في مطلع الأسبوع الماضي حدث تداول واسع لصور لأشخاص يقومون بتعبئة عدة صناديق بمواد تموينية، مقرونة بكلام يفيد بأن أولئك الأشخاص إسرائيليون يعملون على تجهيز مواد إغاثة لتوصيلها إلى منكوبي الفيضانات في السودان، ورغم أن الفبركة كانت واضحة فقد نشرت تلك الصور في صفحتيّ العامة والشخصية في فيسبوك، وقلت إنه في حال تقديم إسرائيل لأي عون للسودان، فسيقع السودان في حيص بيص: إذا قبل العون يكون قد قبل مقدم الصداق للاقتران بإسرائيل عبر الآلية المسماة التطبيع، وإن رفضها حاق به غضب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي صار متحمسا لشطب السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، لا حبا في السودان، بل حبا لأصوات اليهود الأمريكيين، الذين ولا شك سيرفعونه إلى مرتبة الألوهية، إذا نجح في ضم السودان إلى البحرين والإمارات في المسيرة نحو تل أبيب.
وكان لفبركة الصور تلك وما صاحبها من كلام ما يبرره، فقد ظل الأمريكيون والإسرائيليون يرددون خلال الأسابيع القليلة الفائتة أن التطبيع بين السودان وإسرائيل وشيك، ثم جاءت زيارة رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان إلى أبو ظبي، للقاء طحنون بن زايد الممسك بملف العلاقات بين إسرائيل والإمارات، والأمريكي ميغيل كوريا أحد مهندسي الوفاق الإماراتي ـ الإسرائيلي.
وعلى ذمة موقع أكسيوس الإخباري فإن الطعم الذي يتم التلويح به أمام السودان لرفع اسمه من قائمة الدول الراعية للإرهاب، يتمثل في عون غذائي بقيمة 1.2 مليار دولار، ومنحة فورية قيمتها 3 مليارات دولار، مع تعهد إماراتي أمريكي بتقديم المزيد من الدعم الاقتصادي للسودان.
ونشرت المعلومات أعلاه في صفحتي في فيسبوك، وكان حصادها مع ما سبق أن نشرته حول أمر التطبيع من المداخلات والتعقيبات أكثر من ثلاثمائة ألف، وفاجأني أن أكثر من ثلث المعقبين على المنشورين كانوا لا يرون بأسا في تطبيع العلاقات بين السودان وإسرائيل، وهناك من قال إنه لا يعارض التطبيع ولكن بشرط رفع "السعر" قليلا؛ وكما هو متوقع فقد قصف رافضو التطبيع التطبيعيين براجمات: عملاء/ خونة/ خارجون عن الملة؛ فرد مناصرو التطبيع: ما لنا والعرب/ مصلحة بلادنا فوق مصالح الفلسطينيين إلخ.
أدهشني أن يكون نحو 30% ممن تداخلوا في أمر التطبيع في صفحتي في فيسبوك كانوا من المؤيدين له، ولو تم عرض هذا الأمر للنقاش على أبناء وبنات جيلنا قبل أربعة عقود لكان الرفض لمبدأ العرض والنقاش حوله، من منطلق أن ذلك في حد ذاته "خيانة" لمبدأ الانحياز التام وغير المشروط لحق الفلسطينيين في دولة ذات سيادة على حدود ما قبل حرب حزيران (يونيو) 1967.
جاءت العولمة وصاحبها تسليع كل شيء، والمشتري هو من يملك المال الوفير، والبائع هو المعوز الفقير، وشيئا فشيئا تجاوزت عمليات البيع والشراء مجالات المواد الخام والسلع الضرورية والكمالية، ودخلت سوق المبادئ والأخلاق
وكان تبرير تأييد التطبيع مستندا في معظمه على ثلاثة أمور، أولها مصلحة البلاد، من زاوية أن التطبيع سيؤدي إلى رفع العقوبات الاقتصادية الأمريكية عن السودان، ونسي هؤلاء أن الوعد الأمريكي برفع العقوبات عن السودان كان رهينا بمنح جنوب السودان حق الانفصال عن الوطن الأم، وحدث الانفصال ولم يحدث رفع العقوبات، وثانيهما أن السودان ليس أفضل من الدول العربية التي مارست التطبيع سلفا، ولكن الغريب في أمر القائلين بذلك أنهم هم أصحاب مقولة "مالنا نحن والعرب"، وثالثهما أن الفلسطينيين هم رواد التطبيع، ولنا أن نسأل القائلين بذلك: ما هو الطبيعي في أمر العلاقة بين الفلسطينيين وإسرائيل، بل حتى في أمر العلاقة بين إسرائيل والقيادات الفلسطينية التي ارتضت اتفاقيات الذل التي قادت إلى نشوء السلطة الفلسطينية على نتفٍ من أرض فلسطين؟
تذكرت كيف ناصر جيلنا ثورات الجزائر وفيتنام واليمن الجنوبي وأنغولا وموزمبيق، وكيف نشأت حركات شعبية قوية في معظم دول العالم لمناصرة الحق الفلسطيني، بدرجة أن منظمات في إيطاليا واليابان رفعت السلاح دفاعا عن ذلك الحق، وكان تعاطفا وتأييدا لا يقومان على العرق أو الدين أو الثقافة بل على حق الإنسان أينما كان في الحرية والكرامة.
ثم جاءت العولمة وصاحبها تسليع كل شيء، والمشتري هو من يملك المال الوفير، والبائع هو المعوز الفقير، وشيئا فشيئا تجاوزت عمليات البيع والشراء مجالات المواد الخام والسلع الضرورية والكمالية، ودخلت سوق المبادئ والأخلاق، ولهذا كان أن رحب بعض من يتابعون صفحتي في فيسبوك بالتطبيع بين الخرطوم وتل أبيب بشرط رفع التسعيرة، وفات عليهم مضمون المثل الخليجي الذي يفيد بأن الطرار (المتسول) لا يستطيع فرض شروطه على المانح.
كان هناك تكتم شديد على زيارة البرهان الأخيرة لأبو ظبي، ولكن وزير الاعلام السوداني قال إن البرهان والوفد المرافق له ليسوا مفوضين لبحث أمر "التطبيع"، ولكن سبق للبرهان أن التقى برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بدون تفويض، والراجح عندي أنه (البرهان) يأمل في أن يخرج من الأمريكان بصفقة مسيلة للعاب شركاء الحكم في الخرطوم، فيحظى بمناصرتهم لمسعاه التطبيعي، ويصبح رجل واشنطن في الخرطوم، وليس بخافٍ على أحد أن البرهان يريد أن يصبح رئيسا للسودان، لا شريك له من المدنيين كما هو الحال الآن.
هل ستدفع مصر ثمن التطبيع الإماراتي-الإسرائيلي؟
الإرهابُ للشعوب والتطبيعُ للأنظمة