قدم الأكاديمي المصري المتخصص في العلوم السياسية، والخبير في الحركات الإسلامية، الدكتور كمال حبيب في سلسلة مقالات بحثية ينشرها تباعا، قراءة نقدية تحليلية لعشرة كتب باعتبارها كتبا مرجعية مؤسسة للعنف حسب تصنيفه لها.
وقال حبيب في حوار مع "عربي21": "كنت من أتباع الرؤية التفسيرية التي تقول بأن الواقع والسياسات والسجون والقهر هي المسؤولة عن إنتاج العنف، لكنني مع التعمق كباحث في العلوم السياسية، وأستاذ لها وجدت أن الواقع ليس وحده هو المسؤول، إذ لم يكن أيمن الظواهري قد دخل السجن قبل أن يسعى لتأسيس تنظيمه، بل كانت لديه أفكار في رأسه دفعته إلى ذلك".
ولفت إلى أن مؤلفي الكتب العشرة التي قام بدراستها ونقدها، وبيان مكامن الخطأ فيها يلتقون على فكرة مركزية تتمثل بـأنهم يسعون إلى "إعادة ترتيب منظومة الدين وفق اجتهاداتهم بجعل أفكارهم المركزية هي الحاكمة على منظومة الدين كما عرفها المسلمون قبلهم".
وقلل حبيب من قيمة الاتهامات التي عادة ما توجه إلى أصحاب المراجعات الفكرية والفقهية داخل الحركات الجهادية، بأنها نتاج الضغوط الأمنية وتمت تحت إكراهات الاعتقال والسجون، وليست وليدة مراجعات ذاتية محضة، واصفا إياها بأنها "لا تستحق الرد عليها"، ومشددا في الوقت نفسه على أهمية المراجعات والتفكير النقدي.
وذكر أنه سُجن عشر سنوات، وأنه أول من قدم مراجعات فكرية حول أزمة العنف والتنظيمات السرية وضرورة بناء نظرية سياسية جديدة للحركة الإسلامية، وله كتاب مهم بعنوان (الحركة الإسلامية من المواجهة إلى المراجعة)، وكتاب آخر بعنوان (تحولات الحركة الإسلامية والاستراتيجية الأمريكية).
وعبر عن هدفه من وراء نشره لهذه القراءات النقدية بقوله: "نحن ننزع عن هذه الكتب طابع القداسة ونحولها بتفكيكنا ونقدنا إلي كونها كتب طبيعيه عادية، أو نضئ لمبات للتنبيه ولخلق الوعي حين التعامل مع تلك الكتب بحيث لا تأخذ قراءها إلي مناطق ومسافات هي أبعد ما تكون عن عقولهم ونفوسهم وربما لم يكونوا يرجون لأنفسهم أن يكونوا فيها.
وأكدّ حبيب أن خلاصة ما يسعى إليه عبر هذه القراءات النقدية فتح الأفق "لاجتهادات جديدة، ومؤلفين جدد، وأفكار جديدة، بأكثر ألف مرة مما نرى الآن، وحينها سوف توضع كل الأفكار في حجمها الطبيعي ووزنها المعتاد بلا تكفير ولا جاهلية ولا خصام مع الدنيا والعالم، ولا فكر تآمري ولا وسوسة، ولا عدم ثقة بالذات هذا هو ما نسعى إليه".
فيما يلي الجزء الثاني من المقابلة:
س ـ هل أفكار الكتب ـ محل القراءة والنقد ـ ومضامينها تؤسس للعنف بحق أم أن المتلقي هو من يشحنها بتلك المعاني والدلالات تحت إكراهات الواقع وضغوطاته الشرسة؟.
ـ الكتاب لا يعمل وحده وإنما يعمل في سياق أزمة، وكافة الكتب ومؤلفيها كتبوا مؤلفاتهم في سياق أزمات، فالمودودي كتب كتابة في سياق احتلال بريطاني للهند، وقطب كتب كتابه في السجن في سياق مواجهته مع الدولة الناصرية التي اعتبرها دولة جاهلية، وصالح سرية كتب كتابه في سياق أزمة اعتباره أن تنظيم الإخوان تقاعس ولا بد من حركة جديدة، والفريضة الغائبة في سياق أزمة نهاية عصر السادات، وأفغانستان وما كتب فيها أزمة وكارثة، واحتلال العراق كان كارثة كبرى استخدمت فيها كتب فقه الدماء وإدارة التوحش والجامع لطلب العلم الشريف .
وعلينا تجاوز الكتب المأزومة بعد كل ما جرى لنؤسس لكتب متحررة من سياق الأزمات وواعية بها. كتب الأزمات خلقت ما أطلق عليه إسلاما مواجها يدعو للإجلاب والمواجهة وللتنظيمات السرية والمسارعة لنيل قطعة من السلطة والجري للوصول إلى السلطة بدون أدوات، في تركيا مثلا تحدثت في كتابي عن "الدين والدولة في تركيا" عن الإسلام المشارك، هذه الكتب خلقت عقولا مسكونة بعالم المؤامرة والذهاب إلي عوالم المهدوية والفتن وآخر الزمان ودابق للمواجهة مع العالم ، تكلمت بخطاب وعظي عاطفي يدغدغ المشاعر، وأنت ستكون في الصدارة بينما حين تتحدث بلغة الحقائق والعلم فإن هذا العقل الكارثي يربكك جدا، لا بد من تأسيس لعلم اجتماع جديد للحالة الإسلامية يتجاوز المودودي وقطب وسيد إمام ليفتح النوافذ لعلم كلام جديد يؤسس لمفاهيم مختلفة .
س ـ يجادل الكثيرون بأن العنف يتولد من رحم سياسات القهر والقمع الذي تمارسه أنظمة الاستبداد والفساد في حق الدعاة المصلحين، ويأتي الفكر لاحقا ومتأخرا، فلماذا يغفل من يلحون دائما على ضرورة المراجعات الفكرية، والقراءات النقدية عن ذلك ويمرون عليه مرور الكرام؟
ـ هناك نظريتان في القصة، وكنت أنا من أتباع الرؤية التي تقول أن الواقع والسياسات والسجون والقهر هي المسؤوله عن العنف، لكنني مع التعمق كباحث في العلوم السياسية وأستاذ لها، وجدت أن الواقع ليس وحده هو المسئول، فلم يكن أيمن الظواهري قد دخل السجن قبل أن يسعي لتأسيس تنظيمه، كانت لديه أفكار في رأسه، وكان يذهب لمحمد خليل هراس ولمسجد أنصار السنه بقوله .. إذن المسألة ليست واقعا فقط ولكن الفاعل الاجتماعي المهدوي الملهم ( بفتح اللام ) ، ثم الجماعة التي يشكلها ويضم الناس إليها..
وإذا كان الواقع هو المسؤول فهل نعفي نحن أنفسنا من المسؤولية؟ وهل نحن لم نكن طرفا على الأقل في استخدام هذه الكتب لاتباع سبيل مستقيم لتغيير هذا الواقع؟
وما أريده للأفكار القديمة للمودودي وقطب وغيرهم، أن تكون كتبا عادية نقرؤها ونستمتع بقراءتها ونستفيد منها، لكن لا نتصور أنها مواثيق للحركة والعمل تحدد لنا ما يجب علينا فعله، طبعا الإنسان يحب الأيديولوجيا الكلية التي تجيبه على الأسئلة كلها فتريحه ويشعر بالسعادة، أما الطور الجديد لنا فإنه ليس بحاجة للأيديولوجيا ولكنه بحاجة أكثر إلى معرفة أكثر بالعالم والواقع والسياسة والسياسات الصغيرة وعلوم الإدارة والاجتماع ومناهجها وتفتح الأبواب للشباب الجديد، نريد حديثا عن السياسة وإدارة المدن والحياة وكيف نحقق للناس الاكتفاء والغنى والشعور بالكرامة والحرية .
الحالة الإسلامية دارت دورة كاملة وثبت أن هناك مشكلة كبيرة في طرائق العمل والتفكير، نحن أمام مشكلة حضارية كما أوضح مالك بن نبي "الذي أهملته الحركة الإسلامية في مصر تماما، بينما استلهمت قطب وحده، نحن أمام حركات أرهقها ثقل الأيديولوجيا ذات الطابع العقدي المهدوي، ولا بد من فتح نوافذ جديدة للتفكير .
نريد اجتهادات جديدة ومؤلفين جدد وأفكارا جديدة، بأكثر ألف مرة مما نرى الآن، وحينها سوف توضع كل الأفكار في حجمها الطبيعي ووزنها المعتاد بلا تكفير ولا جاهلية ولا خصام مع الدنيا والعالم ولا فكر تآمري ولا وسوسة ولا عدم ثقة بالذات هذا هو ما نسعى إليه .
س ـ ثمة من يشكك في استقلالية غالب أصحاب المراجعات الفكرية، وكذلك أصحاب القراءات النقدية والتفكيكية ـ مثل مراجعتكم الحالية ـ لأنها برأيهم نابعة من رحم التوجيهات والضغوط الأمنية، وليست وليدة مراجعات فكرية نقدية ذاتية التوجه والمسار.. كيف تناقش ذلك الاتهام؟.
ـ هذه اتهامات لا تستحق الرد عليها بصراحة، فأنا سجنت عشر سنوات، وكنت أول من قدم مراجعات فكرية وليست فقهية حول أزمة العنف والتنظيمات السرية وضرورة بناء نظرية سياسية جديدة للحركة الإسلامية، ولي كتاب مهم بعنوان: (الحركة الإسلامية من المواجهة إلى المراجعة)، وكتاب آخر مهم في نفس السياق بعنوان (تحولات الحركة الإسلامية والاستراتيجية الأمريكية)، وكنت أعددت كتابا جديدا بعنوان: (الحركة الإسلامية من المراجعة إلى المشاركة)، وكدت أنشره قبل الثورة لولا خلاف مع الناشر، وبعد أن وصل الإسلاميون إلى الحكم قلت الكتاب لم يعد له قيمة فقد وصل الإسلاميون إلى الحكم ولما غادروه بعد عام قلت الكتاب أصبح له قيمة من جديد .
س ـ هل تتوقع أن مجرد كتابات نقدية تغلب عليها الكتابة الصحفية، لا يحظى أصحابها بحضور وتأثير في أوساط الشباب المستهدف يمكن أن يكون لها ذلك الأثر في تحفيزهم على التفكير النقدي وعدم التسليم لتلك الكتب أو الانسياق وراء أفكارها؟.
ـ نحن نقدم ما يوجبه علينا ضميرنا وأخلاقنا، وعلينا أن نعمل وليس علينا أن ندرك النتائج، وأعتقد أن كثيرين جدا ممن التقوا بي في حياتي الطويلة داخل الحالة الإسلامية منذ عام 1976 قد استقادوا مني فكريا بدرجات مختلفة، وأظن أن مراجعتي الفكرية المبكرة في مطلع التسعينيات فتحت الباب أمام مراجعات من جاء بعدنا، لكني واثق أن هذه الحالة تشارف على أفول ونهايات، وأن الجديد يحتاج إلى نظر مختلف واجتهاد جديد .
س ـ هل مراجعة الكتب المؤسسة والمنشئة للغلو والعنف، ونقدها نقدا علميا وفكريا متينا كفيل بالقضاء على كل أعمال العنف أم أن جدية معالجة تلك الظواهر يتطلب تشخيص الأسباب الحقيقية المنشئة للعنف، من ثم معالجتها بجرأة وإرادة سياسية فاعلة؟.
ـ أبحاثي وآرائي معروفة في أن مسألة العنف مسألة مركبة فيها السياق الاجتماعي والسياسي والسياسات العامة، وفيها الفاعل السياسي والاجتماعي وتوجهاته النفسية والطبقية وحتى الجهوية، وفيها التنظيمات التي ينتمي إليها الفاعلون الاجتماعيون وطريقة إدارتها والتزام ما تطالب به تلك التنظيمات داخلها من دولها.
وأنا أقول إن التنظيمات السرية والطريقة القديمة في التصورات حول الوصول إلى الإصلاح أو التغيير لم تعد صالحة، وأن الجماعة الوطنية والأمة هي الأساس وأن الانتماء إليها هو الأصل وأنها بحار المياه الكبيرة بالنسبة لنا لا نغادرها إلى القنوات الصغيرة وهي بالنسبة لنا كالسمك لا يمكننا العيش إلا داخلها ومن يريد العمل فليعمل من خلال مؤسسات الأمة الحديثة كالنقابات والإدارات المخلتفة والشركات وإذا كانت تلك لحظات أزمة فإنه لايصح إلا الصحيح.
ما يتاح لنا من مساحات للعمل بين أمتنا دون الانفصال عنها أو مفارقتها أو عزلتها أو وصمها بأي وصمة لا سمح الله نحن نثق في هذه الأمة وفي شعوبنا، وفي فئات مجتمعاتها كلها والعمل من خلالها خير من العمل في سياقات سرية أو مظلمة أو مجرمة، وتغيير الواقع وسياساته والبيئة المحيطة هو الأساس .
نحن نريد أن ننزع عن هذه الكتب طابع القداسة ونحولها بتفكيكنا ونقدنا إلى كونها كتب طبيعية عادية، أو نضيء لمبات للتنبيه ولخلق الوعي حين التعامل مع تلك الكتب، بحيث لا تأخذ قراءها إلى مناطق ومسافات هي أبعد ما تكون عن عقولهم ونفوسهم وربما لم يكونوا يرجون لأنفسهم أن يكونوا فيها.
إقرأ أيضا: أكاديمي: العنف نتاج الواقع والفكر وهذه أبرز الكتب المؤسسة له