لا يؤرخ لجريمة إحراق المسجد الأقصى في 21 آب/ أغسطس عام 1969 بوصفها حدثا منفردا خارج سياق الصراع العربي ـ الإسرائيلي الممتد منذ بدايات القرن الماضي، وإنما هي ضمن سلسلة من الإجراءات والجرائم التي قام بها الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 1948 بهدف طمس الهوية الحضارية الإسلامية والعربية لمدينة القدس وأقصاها، ولا زالت مستمرة حتى اللحظة الراهنة.
حاول الاحتلال كعادته أن ينسب الحريق ووقوع الحادث بفعل تماس كهربائي، لكنه لم يستطع أن يخفي الحقيقة طويلا، فعاد الاحتلال إلى تقديم رواية مغايرة بأن شابا أستراليا اسمه دينيس مايكل روهان هو المسؤول عن الحريق، وخلص الاحتلال إلى أنه شاب مجنون لا يعي تصرفاته!!
ويحسم "المؤرخون الجدد" الهوية الفكرية للإرهابي روهان المولود عام 1941 بأنه "مسيحي صهيوني" كان ينتمي لواحدة من الكنائس الإنجيلية المسيحية باسم "كنيسة الرب العالمية". وكان روهان من أصحاب النزعات التي تؤمن بعودة المسيح، وأن شرط ذلك هو "عودة بني إسرائيل إلى أرض فلسطين" وبناء ما يسمى "الهيكل الثالث".
ووجد روهان الفرصة سانحة أمامه إلى تحقيق هذه النبوءات، لذلك كان يردد أمام معارفه بأنه "مبعوث الرب" لهدم الأقصى، ومن ثم التحضير لبناء "الهيكل الثالث"، ومن ثم عودة المسيح.
وكان وصوله إلى فلسطين عام 1969 لهذه الغاية رغم ادعائه بأنه جاء للسياحة، فقد انضم مباشرة إلى إحدى "الكيبوتسات" اليهودية الزراعية بالقرب من مستوطنة "نتانيا"، وكان يعبر بين الحين والآخر أمام الآخرين عن شعوره بأنه يهودي "مكلف من الإله بمهمة عظيمة".
ولتنفيذ ما خطط له انتقل روهان إلى القدس، واستأجر غرفة في فندق "ريفولي"، وقضى جل وقته في القدس متجولا ومتفقدا للمسجد الأقصى وساحاته لدراسة هدفه على أرض الواقع.
حاول روهان إشعال الحريق في المصلى القبلي عن طريق أحد مداخله في الجهة الجنوبية الشرقية، بالقرب من محراب زكريا، وذلك بالاستعانة بفتيل وبعض من البترول، إلا أنه فشل في ذلك.
في صبيحة يوم الجريمة توجه إلى باب الأسباط، ومن هناك إلى باب الغوانمة وتوجه إلى المصلى القبلي. أخرج من حقيبته وشاحا كان قد أغرقه بالبترول، وفرشه على عتبات درجات منبر صلاح الدين، وصب فوقه المزيد من البترول والبنزين، وأشعل فيه النار بالكبريت.
خرج روهان من المصلى القبلي، وأكمل طريقه ماشيا، وما لبث أن بدأ بالركض بعد سماعه لصوت صراخ ونداء بعض المصلين، واستقل حافلة إلى كيبوتس "مشمار هشارون" حيث اعتقل بعدها بيومين.
كانت اعترافات روهان ومحاكمته الصورية متطابقة مع أقوال الشهود، فيما استند الدفاع في المحكمة إلى ادعاء واحد وهو أن روهان مريض نفسيا، وأنه يعاني من انفصام في الشخصية من نوع "جنون العظمة"، أو ما يسمى "الانفصام الارتيابي".
وقررت المحكمة الإسرائيلية أن روهان غير مؤهل للمحاكمة نظرا لوضعه الصحي النفسي، وأنه كان عند تنفيذ جريمته تحت تأثير أوهام وتخيلات، ولم يستطع السيطرة على نفسه، ولم ينفذ جريمته من واقع إرادته الشخصية الحرة، وفق تعبير المحكمة.
وبذلك، أقرت المحكمة بأنه لا يقع عليه العقاب، وأمرت بإخلاء سبيله وإدخاله المستشفى للعلاج. وفي عام 1974، وبعد ضغوطات من العائلة، وبسبب ما قيل عن وضعه النفسي، عاد روهان إلى أستراليا، وتوفي هناك عام 1995. وحتى تاريخ وفاته كان يؤكد البعض أنه لم يكن يعاني أيّا من أعراض الجنون أو أي شيء من هذا القبيل.
ولم يقف الاحتلال عند حدود تبرئة الإرهابي روهان، وإنما قام قطع المياه عن المنطقة المحيطة بالمسجد، وتعمدت سيارات الإطفاء التابعة لبلدية القدس التأخير حتى لا تشارك في إطفاء الحريق، وجاءت سيارات الإطفاء العربية من الخليل ورام الله وساهمت في إطفاء الحريق.
وطال الحريق منبر صلاح الدين الأيوبي الذي يعتبر قطعة نادرة مصنوعة من قطع خشبية، وهو المنبر الذي صنعه نور الدين زنكي، وحفظه على أمل أن يضعه في المسجد بعد تحريره، فلما مات قام صلاح الدين الأيوبي بنقله ووضعه في مكانه الحالي بعد تحرير المسجد من الصليبيين.
كما تضرر مسجد عمر الذي كان سقفه من الطين والجسور الخشبية، ومحراب زكريا المجاور لمسجد عمر، ومقام الأربعين المجاور لمحراب زكريا.
إضافة إلى ثلاثة أروقة مع الأعمدة والأقواس والزخرفة، وجزء من السقف الذي سقط على الأرض خلال الحريق. وعمودين رئيسيين مع القوس الحجري الكبير تحت قبة المسجد. والقبة الخشبية الداخلية وزخرفتها الجبصية الملونة والمذهبة، مع جميع الكتابات والنقوش النباتية والهندسية عليها.
كما تضرر المحراب الرخامي الملون، والجدار الجنوبي وجميع التصفيح الرخامي الملون عليها، وثمان وأربعون نافذة مصنوعة من الخشب والجبص والزجاج الملون والفريدة بصناعتها وأسلوب الحفر المائل على الجبص؛ لمنع دخول الأشعة المباشر إلى داخل المسجد.
ولحق الحريق بجميع السجاد العجمي. ومطلع سورة الإسراء المصنوع من الفسيفساء المذهبة فوق المحراب. وأخيرا، الجسور الخشبية المزخرفة الحاملة للقناديل والممتدة بين تيجان الأعمدة.
كان لهذا العمل الإجرامي ردة فعل غاضبة في فلسطين والعالم الإسلامي، وقامت المظاهرات في كل مكان، وكالعادة شجب القادة العرب هذه الفعلة، وكان من تداعيات هذه الجريمة إنشاء منظمة "المؤتمر الإسلامي"، التي تضم في عضويتها جميع الدول الإسلامية.
وأثار الحريق استنكارا دوليا، وأصدر مجلس الأمن الدولي قرارا بأغلبية 11 صوتا وامتناع أربع دول عن التصويت من بينها الولايات المتحدة الأمريكية، أدان فيه الاحتلال الإسرائيلي ودعا إلى إلغاء جميع التدابير التي من شأنها تغيير وضع القدس.
وكان الملك الراحل الحسين بن طلال أمر بعد إحراق المسجد الأقصى بتشكيل لجنة من العلماء والمهندسين والفنانين المختصين؛ لإعادة إعماره قبة الصخرة المشرفة، والمباني الدينية الأخرى في محيطه وتبرع بتكاليف الإعمار كاملة.
وقام مهندسيون أردنيون بإعادة تصنيع "منبر صلاح الدين" ونقله إلى المسجد الاقصى عام 2007 بنفس القياسات والتصميم والشكل والخشب والعلامات والآيات والخط العربي، التي تميز بها المنبر الأصلي، فيما وضع الملك عبدالله الثاني اللوحة الزخرفية الأولى في المنبر الجديد، واستمر بدعم ترميم باقي الأجزاء التي أصابها الحريق، وإعادتها إلى ما كانت عليه في العهد الأموي الأول.
ويتعرض المسجد الأقصى منذ احتلاله عام 1967 لاعتداءات متواصلة، أبرزها اقتحامات وزراء ونواب بالكنيست وأفراد الشرطة والمستوطنين ومحاولتهم أداء طقوس دينية، وهو ما يؤدي إلى توتر في المسجد، فضلا عن سلسلة قرارات تهدف إلى الهيمنة عليه وتقسيمه زمانيا ومكانيا بين المسلمين واليهود.
فيما لا تزال مقولة رئيسة وزراء الاحتلال غولدا مائير: "عندما حرق الأقصى لم أنم تلك الليلة، واعتقدت أن إسرائيل ستسحق، لكن عندما حل الصباح أدركت أن العرب في سبات عميق"، لا تزال هذه العبارة الساخرة والسوداوية حاضرة بيننا، إذ لا يزال العرب في سبات عميق، وتحول بعضهم إلى سدنة للاحتلال وحلفاء له وجزء من رؤيته السياسية للمنطقة.
"يافا".. هل كانت الطعنة الغادرة في القلب؟ لاجئة تجيب
تاريخ الرياضة الفلسطينية.. "على هذه الأرض مايستحق الحياة"
النكبة واتجاهات تطور المتاحف الفلسطينية