما رآه ينطق به لسانه، بلا حذر، وبلا غموض، وبلا دهاء، (لذا، فإن) السياسة، بالتالي، كانت آخر ما يصلح له" (ص 131ـ 133).
لأن عامر كان "أشد الرفاق وفاءً لشخص عبد الناصر"، فقد عمد الأخير إلى ترقيته، في حزيران/ يونيو 1953، من رتبة "صاغ" (رائد)، إلى رتبة "لواء"، وعُيِّن قائدًا عامًا للقوات المسلحة المصرية. وقد اعترض عبد اللطيف البغدادي على هذه الترقية الاستثنائية، التي رآها بغدادي تهدف إلى إحكام قبضة عبد الناصر على القوات المسلحة، من خلال صديق عمره. لكن وضع هذه القوات تحت قيادة عامر، غدت مصدر "الصداع الأليم" لعبد الناصر المرير، بين صديقيْ العمر. حتى أن عبد الناصر حاول، غير مرة، إبعاد عامر عن القوات المسلحة، بعد كل خطأ كبير وقع فيه الأخير، من حرب السويس (1956)، وفي انهيار الوحدة المصرية ـ السورية (1961)، وآخرها هزيمة 1967 المدوِّية (ص 139- 140).
نسب المؤلف إلى عامر أنه رأى، مبكرًا، بأن لا ينزلق "مجلس قيادة الثورة" إلى "مأزق الحكم"؛ "فإذا أخطأ الذين يحكمون، فإن الناس سوف يلجأون إلينا، ويلوذون بنا. أما إذا حكمنا نحن، وأخطأنا... فإنه لن يكون أمام الناس إلا أن يسخطوا علينا، ويثور ضدنا". على أن عامر "لم يستمر، كما بدأ، راغبًا عن السلطة، وزاهدًا عنها، بل لعل العكس، تمامًا... إذ يبدو أن السلطة كالخمر، لا يملك من يشرب منها الكأس الأولى، إلا بأن يتبعها بأخرى، حتى تدور رأسه، ويفقد توازنه، وتضيع من عينيه كل معالم الطريق. ولقد تأكد هذا الشغف الغريب بالسلطة، من جانب عامر، في أعقاب انهيار الوحدة مع سوريا...الذي اعتُبر عامر مسؤول عنه، بدرجة أو بأخرى؛ بالنظر إلى ما كان رجال مكتبه، في القاهرة... ودمشق يرتكبونه، في غفلة منه" (ص 139- 142). أي أن سلام يعيد هذا الشغف بالسلطة إلى "عملية تعويضية" عن المهانة التي لحقت بعامر، في سوريا، أثناء تنفيذ انقلاب الانفصال.
صراع عبد الناصر وعبد الحكيم عامر
لقد أسفر الفصل الختامي من صراع القمة، بين عبد الناصر، وعامر، عن سقوط الأخير من فوق القمة، وإن رجَّح سلام بأن عامر قد قُتل، ولم ينتحر، كما زعمت الأوراق الرسمية، والشهود. وبرأي سلام، فإن الانتحار لا يلجأ إليه إلا الجبان، بينما عامر كان "ثوريًا شجاعًا"، "صعيديًا... اشتُهر... بالعناد، والتحدي، والإصرار، الذي يكاد يكون (جاهليًا) على الأخذ بالثأر... لو كان يريد الانتحار، كنوع من التكفير عن خطأ جسيم، وقع فيه... لكان أقدم على الانتحار، في اليوم التاسع، أو في اليوم العاشر من حزيران (يونيو)" (ص 142- 145).
عن مسؤولية عامر عما حدث في حرب 1967، رأى سلام أنها تنحصر في "موافقته على ما اتخذته القيادة السياسية" من قرارات، في صدد هذه الحرب. قبل أن يسرد سلام وقائع الخاتمة المأساوية، التي أفضت إلى مقتل عامر. وانتقل سلام إلى أنور السادات، وقد تعرف عليه، بعد تبرئة السادات من مقتل أمين عثمان، وقام سلام بالدور الرئيسي في توظيف السادات صحفيًا في "دار الهلال"، الأمر الذي لم يُشر إليه الأخير، حين أرَّخ لنفسه، بل حكى ثلاث حكايات متعارضة، عن بدء عمله في الصحافة، ما أكد نفور السادات من الصدق، والوفاء، في آن (ص 155- 164).
حين قامت ثورة يوليو، انتقل سلام للعمل في "مؤسسة التحرير"، وقد ترأس السادات مجلس إدارتها، واستقبل سلام بفتور، وعدم الاكتراث، حتى أن السادات كان لا يقرأ الافتتاحية الأسبوعية التي يكتبها سلام بتوقيع السادات! ولما قبل عبد الناصر، على مضض، إعطاء سلام إجازة مفتوحة من رئاسة تحرير أسبوعية "التحرير"، رضوخًا لتهديد صلاح سالم، فإن السادات تجاهل طلب عبد الناصر إليه، بأن يُبلغ سلام الأمر بنفسه. لكن السادات أوكل هذا الأمر لسكرتيره!
ثمة خلط في التواريخ، إذ إن سلام لم يُرد الاتصال بعبد الناصر، لمعرفة سبب الإجازة المفتوحة؛ وأعاد سلام ذلك إلى أن عبد الناصر "كان غارقًا في ردود الفعل التي أحدثتها (صفقة الأسلحة التشيكية)"، فتوجه سلام إلى عامر، ومنه عرف السبب (ص 166). بينما حدثت صفقة الأسلحة التشيكية بعد هذا التاريخ بأكثر من عام.
سلام وهيكل وأصل السادات
مع هذا كله، حين أصدر هيكل كتابه "خريف الغضب"، الذي أكد فيه أن أسرة السادات أصلها من العبيد، وأن لقب عائلته "الساداتي"، أي عبد الأسياد، أو السادات، فإن سلام تصدى لهيكل، مؤكدًا عدم دقته فيما زعم، وذلك بالوثائق، نافيًا أن تكون فكرة كتاب هيكل قد جاءته، وهو رهين سجن مزرعة طرة. فأمر لا يجوز، لأن السادات أودع هيكل السجن، وقبلها انتزعه من فوق قمة "مؤسسة الأهرام"، ناهيك عن أن السادات اتهم هيكل بأنه عميل أمريكيّ! علمًا بأن هذا كله ما كان يبرر لهيكل البحث، والتنقيب عن "نقاط ضعف"، ومحاولة النيل من منبت السادات، برأي سلام. الذي اكتفى في تحليل شخصيات بعض أعضاء "مجلس قيادة الثورة" بالجانب الأخلاقي فحسب، بينما ثمة سؤال سياسي كان يمكن توجيهه لهيكل، مؤداه إذا كان السادات مرفوضًا من قبله، فلماذا انحاز إليه ضد اليسار الناصري، الذي عُرف باسم "مراكز القوى" (أيار/مايو 1971)؟! حتى أن المفكر التقدمي المصري د. فؤاد زكريا سارع إلى إصدار كتاب، في شكل سهم قاتل إلى كتاب هيكل ذاك، حمل عنوانًا ماكرًا، وهو: "منذ متى خريف الغضب؟".
صحيح أن سلام لم يحب السادات، لكن الأول عانى أكثر من مؤامرات هيكل ضده، لذا تعامل سلام مع هيكل بمنطق "التار البايت".
تضمن الفصل السادس عدة مقالات، حاولت الإساءة لثورة يوليو، مع ردود سلام عليها. أما الفصل السابع فخُصص لمقالات عن سلام "الكاتب والقلم في عيون الآخرين".
وبعد، فنحن أمام كتاب يُحلل شخصيات قادة ثورة يوليو، عبر سلوكياتهم، وأخلاقهم، ما يُكمل كتابات اعتمدت المنهج الطبقي، والسياسي. وفي اعتقادي أن الملامح الثلاثة تُقدم الصورة كاملة، بوضوح، عن ثورة لا تزال مسار جدل، بكل ما لها، وما عليها.
إقرأ أيضا: عبد الناصر وثورة يوليو في ميزان التاريخ.. شهادة إعلامي 1من2
"فجر الضمير".. كتاب عن جذور القيم والأخلاق في مصر (2من2)
"علامات على طريق طويل".. قراءة في تجربة محمد حسنين هيكل
كتاب "مورسكيو الهورناتشوس: المصلوبون وعلى رؤوسهم تيجان الشوك"