أن تكون دولة لها تنظيمها وترتيبها لمحفل ضخم مثل الحج أو غيره من المحافل والمهرجانات فهذا حق مشروع، ولكن ما يمارسه النظام السعودي في ظل إحكام قبضته القاهرة على الحج والعمرة والوصول للديار المقدسة في الحجاز، أمر فاق التوقعات، وهذا ما يستغربه المسلمون في أصقاع المعمورة من جعل الحج والعمرة مصيدةً للمعارضين لأنظمة النظام السعودي، وهو من أبرز داعميها وهذا ما لم تفعله قريش حتى في جاهليتها، حيث القيم ومكارم الأخلاق تحكم مجتمعا حراً.
حرمة البيت الحرام
فكلنا يعرف جيدا عن حرمة البيت الحرام حتى أن القرشي لو رأى قاتل أبيه في الأشهرالحُرُم لا يثأرمنه في الحرم إجلالا للحرم وللشهر الحرام، ومع هذا فالنظام السعودي منذ زمن ليس بالقريب ينتهك كل حرمةٍ ويتجاوز كل خط أحمر في الشهر الحرام والبلد الحرام، فصار بذلك بيت الله وحرم رسوله صلى الله عليه وآله وسلم مصيدة لكل قادم إليه، ممن رصد عليهم النظام عبر مخابراته ومراكزه الإسلامية المنتشرة في العالم أنه انتقد النظام السعودي في موقف ما أو كان له أي موقف معارض، مع أن البيت الحرام في الحجاز ليس لدولة ولا لشعب ولا لقبيلة أو أسرة بل هو لكل من أَمَّهُ وقصده راغبا في الحج والعمرة، وهنا نجد أن القران يؤكد على هذا المعنى في مواطن عديدة فالله جل وتعالى يقول في سورة آل عمران:
"إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ"، وفي آية أخرى من سورة الحج: "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ۚ "، وثالثة في سورة إبرهيم أبي الأنبياء يقول جل شأنه: "ربَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ"، فالتركيز هنا في النص القراني على كلمة "الناس" ومبدأ أنه لا يجوز أن يمنع أحد من الوصول للحرم مهما كانت مبرراته ومقاصده، فهو للناس والسيادة فيه لله والعبادة للناس جميعا، ولا يستثنى أحد مهما كان إلا بموجب جُرْمٍ تُقِرُّه البشرية لا على حسب أهواء الحكام ونزوات إرهابهم للشعوب عبر التضامن مع طواغيت العرب الذين لاهم لهم إلا كتم أنفاس شعوبهم، وقد منع النظام السعودي آلافاً من العلماء وطلاب العلم والمفكرين والمثقفين لا، بل حتى الفنانين هناك من هو مرضيٌّ عنه ومن هو مسخوط عليه!!
في أهم اجتماع تاريخي للمسلمين تُهمَّش محور قضايانا وركيزة اهتمامنا ونقطة دائرة أمتنا ألا وهي قضية "فلسطين" فأين هي من خطبة عرفة؟ بل من خطب الحرمين وتحريك الأمة للتبصُّرِ في آلية تحريره من الصهاينة المغتصبين؟
فمن منا ينسى الشيخ راشد الغنوشي عندما كان ببريطانيا عام ٢٠٠٧م فأرجع بإحرامه بالطائرة التي جاء فيها وهو بلباس الإحرام؟ والدكتور طارق السويدان وفئام يطول حصرها من أهل العلم والفكر والدعوة ممن جاء للحج والعمرة، وهذا النظام السعودي قد ارتكب خطايا لامثيل لها لمَّا جعل بيت الله وحرمه مصيدة يسلِّم من خلالها الحُجَّاج والعُمَّار لحفتر وللقذافي من قبل، وللسيسي، بل كل من يجرحه بهمسة أو موقف ربما يكون غير معلن فحينها لا وصول لتأشيرة الحج والعمرة، وهذا متقرر عند أهل الإسلام ـ باستثناء مشايخ النظام السعودي ـ أنه من الصد عن سبيل الله والذي نهى الله عنه قريشاً في الجاهلية، فجاء آل سعود ليمارسوه باسم الإسلام والمصلحة التي أطلقتْ أيديهم حتى في الإسلام نفسه.
القطريون ممنوعون من الحج للعام الرابع
هنا نجد وفي هذه الأتون حصارا ظالماً لشعوب وليس لجماعات كـ "الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين" من خيرة أبناء الأمة يتقدمهم العلامة يوسف القرضاوي ومعه أعضاء في الإتحاد بلغ عدهم تسعين ألفاً، في حين تَطوَّرَ النظام السعوي فراح مغاضبا ببلطجة لا نظير لها ليمنع شعباً بأكمله من من آداء فريضة الله والحج والعمرة لا.. بل طردهم من الأراضي الحجازية، حيث الحرمين الشريفين في مكة والمدينة، ذلك ما كان منه تجاه شعب قطر المسلم العربي الخليجي تربطه روابط الدم والرحم، وبكل مكوناته من مواطنين ومقيمين ناهيك عن تعقيدات لامثل لها، وهذا دونما شك يضرب اللقب الذي حاول حكام الدولة السعودية التلقب به وهو "خادم الحرمين الشريفين"، فخادم البيتين لا يصد الناس عن قصدهما والتوجه إليهما مخالفا بذلك مسلَّمَاتِ الإسلام بل مخالفا بذلك حتى القوانين الدولية فيمنع للعام الرابع شعب "قطر" المسلم الجار العربي الخليجي، فمهما اختلفت القيادات السياسية وأيَّاً كانت خلافاتها فما الذي يُقْحِمُ الشعوب في أداء واجباتها الدينية؟!
ومن عجائب ما يتشدق به النظام السعودي والمدافعون عنه، أن الحج يقع فيه ما هو محظور أمني وفيه خطورة على أمن البلاد وأمانها، وهو يعني بذلك ما يحصل من اجتماع الناس على الخير والعمل الصالح والتقاء المسلمين والعرب على ما فيه نفع أوطانهم، وهذا ـ لعمْري ـ مخالف لمعنى ومقاصد الحج، بل لمنطوق السياسة التي مورست في الحج، حيث مارس صلى الله عليه وآله وسلم السياسةَ من منبر عرفات وأعلن ميثاق حقوق الإنسان: "وإن أول ربا أبدأ به عمي العباس بن عبد المطلب" أليس هذا حديثا في السياسة؟!
فما عسى أنْ ينقم النظام السعوي على أبناء المسلمين الغيارى الحريصين على مصالح شعوبهم؟ وقصص لاحصر لها، حيث كان لنقاشات السياسة في الحج وعمر بن الخطاب يحاسب عماله وولاته على الأقاليم فيعين هذا ويعزل آخر..
وثنية سياسية
ومن معالم التسييس فاقعة الإضجار أن خطب الحرمين الشريفين والمفتين في منى وخطبة عرفة لايذكر فيها إلا ما يوافق هوى النظام السعودي ورغباتِه الجانحة في تركيع الناس له، وسرديات امتنان ما يقدِّمه في الحج من خدمات فاشلة على مرِّ العقود الماضية، إذْ راح الآلاف ضحايا سوء التنظيم، والفتاوى المتحجرة التي لا تراعي دماء الحجاج بل تراعي رغبة الحاكم، ولا يمدح خدمات الحج ويثني عليه إلا مرتزق أو ساذج، مع أن المسلمين يدفعون ثمن حجهم فَلِمَ المنَّةُ عليهم؟ حتى بات ذلك الآداء الديني الباهت تأسيساً للوثنية السياسة ومن منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في إلباس الحكام لباس الألوهية.
وفي أهم اجتماع تاريخي للمسلمين تُهمَّش محور قضايانا وركيزة اهتمامنا ونقطة دائرة أمتنا ألا وهي قضية "فلسطين" فأين هي من خطبة عرفة؟ بل من خطب الحرمين وتحريك الأمة للتبصُّرِ في آلية تحريره من الصهاينة المغتصبين؟
ومن هنا تُطِلُّ مسألة "تدويل الحرمين" كل عام لأمور عديدة ومسائل متشابكة، ولمن يُثَرِّبُ على من يدعو لها، نقول له: إنْ كنتَ جَهِلْتَ التاريخ فلا تطبِّل جهلاً، فإن أول داعٍ للتدويل هو مؤسس الدولة السعودية الثالثة: الملك عبدالعزيز آل سعودعام 1926 ليتوقَّى غضب المسلمين في أنحاء الدنيا أنْ كيف يستولي على الحجاز ووعد المسلمين بذلك وخان العهد وكذب في الوعد كما هو مذكور كلام أول سفير له في لندن الشيخ / حافظ وهبة، ومع هذا فمسألة التدويل باتت هامة في طرحها في ظل فشل نظام لم يرعَ هذه المقاماتِ النبوية والمكية حق رعايتها، ولدى المسلمين والعرب اليوم من العقول نضجاً وهندسةً ومعماراً وتنظيماً ما هو أنفع وأجدى للحرمين والحجاز الشريف..
ولازال العرب والمسلمون منذ فجر التاريخ يقدمون للحرمين الشريفين كل ما يمكن أن يسهم في خدمتهما من الكسوة المقدسة لمقامه المقدس، حيث جسده الشريف في المدينة المنورة، وكسوة الكعبة المشرفة، ووَقْفِ الأوقاف عليهما لرعاية مصالحهما، والغريب حقاً أنه لم يمتنَّ أحدٌ من قبل على الحرمين الشريفين وأهلهما أنه قدَّم لهما خدمة لأن الناس بحكامها وتجارها وعامتها وأهل اليَسار فيها، كانت تعتقد أن من يقدم للحرمين وأهلهما شيئاً فهو المحظوظ المقرب لله، حيث كانت يده سحَّاء على أهل حرم الله وحرم رسوله صلى الله عليه وله وسلم ، وهذه من المفارقات العجيبة. ونظرا لما آل إليه أمر الحرمين الشريفين فلا أقل من تناهض الهمم لبحث حال الحرمين والسعي لتأدية دور الحج بمقاصده السّنِيَّة وليس بنظرات النظام الضيقة.
*مدير مركز الجزيرة العربية لتعزيز الحريات
عشر ذي الحجة وذكرى نداء التوحيد والحرية
محكمة العدل الدولية تنصف قطر ضد الخارجين عن القانون!