كتاب عربي 21

منع تصوير الشرطة الفرنسية "الوهابية"!

1300x600
تحضرُ شعارات التنوير، الحرية والمساواة والإخاء، مع اسم فرنسا والباستيل، وبها يؤرّخ التنويرون العصور الحديثة. رأيت مسلسلاً رديئاً أيام الأبيض والأسود بطله نور الشريف، كان يكرر عبارة عن باريس هي: بلد الجن والملائكة. أهدرنا أوقاتا ثمينة في مشاهدة مسلسلات تافهة، ولو أنك تخيلت أن فرنسا كانت ستجعل رسم الكارتون شرطاً لقيم الجمهورية، ما جاز ذلك في خيال هؤلاء ولا خطر على بالهم، ثم رأينا صاحبة مشاعل النور تساوي بين قدسية رسم الكارتون في تدنيس مقدسات الآخرين، ومنع تصوير الشرطة الفرنسية المقدسة. فكل تدنيس جديد يقابله تقديس جديد.

وقد ألفنا في بلاد الدكتاتوريات العربية، منع تصوير المواقع الحساسة، وهي عورات النظام، بل إننا لا نجرؤ نحن أبناء المناطق الصفراء على الاقتراب من المناطق الخضراء. وقلّ أن تجد في بلادنا مصانع للنسبية وللذرّة، وإن كثرت مفارز الأمن ومعاقل المخابرات، فالمناطق الخضراء جنان فيها "جهنمات" للتعذيب.

ويحدث أن تجد ضابطاً يصادر موقعاً أثرياً "أصفر"، أو حديقة خضراء عامة، ويرفع عليها شاخصة ممنوع الاقتراب والتصوير، مثل الحيوانات التي تحدد ملكيتها للمكان بالتبول عليه. ولياسر العظمة لوحة ساخرة في مراياه اللطيفة، التي سمح بها النظام لمغترب عائد حنَّ إلى مواقع بلاده الأثرية بزيارتها، فوجدها قد سُبيت واحتُلتْ واستُعمرت، فعاد إلى المنفى حتى لا يموت قهراً.

ونحن نتحدث عن صراع الصورة مع الكلمة، وصراع السلطة للاستحواذ عليهما، نتذكر فيلم عسل أسود، إذا جاز الاستشهاد برواية، فهو وثيقة فنية وفكرية وبصرية، وليس وثيقة حقيقية، فسنجد أن الشرطة المصرية أعادت لمصري بطل الفيلم كاميرته، بينما كسرتها الشُرطة الفرنسية، ومنحت أمير الحلبي وساماً ثانياً، فكسرت أنفه.

والدول التي تحرّم التصوير هي كوريا والصين وتركستان وكوريا، وقد أباحته السعودية، بل هي تتقدم الدول العربية في تصوير المسلسلات. وإذا رجعت عزيزي القارئ إلى نشيدها المرساليز، ستدهش من كثرة الدماء التي يتغنى بها الأطفال في المدارس ولرأيت عجباً، ولملئت رعباً، وستقول إنه نشيد "صليل الصوارم" في ألفاظه:

إلى السلاح، أيها المواطنون!
شكّلوا صفوفكم!
فلنزحف! فلنزحف!
وليتشبّع تراب أرضنا من دمائهم القذرة!
ماذا يريد هذا الحشد من العبيد،
من الخونة، ومن الملوك المتآمرين؟
لمن هذه السلاسل الحقيرة.

يقول علي فهمي خشيم عن تسمية النشيد: إن أصله عربي، وإنه منسوب إلى مدينة فرنسية قاومت النمساويين اسمها مارسيليا على الساحل، وإنه اكتشفتْ في المدينة نقوش كنعانية قبل احتلال اليونان لها، وإن أصل الاسم هو "مرسى إل"، مثل "بيت إل" أي بيت الإله، فهو النشيد المرسالي.

وتكثر في الأناشيد العربية المحدثة بعد الاستقلال كلمات الرقة والفداء والحب والفؤاد، إلا نشيد الجزائر الشديد:

قسماً بالنازلات الماحقات
والدماء الزاكيات الطاهرات
والبنود اللامعات الخافقات
في الجبال الشامخات الشاهقات

وقد سألت صديقاً جزائرياً عن قسوة كلمات النشيد، على غير معهود الشقيقات العربيات، وقد تعرضت كل الأناشيد الوطنية لنقد كثير، فالشعب غير راض عنها، فقال:

إنه المستعمر والثقافة الفرنسية، وقد احتلنا مائة وثلاثين عاماً، وافتدينا الجزائر بملايين الشهداء حرقاً وقتلاً وسحقاً، فاعذرنا يا أخي، الحاصل أن القانون الجديد الفرنسي يزمع منع تصوير رجال الشرطة المتحركين في بلد الأنوار والنور، وليس الأمكنة الثابتة، وهذا لا يعني أن مصر وسوريا تبيحان تصوير المخابرات. ولديهما عصمة أيضاً، ونرى يومياً ضباطاً مصريين يقتلون المواطنين، لكن مصر لا تصف نفسها بأنها بلد الأنوار.

إن حضارة العرب هي حضارة نص، وحضارة الغرب هي حضارة صورة، وقد مُنعت الكلمة ومُنعت الصورة. والحضارة الغربية حضارة غزو واستخراب في الخارج، وقد غزت لغة الصورة الناعمة كل شيء، فلا تجيز لك مواقع التواصل فتح حساب إلا بعد سؤالك عن فيلمك المفضل، وهو صورة، ونجمك المفضل وهو صورة. وقد غزت الصورة أدبيات الفقهاء، فرأيت داعية معروفاً يذكر شيخ الأزهر بأنه "أيقونة"، ويطلق عليه في مصر الإمام الأكبر، وهو خريج فرنسا. وقد أصدر "الإمام الأكبر" بياناً صامتاً بعد زيارة وزير الخارجية الفرنسي للأزهر، ومنح الوزير منبر الأزهر ليخطب منه وحده ولم يخطب معه، وهذا كرم ما بعده كرم. أما أكبر بطولاته فهي اعتراضه على قانون الطلاق، والطلاق يزداد في مصر وجميع البلاد العربية لأن القوانين تسهّله وتشجعه.

لي أصدقاء من الأزهريين، نتحادث، فأجدهم يستعينون بصور الإيموجي، فوجدت منكراً، فالوجوه غريبة قد تنفع في المستطرف والنكتة، لكنها لا تنصف المعنى ولا تروي الظمآى، واستعمالها عجمة. وأصحاب الصورة يستشفعون بالجمال وبالمرأة في الغزو، حربهم الكبرى في التاريخ هي حرب من أجل حسناء اسمها هيلين، غصبها باريس من زوجها.

وأصحاب حضارة الصورة يحبّون الصيد بعد التجويع، فاصطادوا هيلين الصومالية حليمة عدن بعد تدمير الصومال، وجعلوها أيقونة، وكذلك فعلوا مع توكل كرمان، وكلتاهما محجبتان، فلا شيء يهدر في الغزو، ولكلٍ مقام. ويبدو أن حليمة أنضج من توكل، مع أنهما من بلدين كريمين، وتلوث الصومال أقل، فقد أفسدتْ حليمة على رعاتها الحفل وودعت مهنة عرض الأزياء بكل مباهجها، كما أفسدتها صوفي بترونين، فقالت:

الملك عار، فجعلت "الملك" يقدِّس الكاريكاتير، وهو رسم تضخيمي أو تصغيري باليد، ويحرم التصوير، وهو رسم توثيقي بالآلة، وهذا من ذاك.

تنبأ جورج أورويل صاحب رواية 1984 بحلول عصر الدكتاتورية الشاملة، ومن المفارقات أن اسم القانون الفرنسي هو الأمن الشامل، والواقع يقول إن نظرية كوندورسيه القائمة على تفسير التاريخ، القائلة بالتقدم الحتمي والسعادة، ونظرية الفردوس الأرضي، نظريتان سخيفتان.

رأينا الشرطة الفرنسية الممنوع تصويرها تصور غزوتها لجمعية بركة، وتدمر الكاميرات وتعتقل أطفالاً، وتحطم أثاث جمعية بركة الخيرية، وتكسر أنف مصور سوري، وتغلق مئات المساجد، بينما دمرها السيسي والأسد إما بالدبابات أو بالجرافات، وهذا يعني أن فرنسا ما تزال أفضل للعيش من سوريا ومصر وكوريا وتركستان، وأن الفرنسيين في نعيم يا حبيب ويا غالي.

twitter.com/OmarImaromar