1- "نظرية" قيس سعيد في الحكم
قد يكون من باب التجوز استعمال مفردة "نظرية" ونحن نتكلم عن شعارات يرددها الرئيس التونسي قيس سعيد، فهو صاحب مقولة "الدستور هو ما يكتبه الشباب على الجدران"، وهو الذي يخاطب الناس "أنتم تريدون، وهنيئا لكم أنكم تريدون، فلا تسمحوا لأحد بأن يريد بدلا عنكم". وقد عبر مرارا عن عدم اعترافه بالأحزاب، وظل يقدم نفسه مقتديا بالخليفة العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ويعد بإسعاف أي "بغلة" تعثر في ربوع البلاد، محاولا تمثّل روايات نقلها التاريخ من سيرة الصحابي الجليل، فإذا بقيس سعيد يحمل "كردونة" من المواد الغذائية ويبحث في الجموع عن صاحب بيضة قيل اشتراها طعاما له، ولم يقدر على سواها من الفقر.
قيس سعيد الذي حدد الدستور صلاحياته يريد "توسعة" نفوذه ويرفض أن يقترب أي كان من مجال حركته، لذلك ظل "يهش" على "الرئاسة" ولا يكف عن التذكير بأنه "لا وجود إلا لرئيس واحد لتونس في الداخل والخارج"، كما ظل في كل مناسبة يتحدث عن "مؤامرات" وعن "غرف مظلمة" وعن "خيانات" وعن "مرضى القلوب" وعن "المنافقين". لم يكن يتوجه بخطابه ذاك إلى جهة محددة، ولكنه كان دائما يرسل الكلام بغير عناوين.
لم يسمعه التونسيون يتكلم في طرائق التنمية أو في السياسة الخارجية أو في مقتضيات السيادة الوطنية أو في مسارات الثورة أو في الوحدة الوطنية، لقد كان قيس سعيد مشغولا دائما بالدفاع عن صلاحياته وعن موقع الرئيس.
كان واضحا للمتابعين أن قيس سعيد منزعج من "حجم" راشد الغنوشي السياسي، حجم يستمده من ثراء تجربته ومن اتساع علاقاته الداخلية والخارجية، ومن سعة اطلاعه ومن قوة حركته. الغنوشي الذي لم ينزعج الباجي رحمه الله من ممارسته لـ"الدبلوماسية الشعبية"، أصبح "مزعجا" للرئيس قيس سعيد، وكأنه يحجب عنه "المستقبل" ويقلل من حضوره دوليا ويُضعف حضوريته في أعين التونسيين والأجانب.
2- قيس سعيد وتحالفاته الخاسرة
قيس سعيد ليس له (حتى الآن) حزب سياسي، وهو يستمد "قوته" من عدد الناخبين باعتباره منتخبا انتخابا مباشرا بما يشبه "التفويض"، إذ كان فوزه على منافسه في الدور الثاني فوزا ساحقا، ذاك "الفوز" لم يكن في الحقيقة معبرا عن "حجم" قيس سعيد السياسي، بقدر ما كان معبرا عن حجم التخوف من فوز منافسه الذي تعلقت به شبهات فساد، الذي قيل في شأنه الكثير مما يخيف التونسيين. يقول الكثيرون إنهم لم ينتخبوا قيس سعيد ليكون رئيسا، وإنما انتخبوه حتى لا يكون منافسُه رئيسا.
يبدو أن قيس سعيد لم يقرأ جيدا المزاج الشعبي، ولم يتأمل طبيعة ذاك "الفوز" الذي شاركت فيه النهضة بكل قوة وحماسة. ظن قيس سعيد، أو ربما زيّنوا له، أنه صاحب تفويض من الشعب عليه ألا يُفرّط فيه وألا يسمح لأي كان بمزاحمته فيه.
حاول كل من حركة الشعب والتيار الديمقراطي الاقتراب من الرئيس الجديد، بل و"الاستفراد" به، وحتى التأثير عليه بغاية وضع خارطة طريق لمنع حركة النهضة الفائز الأول في الانتخابات من تشكيل الحكومة، وفي مرحلة ثانية إذا تمكنت من تشكيلها، العمل على إفشالها، لذلك كانت شروط الحزبين للمشاركة مع النهضة في الحكم تعجيزية، ورغم استجابتها لتلك الشروط، إلا أنهما صوتا في البرلمان ضد حكومة الحبيب الجملي، فعاد التكليف إلى رئيس الجمهورية.
كانت فرصة لقيس سعيد في امتلاك المبادرة، أيضا في الاطمئنان على كون سلطات الرئيس ستكون كبيرة، وهو الذي اختار إلياس الفخفاخ رئيسا للحكومة، رغم أنه لم ينجح لا هو ولا حزبه في انتخابات الرئاسة ولا البرلمان، فهو شخصية بغير سند حزبي، وسيكون بحاجة لدعم الرئيس له مقابل "ميله" إليه على حساب رئيس البرلمان راشد الغنوشي، "المنافس" الحصري لطموحات قيس سعيد.
3- سحب الثقة من الفخفاخ ومحاصرة قيس سعيد
الحقيقة في السياسة هي التي لا يقولها السياسيون، والأسباب التي تُقدم هي التي تخفي الأسباب الحقيقية.
هل كان قرار النهضة وحلفائها سحب الثقة من حكومة الفخفاخ سببه "شبهة فساد"؟ كما قيل وكما أكدته هيئة شوقي الطبيب لمقاومة الفساد؟ هل كانت "الشبهة" تستدعي تلك العجلة في سحب الثقة من حكومة أبدت نجاحا حقيقيا في التصدي لجائحة كورونا في موجتها الأولى؟ هل كان ممكنا انتظار قول القضاء كلمته الفاصلة في "الشبهة" حتى لا يكون فراغٌ حكومي، وحتى لا يخسر التونسيون ما حققوه من انتصار حقيقي على الوباء؟
لا يعتقد الكثير من المراقبين بكون سبب سحب حركة النهضة وحلفائها الثقة من حكومة الفخفاخ هو "شبهة الفساد" ، بل يرون أن الأمر متعلق ببِنية الحكم، أي بمحاولة منع تشكل تحالف بين رئاستي الحكومة والجمهورية وحزبي التيار والشعب ضد رئاسة البرلمان، أي ضد السلطة التشريعية التي هي أصل السلطات في نظام برلماني. كان رئيس البرلمان راشد الغنوشي يتعرض لحملات استهداف مكثفة من الداخل ومن الخارج، وكانت هناك مساع لسحب الثقة منه، ولم يُبدِ لا رئيس الجمهورية ولا رئيس الحكومة أي موقف تضامني مع شريكهما في الحكم، حتى لكأنهما ينتظران سقوطه.
مطالبة حركة النهضة بـ"توسيع الحزام" الحكومي كانت بغاية إشراك حزب قلب تونس في الحكم، لاستمالة كتلته البرلمانية في أي عملية تصويت قادمة ولـ"توريط" الفخفاخ في موقف "معاد" لقلب تونس فتتألب عليه كتلته وتصوت لفائدة سحب الثقة، وهو ما حصل فعلا.
جهوزية النهضة وحلفائها لسحب الثقة من الفخفاخ جعلت قيس سعيد "يلعب" لعبة الاستقالة؛ حتى يمنع أن يؤول التكليف ثانية لحركة النهضة، وحتى تكون له فرصة "التمديد" لحليفه بمواصلة تسيير "حكومة تصريف أعمال" في انتظار "التشاور" مع الأحزاب لتكليف رئيس حكومة جديد.
4- الغنوشي والمشيشي و"حصار" قيس سعيد
كانت خطة قيس سعيد "معاقبة" حركة النهضة، وهو يدعو إلى حكومة خالية من المتحزبين. اختياره للمشيشي رئيسا للحكومة كان اختيارا "ظنه" مدروسا، إذ لم يكن من اختيار أي حزب ممن استشارهم استشارات شكلية، بل ومهينة عندما كان قادة الأحزاب يُودِعون مقترحاتهم في مكتب ضبط خارج القصر الرئاسي، كما لو أنهم يسلمون مطالب إعانات إعاشة.
ظن قيس سعيد أن الرجل "ضعيف"، وحاول فرض وزراء عليه، بل وتعامل معه بأساليب غير محترمة وعلى مرأى من متابعي الشاشات مما يبثه إعلام القصر الرئاسي.
المشيشي الذي شعر بإهانة الرئيس له وهو يفرض عليه وزراء ويُبطل قراراته دون التحاور معه، بل ويتعمد "التنكيل" به في جلسة أداء القسم في القصر الرئاسي، ويوجه بحضرته وحضرة وزراء حكومته سيلا من الاتهامات بالغدر والخيانة والتآمر، ذاك المشيشي "هرب" من قيس سعيد ليجد "الدفء" بحضرة الغنوشي وجماعة النهضة.
رئيس الحكومة هشام المشيشي انتصر لنفسه في أول فرصة، فعزل وزير الثقافة الذي فرضه عليه قيس سعيد وبطريقة مهينة، ثم "شدد" الخناق على القصر حين طالب وزراء حكومته بألا ينسقوا مع الرئاسة إلا بعلمه، وطالبهم بتقارير مفصلة عن فحوى لقاءاتهم برئيس الجمهورية.
هشام المشيشي وهو يستعيد صلاحيات رئيس الحكومة، إنما كان ينتصر لذاته أيضا بسبب ما تعرض له، وعلى مرأى من العالم، من "استضعاف" من قِبل رئيس الجمهورية، وهو إذ "يلوذ" برئيس حركة النهضة راشد الغنوشي، فهو كما لو أنه يكتشف الحقيقة من جديد من خلال أخطاء الرئيس الذي
-ربما- يكون واقعا تحت تأثير مستشارين يفتقرون الحكمة السياسية، أو ربما يخططون لاستعمال الرئيس "أداة" لتصفية طرف سياسي عجزوا عن محاصرته ديمقراطيا؛ فيسعون إلى محاصرته بأدوات الدولة وعلى رأسها رئاسة الجمهورية.
لاحظ التونسيون أن رئيسهم أصبح قليل الحضور وأن ظهوره في الثكنات توقف، ولاحظوا أيضا أن المستائين منه لم يعودوا فقط جماعة النهضة -كما يروج أنصاره-، وإنما أصبح طيف واسع من المجتمع المدني ومن الشخصيات الوطنية ومن الإعلاميين والمثقفين يكتبون خيبة أملهم ويعبرون عن ندمهم، ويَعِدون بأنهم لن يعيدوا الخطأ ثانية.
قيس سعيد اليوم -في ظل أزمة اقتصادية واجتماعية- يبدو محاصرا من رئاستي الحكومة والبرلمان، بسبب سوء قراءته لنتائج الانتخابات الرئاسية في الدور الثاني.
twitter.com/bahriarfaoui1
"الديمقراطية" و"الاستثناء الإسلامي" (2)
"الديمقراطية" و"الاستثناء الإسلامي" (1)
حركة النهضة التونسية.. بين تيار الدولة وتيار الثورة