تخوض الشاعرة العربية مشوار إثبات وجودها، ورحلة البحث عن هوية كيانها وفاعلية صوتها الذي غُيب عبر العصور لأسباب متعددة.
وعلى الرغم من كل المحاولات يظل المتن الأنثوي مغيبا في شعرنا العربي، والإنساني عامة، فهي بذلك إشكالية كونية يعانيها شعر المرأة، فهو لم يأخذ حقه من الحضور الفاعل والوصول إلى الأنا الأنثوية والتطابق مع تركيبها الروحي والجسدي بسبب خضوعها إلى ظروف اجتماعية قاهرة خارجة عنها، لعلها طبيعة المجتمعات الذكورية التي جعلت من الشاعر الوصي على التجربة الشعرية.
لذلك يرى الناقد السعودي محمد العباس في كتابه "سادنات القمر، سرانية النص الشعري الأنثوي"، طبعة (2015) أن الإقرار باستواء "مخيلة أنثوية" مستقلة قادرة على الانفكاك من سطوة المخيال الذكوري ووصايته قد تأخر كثيرا، رغم الدعاوى بوجود ميراث شعري نسوي ضاع أكثره بسبب القمع الذكوري.
وعلى الرغم من أن الشعوب الضاربة في التاريخ الإنساني شهدت حضورا لافتا للمرأة، إلا أن السيطرة الذكورية، فيما بعد، أزاحتها عن عرشها وجعلتها في الهامش، وأصبحت مبعثا للغواية.
فأول نص شعري مكتوب في تاريخ البشرية يعود إلى السادنة السومرية انهيدوانا ابنة سرجون الأكدي قبل أن تُطرد المرأة من الكتابة، أما إيقاع اللهفة الأيروسية / الجسدية فيعود إلى الشاعرة الإغريقية سافو، فهي صاحبة الميراث الشعر الأنثوي الأهم، ما دعا أفلاطون، الذي نادى بطرد الشعراء من جمهوريته، إلى المطالبة بإضافتها إلى مصاف الآلهة، وهكذا تناقل العالم القديم قصائدها وأغنياتها قبل أن تأمر الكنيسة بإحراقها ومنعها من التداول.
على صعيد تاريخ الأدب العربي برزت عدة شاعرات، وقد أحصت بعض الناقدات أكثر من ستين شاعرة جاهلية بين مقلّة ومكثرة، غير أن هذا الإحصاء لا يقف في صالح المرأة الشاعرة، كما أن كفاءته، على الأغلب، غير قائمة، وظل الشعر الذكوري المهيمن على التجربة الشعرية برمتها.
وحتى شعر الخنساء، المثال الأبرز لشعر المرأة، فهي تكتسب حضورها من باب الرثاء والأخلاق، بيد أن أغراض شعرها لا يدل على أنه شعر نسائي، فهو فقير في الجانب الشخصي والحميمي الذي يميز شعر المرأة على كل العصور.
اقرأ أيضا : جمالية التعبير في شعر مهدي نصير
ثمة طفرات شعرية شهدتها بعض العصور العربية، كما يذهب العباس، كالعصر الأندلسي الذي أفرز عددا كبيرا من الشاعرات، ضمن شرط تاريخي استثنائي ظهرت فيه شاعرات أرستقراطيات؛ كمهجة القرطبية، ونزهون بنت القليعي، وولّادة بنت المستكفي وأبياتها المشهورة التي طرزت على عباءتها بماء الذهب:
أنا والله أصلح للمعالي وأمشي مشيتي وأتيه تيها
أمكّن عاشقي من لثم خدي وأعطي قُبلتي من يشتهيها
غير أن هذه التجارب المتعددة لا تؤسس لحركة شعرية أنثوية مقنعة في ظل هيمنة ذكورية.
تعرض شعر المرأة العربية إلى نقد حاد وتحيز واضح من الشعراء القدامى؛ فقد قلل المعري من قيمة ليلى الأخيلية، كما سخر من شعر الخنساء، كذلك ذهب بشار في تحيزه إلى أنه " لم تقل امرأة شعرا قط إلا تبين فيه الضعف"، مؤكدا ضرورة وجود الفحولة والذكورة، ومثل هذه الآراء جعلت النص الشعري الأنثوي محصورا في حيز التقليد والتناص بالشعر الذكوري، مما أدى إلى تهميش المرأة الشاعرة.
وصية فرجينيا وولف
مع كل هذا التهميش والتحيز الذكوري الذي تعرضت له الشاعرة العربية بخاصة، والعالمية بصورة خاصة، يغدو النص الشعري، كما يذهب العباس، فرصتها للنفاذ إلى حرية الحضور بالكلام الحر، من خلال الإحساس بالطبيعة الأنثوية ومبررات القضية النسوية بما تتمثله كحركة شعرية من خلال الرغبة الحادة في تهميش العادات الفحولية.
وهكذا أصبحت الكتابة الأنثوية ظاهرة عالمية لها تبعاتها الإنسانية، وقادرة على تحطيم الصرامة المعيارية الاجتماعية التي رسمت حدوده مسبقا، وهذا ما يفسر تنامي دافعية المرأة الشاعرة على تأكيد ذاتها الأنثوية خاصة في المجتمعات المرتبكة عموما، وهذا لم يتم إلا بعد نضال طويل من أجل تحرر المرأة من تبعيتها وهامشيتها ضمن الحركة العالمية لتحرر المرأة، أخذاَ بوصية فرجينا وولف "غرفة خاصة بها".
فكل الضجيج الأنثوي خرج من هذه الغرفة لتحريض المرأة على عدم الامتثال لوصاية الأدب الذكوري، بحيث تصر على مخالفته اجتماعيا وأدبيا، وهو ما أدى إلى الوعي بالذات والإحساس المتطرف بضرورة حضورها. وقد تأكد هذا الإصرار بحصول التشيلية غابرييلا ميسترال على جائزة نوبل عام 1945.
يؤكد العباس، في غير موضع، تخلف المرأة العربية شعريا عن الرجل، وشبه الانمحاء التام للمنجز الشعر العربي المعاصر، طارحا تساؤلا عن بواعث هذه الظاهرة السلبية المؤكدة لحقيقة الوهن الشعري الأنثوي، وهذا التساؤل يأخذ نبرة الاتهام، ليس بالنسبة للشاعرة العربية فحسب، ولكن لكل الحركة الشعرية النسوية.
القراءة التاريخية تؤكد ذلك القصور التعبيري في النص الشعري الأنثوي، رغم الطابور الطويل من الأسماء، وترده إلى أسباب كثيرة يأتي في مقدمتها التغييب القسري للذات الأنثوية، لولا بعض الطفرات الفردية، فالذات الأنثوية لم تخسر التعبير الفني كما خسرت حرية الحركة ، وتكون الخسارة أكثر فداحة عندما لا يترجم ذلك الوجع والتوق إلى كلمات أو نصوص شعرية مقنعة.
فالمرأة الشاعرة ما زالت تعيش ككائنات محبوسة في ذوات امتثالية تعيش تحت وصاية رجولية، وتصف بعض الشاعرات العربيات بالشعر بأنها سرية وبأنها عاشتها كعلاقة غير مشروعة بحدة وقلق، وبمتعة يشوبها إحساس بالذنب.
فهذه الكائنات قدرها أن تحلم أكثر مما تمارس وجودها، وإذا ما حاولت الحضور بالشعر استعانت بالرجل واستعارت صوته وأدواته وعلى طريقته، لتظل كائنات مغلولة لا تمل من التقنع.
وهكذا فقد النص الأنثوي بعض مبرراته الوجودية، ولم يعد من وجهة النقد الذكوري المتطرف سوى استعارة أنثوية لمزاج الرجل، كما هو الحال في شعر سعاد الصباح فهي تؤنث نزار قباني، وهكذا يتم تحديث الذات الأنثوية خارج غرفة فرجيينا وولف، فأغلب الشاعرات أقرب إلى التأثر بالشعراء وليس بأسلافهن أو مجايليهن من الشاعرات.
ظلت كثير من الكتابات الشعرية الأنثوية في المجمل، تأنيثا لمفاهيم ذكورية، وليس ثمة انقلاب تعبيري على نظام الكتابة الشعرية الذكورية، مثلما الحال في عائشة التيمورية التي راحت تردد بصوت الأنثى مفاهيم الذكورة والفحولة الشعرية العربية لتقول الغزليات، لتسجل الفشل في تجاوز تقاليد الشعر العربي.
ومع كل هذا تظل نضالات الشاعرة العربية حاضرة في أجل تأكيد ذاتها الشاعرة، فقد شهد النصف الثاني من القرن الماضي وما تلاه بروز شاعرات عربيات مبدعات على قدر من الوفرة والتنوع والمغايرة، كما اتسم بالغنى في الأصوات والمخيلة، وعكَس، بشكل لافت، التطورات الهامة التي حدثت في العالم العربي، وعدت هذه القصائد دلالة على التغيير الثوري والأصيل في الشعر العربي، وغدت هذه الأصوات النسوية قوة تغيير حقيقية في عالم عربي يعاني من الارتباك.
وهكذا استطاعت الشاعرة العربية أن تمنع الرجل من مصادرة قصائدها، وأن تعيد حضور انثى جديدة بمواصفات أحدث تعبر عن دواخلها العاطفية والأيروسية بكل صراحة.
تهويمات وهلوسات محمد عفيف الحسيني