رغم افتتاح مسجد "أيا صوفيا" أمام العامة والمصلين والسياح منذ نحو شهرين، إلا أن هيبة المكان والتاريخ بقيت ماثلة، زادتها دهشة التقاء جموع الزائرين والسائحين من مختلف الأديان، تحت قبته الشامخة التي أضفت على الجميع السكينة والأمان.
يبهرك تنوع ألسن وأشكال الداخلين إليه، للصلاة أو التأمل أو حتى للراحة في جنبات ساحة السلطان أحمد، الساحة الأكثر شهرة بمنطقة الفاتح المحاذية له.
هو الآن قبلة الأتراك الأولى للتنزه وقضاء الوقت مع أسرهم وأطفالهم، لم يعد معلما يرتاده السياح وحدهم فقط كما كان في السابق.
في تجوال صحيفة "عربي21" بالمسجد الضارب في التاريخ، لرصد أبرز الانطباعات بعد شهرين من افتتاحه، سجل القلم والكاميرا وجود زوار من كافة أنحاء العالم، في صورة خيبت آمال الذين راهنوا على أن "إرجاعه لمسجد"، سيحد من الزوار غير المسلمين احتجاجا على القرار.
وفود كبيرة وحشود غفيرة متعددة الجنسيات تجوب أرجاء المكان المهيب، مترجمون لكل اللغات على أهبة الاستعداد لإرشاد السائلين والسائحين والزوار، يقفون لاستقبالك مرحبين ومتطوعين لمرافقتك للشرح وتبيان تاريخ هذا الصرح العريق بكل لطف ووضوح، غطاء رأس متوفر للجميع، واستعداد أمني دائم للمساعدة والتوجيه.
لم تغب جائحة كورونا عن المشهد، بل حضرت إجراءاتها الوقائية والصحية التي طالت الجميع، مشفوعة بتعليمات وإرشادات أشرف عليها المعنيون قبل الدخول حرصا على السلامة.
روح جديدة تنبعث من المكان، وأركان تملؤها الحياة، زاوية مخصصة للصلاة والدعاء والذكر وأخرى يتجمع فيها طلبة العلم، سياح يلتقطون الصور داخل وخارج المسجد، وموظفون متخصصون يروون للزائرين قصص الزمان والمكان والإنسان، بلغة التسامح والترحاب.
اقرأ أيضا : "عربي21" تلتقي بقارئ عربي اختير بافتتاح آيا صوفيا (فيديو)
في تجوالها التقت "عربي21"، بأحد رجال الأمن المكلفين بحفظ الأمن والنظام، كانت سعادته غامرة أن تم اختياره للخدمة، قال: "أيا صوفيا التاريخ والحضارة والملاحم، كم كانت فرحتي غامرة حين سمعت عن قرار إرجاعها إلى مسجد من قبل الرئيس أردوغان، زادني فخرا وشرفا أن أكون أحد طواقم الأمن الخادمة داخله".
وأضاف: "جميع الأتراك سعداء بالقدرة على أداء شعائرهم الدينية في المسجد كما كان قبل 80 سنة، قلة فقط من رأت غير ذلك".
وعن تأثير السياح على الصفة الدينية للجامع، وكثرة زيارته علق: "المشكلة في الحقيقة لا تكمن بالسائح وحده بل هي مشكلة عامة نعاني منها على الدوام مع الجميع، وهي الالتزام بآداب المسجد وحرمته".
كان لافتا ربطه الجميل بين أيا صوفيا والمسجد الأقصى حين قال: "أملي أن أصلي الآن بالقدس والمسجد الأقصى كما استطعت الصلاة هنا".
في تجوالنا المستمر تحدثنا لزائر عربي من السودان، كانت ملامح الفرحة بادية، تحدث بحماس عن فرحته من إرجاع صفة المسجد لأيا صوفيا، "بالأصل كان مسجدا قبل أن يحول، ما حدث أمر جميل وتأثيره ليس مقتصرا على الأمة التركية وحدها بل هو رمزية للأمة الإسلامية جمعاء".
وخلال حوارنا مع الزوار التفتت إلينا مواطنة تركية تشجعت للحديث بعد معرفتها أننا صحفيون نسجل الانطباعات، وقالت بتلقائية: "لست ممن صوت لحزب العدالة والتنمية (الحزب الحاكم بتركيا)، ولا أعد نفسي متدينة بشدة، لكنني سعيدة جدا لتحويل المتحف إلى جامع، فرحتي كبيرة لأن الشعب التركي بمختلف مكوناته مدرك لما جرى بكونه تعبيرا عن استقلال سيادة بلادنا عن الغرب".
بدوره تحدث أحد الواعظين بإحدى زوايا المسجد للصحيفة بحرقة وحماس: "أشعر اليوم وكأنني أحد جنود جيش الفاتح، أشعر بالفخر والسعادة كل يوم وأنا بالمسجد".
المفاجأة الكبرى التي أدهشتنا كانت طبيعة المتحلقين حول هذا الواعظ الشاب، الذي كان يتحدث باللغة الروسية، كانوا سياحا زائرين عابرين، جلسوا بمحض إرادتهم ورغبتهم للاستماع وبدا عليهم الاندماج الكبير، ويكأنهم مسلمون متفرغون ومنقطعون للدروس والاستماع للوعظ والإرشاد.
واصل الواعظ حديثه بفخر وهو يشير بيده لأبوين ارتادا المسجد بصحبة ولدهما الصغير، وقال: "تربيت كمثل هذا الطفل على أن هذا المكان جامع رغم أنه في حينها كان متحفا، كلنا ورثنا عن آبائنا هذا الإيمان بأنه جامع".
في غمرة تجوالنا صدح الأذان بصوت عذب زادته عراقة الجدران والأعمدة والقبة بهاء ورزانة مع تردد الصدى بجنبات المكان، فهرع أفراد الأمن للطلب من السياح مغادرة المسجد للتفرغ للصلاة، وسط إنصات لافت من لدن كثيرين من غير المسلمين لكلمات الآذان وعباراته.
دفعنا الفضول للاقتراب من سائحة روسية للسؤال عن شعورها، قالت: "نحترم طلب الأمن بالمغادرة فهذا مكان عبادة ويتكرر بكل أماكن العبادة مهما كانت، نحن لا تعترض على تحويل أياً صوفيا إلى جامع طالما يسمح لنا بزيارته بحرية".
انتهت الصلاة وسلم الإمام، وانصرف المصلون إلى أشغالهم، وعادت الأجواء إلى ما كانت عليه، همهمات وتعليقات الزوار عادت لتملأ المكان.
اقرأأيضا : "جلي" أيقونة آيا صوفيا
في غمرة تسجيل الانطباعات كان حرصنا كبيرا على ملاقاة القطة "غولي"، إحدى أيقونات المسجد، والتي اشتهرت وأصبحت مدار سؤال واستفسار الزوار، بعد شيوع قصتها بوسائل التواصل، وإهداء العاصمة أنقرة لها مؤنسا هو القط "قليج"، لكن محاولاتنا باءت بالفشل.
اقرأأيضا : القطة جلي ستبقى بمسجد آيا صوفيا بعد أن كانت تقطن المتحف
القط الهدية من انقرة "قليج "