قضايا وآراء

أزمة ماكرون الحقيقية!

1300x600

لم تأت حملة "إيمانويل ماكرون" الشرسة على الإسلام من فراغ، بل هي نتاج عنصرية متأصلة في وجدانه شخصياً، وفي الدولة الفرنسية بصفة عامة، إنها أزمته وأزمة فرنسا في المقام الأول، وليست أزمة الإسلام في العالم، كما تبجح وزعم.

فرنسا لا تريد أن تعترف بالإسلام كدين سماوي، ولو بفصله عن الدولة، كما فعلت مع المسيحية عام 1905، وتعتبر المسلمين في فرنسا حالة طارئة بل ودخيلة على المجتمع الفرنسي، ولا يجب أن يندمجوا في المجتمع الفرنسي ولا أن ينالوا من ثقافته، رغم أعدادهم التي تعدت الستة ملايين مواطن فرنسي مسلم!

فرنسا التي تدعي العلمانية لا تستوعب مواطنيها المسلمين، الذين ولدوا وشبوا واكتهلوا وشابوا على أرضها منذ عشرات السنين، والكثير منهم أبناء وأحفاد مَن استخدمتهم في غزواتها للدول التي احتلتها، ومَن دافعوا عن أرضها إبان الحربين العالمتين، ويعيشون في غيتوهات منعزلة فقيرة في هوامش المدن الفرنسية الكبرى، ويتعرضون لمعاملة عنصرية بغيضة، في العمل والصحة والتعليم.

إن العنصرية الفرنسية والفوقية العرقية البيضاء، حالة تسود في المجتمع الفرنسي ككل، وفي أطيافه السياسية المختلفة، من أقصى اليمين المتطرف إلى أقصى اليسار التقدمي دون أدنى فرق بينهما!

ولنتذكر الاضطرابات وحالات الشغب، وموجة العنف التي شهدتها فرنسا عام 1991، إبان حكم الرئيس الاشتراكي "جاك شيراك"، إثر خطابه الذي استنكر فيه أن يعيش العامل الأبيض الفرنسي وسط المهاجرين العرب والأفارقة الكسالى، وتساءل كيف يستطيع أن يتحمل روائحهم الكريهة، وضجيجهم المزعج؟!

ولقد لاقت هذه الكلمات العنصرية البذيئة تأييداً شعبياً عارما، وبالطبع كان أول المصفقين له، زعيم الجبهة الوطنية اليمينية العنصرية آنذاك "جان ماري لوبين"..

وليس كلام "شيراك" ببعيد، ولا يختلف كثيراً عما عبر عنه وزير الداخلية الحالي (اليميني) المتطرف "جيرار دارماتان" عن انزعاجه وصدمته من وجود أقسام خاصة بالمنتجات الغذائية الحلال بالمتاجر في بلاده، بينما لا ينزعج سيادته ولا يعترض لوجود أقسام خاصة بأديان أخرى، مثل الطعام اليهودي، وقال بحدة: "يجب ألا توجد في تلك المتاجر أقسام خاصة بتلك المنتجات"، كما أنه أعلن أنه تم خلال الأشهر الأخيرة إغلاق 358 مكاناً بينها مساجد، فضلا عن ترحيل 480 أجنبياً..

إذن أزمة فرنسا مع الإسلام ليست وليدة اليوم ولا ترتبط بحادثة ذبح المدرس الذي عرض الرسوم الكاريكاتيرية المسيئة للنبي صلى الله عليه؛ على تلاميذه في قاعة الدرس، بحجة حرية التعبير.

الأزمة متجذرة في أعماق بنيان المجتمع الفرنسي، وجاء ليعبر عنها ذلك المستعمر الصغير الأحمق "ماكرون"، الذي تحدى جموع المسلمين في العالم، مكرراً أنه سيعيد نشر هذه الرسوم الكاريكاتيرية ولن يتخلى عنها، أي لن يتخلى عن إهانة المسلمين، والتحريض ضدهم في بلاده، ما يعني خلق مناخ معاد لهم، وما حدث من طعن امرأتين محجبتين عند برج إيفل، والدعوة لحرق المساجد، إلا نتاج لهذا التحريض، ومظهر من تلك المظاهر العنصرية المقيتة.

لقد وظفت السلطات الفرنسية الحادث لصالحها، فأطلقت حملات أمنية وسياسية وإعلامية مسعورة ضد المسلمين، فبعد الجريمة التي استهدفت المدرس زادت الضغوط والمداهمات الأمنية التي استهدفت منظمات المجتمع المدني الإسلامية بفرنسا، ومن بينها "التجمع ضد الإسلاموفوبيا في فرنسا"، وهي المنظمة التي تراقب وترصد جرائم رهاب الإسلام الفرنسية، وتقدم دعماً قانونياً لضحاياها، ما يعني استمرار الانتهاكات ضد المسلمين في فرنسا بلا حسيب ولا رقيب، أو توثيق تلك الانتهاكات وحماية حقوق المواطنين الفرنسيين المسلمين، كما أغلقت مساجد ومدارس ومحلات تجارية بذريعة مكافحة الإرهاب الإسلامي، وهو نفس الوصف الذي أدلى به وزير الداخلية المتطرف عقب الجريمة ووصفها بأنها "هجوم إرهابي إسلامي".

لقد أعلن الطفل المعجزة "ماكرون" في بداية الشهر الحالي، أى قبل الحادث، عن سن قانون لإنشاء "إسلام فرنسي" جديد، سيطبق لمحاربة ما أسماه "الانفصالية الإسلامية"، يفرض شروطاً على الجمعيات والمواطنين لضمان علمانيتهم.

وهذا دفع البعض لتبني نظرية المؤامرة، والتساؤل عن سبب قتل الشاب الشيشاني الذي قتل المدرس ولم يتم القبض عليه حيّا للتحقيق معه ومحاكمته.


ولنتذكر حادثة "نيوزلندا" في العام الماضي، الذي أطلق فيه شاب إرهابي أسترالي، يدعى "بريتون تارانت"، النار على المصلين في مسجد "النور" ومركز "لينود الإسلامي" في مدينة "كرايستشرش"، ما أدى لمقتل وإصابة أكثر من مئة مسلم!

ولنقارن بين ما فعلته السلطات النيوزلندية إزاء هذا الحادثة المُفجعة، وبين ما فعلته السلطات الفرنسية إزاء حادثة المدرس. لقد ألقت الشرطة في نيوزلندا، القبض على المجرم فوراً، وما زال حياً في السجن، يقضي عقوبة بالسجن مدى الحياة، بينما في فرنسا تمت تصفية القاتل على الفور، وانطلق الساسة لإطلاق التصريحات النارية التي تعادي الإسلام، وتخيف الناس من المسلمين، جرياً وراء "الشعبوية" التي أصبحت تجتاح أوروبا كلها، وماكرون يدرك أن شعبيته في انحدار وتدن؛ نظراً لفشله في جميع الملفات داخلياً وخارجياً، ويريد التغطية على أزمته هذه بخلق عدو وهو "الإسلام"، ليداري به إخفاقاته؛ أملاً في أن يناصره حلفاؤه من اليمين المتطرف، ليفوز في الانتخابات القادمة.

ولنا أن تقارن أيضا بين الحماقة التي يقوم بها "ماكرون" من تأجيج روح الكراهية والتعصب داخل نفوس مواطنيه، وإشعال نار الفتنة بين المواطنين الفرنسيين المسلمين وغير المسلمين، وبين ما فعلته السيدة العاقلة "جاسيندا أرديرن" رئيسة وزراء نيوزيلاندا، من احتواء الأزمة بحكمة وعقلانية، ما جعلها تنال احترام وتقدير كل المسلمين وغير المسلمين في العالم؛ لإنسانيتها المفرطة، واحترامها للأديان، وحرصها على سلامة مواطنيها، وحفاظها على السلم الأهلي في بلدها..

إن استغلال السلطات الفرنسية للجريمة، ما هو إلا استمرار لمسار تاريخي طويل ضمن السياسة الفرنسية، فالإسلاموفوبيا متجذرة في أعماق المجتمع الفرنسي، والساسة يغذونها ويذكونها بصفة دائمة، تحت شعارات براقة زائفة، مثل الليبرالية وحرية التعبير وحقوق الإنسان، والتأكيد على "قيم الجمهورية" وتطبيق العلمانية، ولكن في جوهرها تحتوي على كل أشكال التمييز والعنصرية، ضد المسلمين والسود والأقليات المهمشة بصفة عامة، وجاء "ماكرون" المعادي للإسلام ليجعل حرية التعبير وحقوق الإنسان وقيم الجمهورية، حصريا للفرنسي ذي البشرة البيضاء، وتستخدم فقط لرفض أى تعبير عن الهوية الإسلامية!

إن تاريخ فرنسا الإرهابي في الدول العربية والأفريقية التي احتلتها، غني عن التعريف والخوض فيه، فهو خير شاهد على ممارساتها الوحشية مع الشعوب ويسجل كل مجازرها، ويظهر وجهها الحقيقي العنصري الذي تخفيه وراء ادعاءات مزيفة، فهي السباقة في الإرهاب في العالم، ومتحف البشرية الذي تزينه برؤوس الجزائرين وغيرهم، من الذين أعدمتهم، يشهد على مدى وحشيتها وإجرامها، فإذا كانت اليوم تصرخ من الإرهاب، فهي بضاعتهم وردت إليهم، وكما قال الراحل "مالكولم إكس" ذات يوم عن أمريكا "إن الدجاج يعود إلى وطنه ليقيم فيه"..

ولعل الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان"، الرئيس الوحيد الذي ذكرهم بماضيهم المخزي هذا، وهو ورئيس وزراء باكستان "عمران خان" فقط اللذان دافعا عن الإسلام؛ من بين حكام العالم الإسلامي. فأردوغان حذر "ماكرون" من التطاول على الإسلام، وقال إن حديث ماكرون عن إعادة تشكيل الإسلام، قلة أدب ويدل على عدم معرفة.

وذهب أبعد من ذلك وطالبه بفحص قواه العقلية، قائلاً: "ما الذي يمكن للمرء قوله بشأن رئيس دولة يعامل الملايين من أتباع ديانات مختلفة بهذه الطريقة؟ قبل أي شيء افحص صحتك العقلية".

لاشك ان كلمات "أردوغان"، أثلجت صدور أكثر من مليار مسلم في العالم، وجاءت في وقت تخازل فيه الحكام العرب، عن نصرة الإسلام ودفاعاً عن رسولهم الكريم، وبلعوا ألسنتهم، ولم ينبسوا ببنت شفة رداً على تصريحات هذا العنصري الأخرق، الذي يريدها حرباً دينية، سيكون بإذن الله، أول مَن يحترق بنيرانها وستكون فرنسا أول ضحاياها..

إن فرنسا تحتضر، بل أوروبا كلها تحتضر سياسياً واقتصادياً وأخلاقياً. ولقد عبّر عن ذلك المفكر الفرنسي "ميشال أونفرى" بقوله: "نحن نعيش عصر ما بعد انهيار الحضارة المسيحية". ومن هنا تأتي أزمة فرنسا وأزمة "ماكرون" الحقيقية، فهو يريد إحياء التراث المسيحي لجمهوريته العلمانية (بعد أكثر من قرن على إلغائها)، لمواجهة الإسلام، لكن الدون كيشوت الصغير "ماكرون" سيكتشف في النهاية أنه كان يحارب طواحين الهواء!!

 

وللمقال تتمة، نكمله الأسبوع القادم بمشيئة الله.


#اللهم_صل_على_محمد_وعلى_آل_محمد_challenge