كتبنا في مقالين سابقين عن سر النهوض، وخلص هذان المقالان إلى أن محاولات النخب العربية اليسارية والإسلامية ما بعد رحيل الاستعمار فشلت في النهوض وتحقيق أي حالة نجاح في أي قُطر عربي، حتى وصلنا إلى مرحلة الربيع العربي.
المقالان وصلا إلى نتيجة أن غياب العلوم السياسية الغربية وحكم الشعب للشعب والديمقراطية التي تمكن الشعب استخراج من بينه أفضل الكوادر وأقواها في إدارة المال العام وتحقيق النهوض، وأن الديمقراطية تمكن الشعوب من اختبار صحة البرامج التي يبشر بها الساسة على أرض الواقع وإثبات نجاحها أو فشلها.
المقالان اعتمدا في خلاصتهما على أن التجارب الإنسانية الحديثة أثبتت أن معظم الدول الناهضة هي دول ديمقراطية، وأن الديمقراطية هي البوابة الأساسية التي تمر من خلالها كل نهضة، وهي الخطوة الأولى على طريق الوصول للنجاح.
لكن هل هذه الإستنتاجات صحيحة؟ الواقع يقول لنا إن هناك دولا دكتاتورية محكومة بنظام الفرد الواحد والحزب الواحد والشمولية السياسية؛ استطاعت تحقيق النهوض والنماء، مما يجعل تلك الخلاصات السابقة على المحك، ويجعل هذا التعميم قابلا للكسر بسهولة في مدى صحتها ومطابقتها للواقع.
نهوض الدول غير الديمقراطية (نماذج)
نموذج الصين الشعبية
رغم أن إقامة دولة الصين الشعبية لم يتجاوز عمرها 70 عاما، إلا أنها استطاعت أن تصبح من أكبر اقتصاديات العالم، وتضع نفسها على الخارطة السياسية والعسكرية والمالية، وتجد موطئ قدم في نادي الدول العظمى.
الصين دولة شمولية بالمعنى السياسي، والحزب الشيوعي هو الحزب الحاكم والحزب الذي سيطر على كل مفاصل الدولة ومجلس الشعب الذي يسن القوانين ويعدل الدستور ينتخب بطريقة غير مباشرة، كما أنه تم تعديل الدستور حتى يستطيع الرئيس الصيني الحالي أن يبقى رئيسا مدى الحياة، بعد أن كان الدستور الصيني يحدد فترة الرئيس بفترتين رئاسيتين؛ كل فترة لا تتجاوز خمسة سنوات.
محاولات نهضة الصين بدأها مؤسس الصين الشعبية "ماو تسي" كانت أول محاولة له للتحول من النظام الزراعي إلى النظام الصناعي، إلا أن التجربة كانت كارثة كبيرة على الصين، ووقعت بسببها مجاعة قتلت أكثر من أربعين مليون صيني جوعا ومرضا خلال سنتين، بين 1959 و1961.
بعد رحيل ماو تسي مؤسس الجمهورية في عام 1967، جاء الزعيم "دنغ شياو بينغ" وقرر التحول من النظام الصناعي إلى المشاريع العملاقة الصناعية الثقيلة، لكن التجربة أثبتت فشلها بعد أقل من سنتين، وتم تعديل التجربة إلى التحول إلى الصناعات الخفيفة.
توصل دنغ شيابينغ إلى قناعة بأن الحل لن يكون إلا بتغيير الفلسفة الاقتصادية والتحول من النظام الاشتراكي والملكية الجماعية (الذي خلق لهم ظاهرة العامل الصيني الصنم الذي يحظر للعمل ولا ينتج) إلى الملكية الفردية والاقتصاد الحر، ومنح الملكية للأفراد ومنح الأراضي للفلاحين، والتوجه إلى الانفتاح على العالم وفتح باب الاستثمار وجذب رؤوس الأموال لاستغلال العمالة الرخيصة، وفتح باب التعليم فكانت بداية النهضة الصينية، دون أن يكون هناك تداول للسلطة ولا وجود حكم الشعب لنفسه، إذ لا زالت الصين محكومة بالنظام الشمولي الدكتاتوري المستبد.
نموذج كوريا الجنوبية
خرجت شبه الجزيرة الكورية من الحرب العالمية الثانية لتدخل في حرب أهلية وتنقسم إلى كوريا الشمالية تحت الحكم الشيوعي وكوريا الجنوبية تحت الحكم الرأسمالي، وانتهت الحرب الأهلية على تثبيت الانقسام وواقع اقتصادي مدمر، مع تفشي الجهل والمرض والجوع والأمية.
كان الاقتصاد الكوري الجنوبي غاية في البؤس والتخلف، إذ أن صادرات كوريا الجنوبية لم تتجاوز 40 مليون دولار سنوي، ودخل الفرد لا يتجاوز 80 دولارا، ومعظم الناس يعملون في الزراعة، حيث عمل ما يقارب 65 في المئة من القوى العاملة في القطاع الزراعي.
بلد كان محطما، وكانت كل التوقعات تشير إلى أنها دولة فاشلة وتحتاج إلى مئات السنوات للنهوض.
حكم البلاد منذ إعلان استقلالها عام 1948 إلى 1960 من الرئيس "أي سنغ مان" حكم دكتاتوري متسلط، لتأتي الحياة الديمقراطية بعدها بثورة 1960، ثم مجيء الرئيس "ين يو" ليتم الانقلاب عليه من العسكر في عام 1962 ومجيء الجنرال "بارك هي" الدكتاتور، وبقي في الحكم حتى 1979 ليتم اغتياله ويجيء بعده عسكري آخر؛ حل البرلمان واعتقل المعارضة، لكن قامت ثورة في تلك السنة وبقيت الثورة من قبل الطلاب وأساتذة الجامعات وسائقي سيارات الأجرة منذ 1980 إلى عام 1987، وتم بعد ذلك إعلان دستور جديد والتحول نحو الديمقراطية.
قاد الجنرال الدكتاتور "بارك هي" عام 1962 الانقلاب العسكري على السلطات الديمقراطية، لكنه أيضا قاد نهضة كوريا الجنوبية الحديثة، فعمل على تحويل كوريا الجنوبية من بلد زراعي إلى بلد صناعي، وعمل على جذب الاستثمارات الخارجية، وتحويل العاملين في القطاع الزراعي إلى أقل من 5 في المئة من القوى العاملة، وانتشر البحث العلمي الذي كانت تشرف عليه الحكومة مباشرة بعد أن قامت باستيراد المعارف والأشياء من الغرب ليتم تطويرها وتوطينها لتصبح كورية المنشأ، حتى أصبحت كوريا الجنوبية من أهم اقتصاديات العالم، وبلغت صادراتها إلى أكثر من 560 مليار، بعد أن كانت لا تزيد عن 40 مليونا، وارتفع دخل الفرد من 86 دولار إلى 27 ألف دولار سنويا، وأصبح القطاع الخاص يمثل أكثر من 81 في المئة من الاقتصاد القومي الكوري، وتم إنشاء الشركات متعددة الجنسيات على الأراضي الكورية، وتولدت بعد ذلك شركات كورية متعددة الجنسيات لتكون رافعة كبيرة للاقتصاد الكوري الجنوبي.
الديمقراطية والحرية شرط لاستمرار النهوض لا ميلاده
من خلال الاطلاع على النموذج الصيني والكوري الجنوبي في النهوض، وكيف استطاعت الدكتاتوريات النهوض باقتصاديات آسيوية في غضون أقل من 70 عاما ووصولها إلى اقتصاديات الدول المتقدمة، بعد أن كانت تصنف في مصاف الدول الفقيرة ودول المجاعة، يتبين لنا أنه من الممكن أن يكون هناك نهوض دون أن تكون هناك ديمقراطية.
لكن ما فائدة الديمقراطية والحرية في عملية النهوض؟
الواقع والتجارب الإنسانية تقول إن الديمقراطية والحرية هي شرط مهم من شروط استمرار النهوض والتقدم ودوام حاله للعيش حياة أطول، وأن الدكتاتوريات وإن كانت قادرة على ميلاد حركات النهوض في عالم الأشياء، إلا أنها ستكون عاجزة عن الاحتفاظ بها، وأن حالات النهوض ستكون حالة عابرة مؤقتة ستتم بعدها حالات نكوص وتقهقر وعودة إلى الوراء عند أول منعطف سياسي أو تاريخي يمر على البلاد، وسيكون السقوط سقوطا مروعا. ويدلل أصحاب هذه الفلسفة والرؤية بالنماذج التالية عبر التاريخ الحديث..
نماذج نهوض سقطت سريعا وكانت أقصر عمرا
الاتحاد السوفييتي
قام الاتحاد السوفييتي بعد الثورة في عام 1917 واستطاع لينين تأسيس الاتحاد السوفييتي الذي أصبح بعد ذلك من أكبر الاتحادات بين الدول، وأصبح الاتحاد السوفييتي يضم ما يقارب 15 في المئة من مساحة اليابسة على الكرة الأرضية، ويُنتج 20 في المئة من نفط العالم، ويضم أكثر من 120 قومية و16 دولة، منها ست دول إسلامية، وتجاوز الناتج القومي له أكثر من 2660 مليار دولار. وتزعم المعسكر الاشتراكي في وجه المعسكر الليبرالي، وأقام حلف وارسو في مواجهة حلف الناتو، وامتلك الأسلحة النووية، وأقام دولة مثلت القطب الثاني في مقابل أمريكا والغرب.
قاد الاتحاد السوفييتي ستة زعماء منذ تأسيسه في 1917 حتى تفككه في عام 1991، جميعهم حكموا بعيدا عن خيارات الشعب، وكان الصراع بينهم للاستيلاء على السلطة على أشده.
أسس ستالين، الرئيس الثاني لدولة الاتحاد السوفييتي، دولة الرعب والخوف والدكتاتورية والشمولية المطلقة، حيث قام بأعمال تهجير قسري للعرقيات الإسلامية ومنع اللغة العربية، وأغلق المحاكم الدينية والمدارس الإسلامية، وقتل المعارضة داخل الحزب الشيوعي.
وبقي ذات النهج لمن جاء بعده، وإن كان بنسب مختلفة، إلى أن وصل ميخائيل غورباتشوف الذي أعلن تفكك الاتحاد السوفييتي لتستقل الدول المنضوية تحته خلال أقل من شهرين في عام 1991.
نعم استطاعت الدكتاتورية الروسية والشمولية في الحكم بناء النهوض والتنمية في عالم الأشياء المادية، لكنها لم تستطيع الاستمرار في الحفاظ على التقدم لغياب الحرية والديمقراطية، وتسلط حكم الفرد والسلطة المطلقة، مما أحدث هزة كبيرة في السياسة العالمية بعد سقوط الاتحاد السوفييتي.
ألمانيا هتلر
من مواطن نمساوي لا يملك الجنسية الألمانية، ومن مطاردة الحزب النازي في ألمانيا بصفته حزبا غير مشروع، حصل أودلف هتلر على الجنسية الألمانية قبل توليه السلطة بفترة قصيرة، من إحدى الولايات الألمانية. وعلى وقع الكساد الاقتصادي الكبير في ألمانيا نتيجة تبعات الحرب العالمية الأولى، وخسارة ألمانيا المذلة فيها وتحميلها ديونا كبيرة كتعويض عن هذه الحرب، صعد الحزب النازي للسلطة وتقلد أودلف هتلر السلطة بالانتخابات.
استطاع هتلر في غضون ثلاث سنوات من حكمه أن ينهض بألمانيا وتحقيق تنمية اقتصادية كبيرة، ففتح المصانع العسكرية، وارتفع عدد العاملين فيها من أربعة آلاف شخص إلى 72 ألف شخص، وانخفضت البطالة بعد ثلاث سنوات إلى الصفر، وأصبح هناك نقص كبير في الأيدي العاملة في ألمانيا.
ارتفعت صادرات ألمانيا من السيارات ثمانية أضعاف، وتحسن دخل الفرد بمقدار 25 في المئة، وانخفض التضخم السنوي إلى 1 في المئة، فانتعش الاقتصاد، وتحسنت الرعاية الصحية، وارتفع مستوى معيشة الفرد الألماني.
في غضون ثلاث سنوات تضاعفت الصناعات الألمانية بأكثر من الحجم الذي تضاعفت به خلال 50 سنة ماضية، وتضاعفت أرباح الشركات أربع مرات، وتضاعف عدد السياح القادمين إلى ألمانيا ثلاث مرات.
استغل هتلر تلك النجاحات الاقتصادية، إذ كانت الأحزاب في ألمانيا في ذلك الوقت في أوج تصارعها، وكان البرلمان الألماني لا يملك أي حزب فيه الأغلبية، بما فيه الحزب النازي (حزب هتلر)،. استغل هتلر الأمر وتم حرق مبنى البرلمان واتهام الحزب الشيوعي بالحادثة، ليقوم هتلر بتجريف الحزب ومطاردته، وبعد ذلك نقل السلطة التشريعية بالتحالف مع باقي الأحزاب، بموجب "قانون التمكين"، من البرلمان إلى مجلس الوزراء الذي يسيطر عليه، وأصبحت السلطة التشريعية والتنفيذية في قبضة قبضته.
بعدها حلت الأحزاب نفسها وبعضها تمت مطاردتها وإنهاء وجودها، ليعلن هتلر النازية الحزب الوحيد في ألمانيا، ويصبح هو الحاكم المطلق في البلاد، ليبدأ مشواره في محاولة ابتلاع أوروبا والسيطرة على العالم، كما كان يتخيل.
هذه النجاحات الاقتصادية والسلطة المطلقة دفعت هتلر إلى إشعال فتيل الحرب العالمية الثانية التي جرّت الدمار عليه، وعلى حليفته إيطاليا بقيادة موسوليني، وحليفته اليابان، لتنتهي الحرب بسقوط نظامي النازية والفاشية واستسلام اليابان، وتقسيم ألمانيا إلى ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية، لينتهي المشروع النازي نهاية مروعة لألمانيا والإنسانية.
ذات النموذج تكرر في إيطاليا، والعراق في عهد صدام حسين، وسوريا في عهد عائلة الأسد، ومصر في عهد عبد الناصر.. الخ، فكل نهضات الدكتاتوريات نهضات مؤقتة، وكانت نهاياتها مأساوية ومروعة.
هذه النماذج تعطينا نتيجة وخلاصة مهمة؛ أنه يمكن للمستبد والدكتاتور أن يقيم النهضة ويحقق النمو الاقتصادي والتنمية في عالم المادة والأشياء، إلا أنه لا يمكن له الاستمرار في مشوار النهوض، وأن السقوط يكون سريعا ومدويا وكبيرا.
نعم الحرية والديمقراطية وحكم الشعب ليسوا شروطا لقيام النهضة المادية والتنمية، كما تشير التجارب الإنسانية في العهد الحديث، لكن ذلك بكل تأكيد الشرط والضمان الوحيد للاستمرار والبقاء أو الحياة بشكل أطول.
لذلك سيستمر النهوض الكوري الجنوبي بعد تحوله من الحكم المستبد إلى حكم الشعب في عام 1987، وسوف يعيش عمرا أطول في النهضة والتقدم، ويعيش حالة صعود وتراجع، لكن المنحى سوف يبقى في حالة نهوض لأطول عمر. والتاريخ يقول لنا إن النموذج الصيني وإن كان يسير في تسارع كبير في النمو، إلا أن استمراره في هذا المنحنى وتحصنه من الانهيار غير وارد، ما دام يحكم بطريقة شمولية، وإن استمرار هذا النهوض مرهون بتحوله الديمقراطي وإعطاء حكم الشعب للشعب، وما دون ذلك سوف نشهد سقوطا كبيرا للدولة الصينية، على غرار ما جرى مع الاتحاد السوفييتي، وألمانيا النازية، وإيطاليا الفاشية، وعراق وسوريا البعث، ومصر القومية الناصرية... الخ.
في النهاية الحرية تمثل شرطا لاستمرار النهوض والتقدم والتعمير حياة أطول، لكنها ليست شرطا من شروط ميلاد النهوض.
حزب العدالة والتنمية التركي (AKP) وتقاعد الحرس القديم
معايير التجديد للقيادة في حركات التحرر
معركة الإعلام وإعادة التفاوض على المشترك الوطني