آن لديكتاتوريي العالم الثالث، وبالأخص منهم العرب، أن يمدوا أرجلهم ويخرجوا أسلحتهم ويشحذوا قواتهم القمعية في مواجهة الشعوب ترهيبا وتخويفا وسجنا واعتقالا وتنكيلا، فها هي فرنسا الأنوار، مهد حقوق الإنسان أو هكذا نظن، تُرهب، في عهد إيمانويل ماكرون، جزءا من مواطنيها بعد إعلان الأخير منذ أسابيع أن الخوف سينتقل للضفة الأخرى، فرد وزيره في الداخلية أن لبيك يا ماكرون.
علمانية فرنسا
لم تكتف فرنسا بالمصنفين لدى أجهزتها "متشددين يحتمل ارتكابهم الفعل الإرهابي" أو مؤسسات إسلامية خيرية تعتبرهم السياسة الفرنسية الجديدة مفرخة للإرهابيين وطريقا سالكا للانعزالية "الإسلامية" أو "الاسلاموية" فالمفهومان صناعة غربية بتعريفات مطاطة تستخدم حسب الهوى، بل تعدت الأمر قبل أيام إلى أربعة أطفال، ذكور وإناث، فوجئت عائلاتهم بقوات الأمن المدججة بالسلاح تُرهبهم في منامهم وتقتادهم للاستنطاق لساعات دون مسوغ قانوني. جريرة الأطفال، غير الراشدين، إجابات نطقوا بها حين النقاش الذي فُرِض على تلاميذ الجمهورية المشاركة فيه يوم العودة المدرسية التالية لمقتل المدرس الفرنسي صامويل باتي. مارس الأطفال حريتهم في الرأي والتعبير، التي يفترض في مدارس الجمهورية أن تكفلها، فوجدوا أنفسهم وأهليهم في قبضة رجال الأمن.
لقد تحولت المدرسة في فرنسا الأنوار لمحاكم تفتيش تبحث في إجابات الأطفال عن دلائل الإدانة. لو أن أجهزة الأمن الفرنسية، وهي طبعا تفعل، انصتت لما ينشر على لسان رجال ونساء راشدين، لهم الأهلية القانونية، ويقدَّمون على أنهم نخبة السياسة والثقافة المشكلين للرأي العام، لوجدت فيها من التجاوزات ما يرمي بنصف المتحدثين في السجون، وبالقانون.
عندما أشهر طالب قبل سنتين سلاحا مزيفا في وجه أستاذته داخل الفصل، لم يعتبر ذلك إرهاب. وعندما طالبت زينب الغزوي، الصحافية السابقة في مجلة شارلي، قوى الأمن بإطلاق النار على المحتجين بالضواحي الفرنسية، لم يعتبر ذلك إرهابا ودعوة للقتل، بل كثفت الرقابة الأمنية على الغزوي وصارت ضيفا مرحبا به، أكثر من أي وقت مضى، ببلاتوهات القنوات التلفزيونية باعتبارها أكثر صحفية تعيش تحت التهديد الإرهابي بفرنسا.
وعندما انطلقت الألسن لتهاجم مسلمي فرنسا وتحملهم مسؤولية الجرائم المرتكبة بها لمجرد اشتراكهم "المزعوم" مع المنفذين في الاعتقاد بالإسلام، لم تتحرك الدولة الفرنسية لحماية مواطنيها المسلمين بل تركت الحبل على الغارب وصبت الزيت على النار بمداخلات عدد من مسؤوليها وبمبادرات من شاشاتها العمومية والخاصة ومؤسساتها المنتخبة والمعينة على حد سواء. لقد طالبت مارين لوبن بقانون حرب وطالب كثيرون بتغيير الدستور أو تعطيل بعض أحكامه استثنائيا، وبلغت الحرب الكلامية حد مطالبة نائب عن مدينة نيس غداة الاعتداء على كاتدرائيتها بإنشاء غوانتانامو فرنسي مكانا لتجميع "الإرهابيين المفترضين".
هكذا كان الخطاب الموجه للداخل على مدار الساعة لأيام لولا أن صدى التصريحات انتقل إلى خارج الجمهورية، حيث انتعش خطاب عدائي واسع لتوجهات السلطة الحاكمة فاعتبر ذلك تهجما على فرنسا الجمهورية ومبادئها. لم يتحمل الرئيس الفرنسي أن تحرق صوره ولا أن تداس صوره أو تقاطع بضائع بلاده ردا على اعتبره المسلمون إهانة وانتقاصا من دين محمد ورسوله الكريم.
كان بإمكان باريس غض الطرف حتى مرور العاصفة لولا أن اقتصادها يئن أصلا تحت وقع أزمة لم يزدها فيروس كورونا إلا سوءا، ولولا أن الدعم الغربي المنتظر تأخر كثيرا فنالت المستشارة الألمانية، على الأخص، في تحليلات بلاتوهات القنوات الكثير من التقريع باعتبارها راضخة لمشيئة أردوغان وجيشه الجرار/ الجالية التركية بألمانيا.
اهتزاز صورة فرنسا العلمانية "الحامية" لحرية المعتقد وعلى الحرية والعدالة والأخوة دفعت السلطات إلى محاولة التدارك، فخاطب ماكرون المسلمين عبر قناة الجزيرة حفاظا على مشاعرهم وتصحيحا للأكاذيب المنقولة على لسانه وهي الموثقة بالصوت والصورة. كما اشتغلت حرارة الهواتف مع رؤساء الدول العربية وأُرسِل وزير الخارجية حاملا رسالة سلام ومبشرا بإسلام جديد ستخرجه فرنسا من أزمته العالمية ليرتد ناصعا خاليا من الشوائب الإرهابية التي علقت به على مر القرون.
يقول إيمانويل ماكرون في رسالته إلى الفايننشال تايمز مقتبسا من ابن خلدون " الجهل يؤدي إلى الخوف، والخوف يؤدي إلى الكراهية، والكراهية تؤدي إلى العنف". هذا بالضبط ما تعيشه فرنسا منذ سنوات وتكرس أكثر خلال الأزمة الأخيرة التي لا يبدو أن نهايتها تلوح.
لم يكتف ماكرون بمبعوثيه وكتبته لمحاولة تفسير موقفه، دون قدرة على الاعتذار، بل خط بقلمه ردا على مقال نشرته الفايننشال تايمز مفندا ما رآه تحريفا لكلامه ومتوقفا عن لفظي الإسلامي والإسلاموي دون قدرة على محاججة متن المقال. حاول ماكرو التوضيح فسقط في فخ نشر أخبار كاذبة كان من المفروض أنه يحاربها فوقع في المحظور.
ماكرون المدافع عن الحرية صار يتعقب كتابات الصحفيين الأجانب حتى تختفي من منصاتها، مثلما أنهت مؤسسة فرنسية عقدا كان يجمعها برسام كاريكاتير موريتاني لمجرد نشره رسومات اعتبرت مسيئة للسيد الرئيس. سجل فرنسا لم يكن خاليا من الاعتداء على حقوق رسامي الكاريكاتور، فهذا موريس سينيه، وهو من أعمدة شارلي ايبدو السابقين، يطرد من المجلة على خلفية رسم رآه الرئيس الأسبق ساركوزي مسيئا لابنه المعتنق لليهودية حديثا وقتها.
ساركوزي الذي يواجه اليوم تهمة تكوين عصابة إجرامية قبل أن يتراجع الشاهد الرئيسي عن أقواله، قبل يومين، ثماني سنوات من تفجر قضية تمويل العقيد الليبي معمر القذافي حملته الانتخابية التي أوصلته للايليزيه. العدالة كما الحرية والأخوة انتقائية في فرنسا الجمهورية الخامسة خصوصا إذا كانت أصوات أنصار ساركوزي مؤثرة في انتخابات 2022.
يقول ماكرون، عقب قمة أوروبية مصغرة، وهو يتحدث عن حرية الأنترنت، معقل الإرهابيين، "إن الحرية لا توجد إلا في وجود أمن، وفي حال لم تكن ملجأ لأولئك الذين ينتهكون قيمنا، أو يسعون إلى تلقين ايديولوجيات قاتلة". ليس أفضل من كلامه للرد على إصراره على حماية شارلي إيبدو مؤسسة وأفرادا وتأكيده على عدم التراجع عن الرسومات مهما تخاذل الآخرون. فالأمن والقيم ليست حكرا على الفرنسيين بل للمسلمين في كل أرجاء العام حق فيها.
هؤلاء آمنوا برسالة ماكرون
لم يؤمن برسالة ماكرون الجديدة غير جمع معروف من ديكتاتوريي الشرق الأوسط المبتدئين منهم والمخضرمين. محمد بن زايد أشاد بعلاقات فرنسا والعرب، أما وزيره للخارجية أنور قرقاش فاعتبر الرئيس الفرنسي "محقا تماما"، بل تبنت الدولة قانونا يصب في سياق التبشير بالتجديد الديني فصارت المساكنة واستهلاك الخمور حلالا بالقانون. في السعودية كان اللقاء بالسفير الفرنسي في عز الأزمة بمكة، مولد الرسول الكريم، وإمعانا في الهرولة صنفت هيئة كبار العلماء جماعة الإخوان منظمة إرهابية في مشهد سوريالي.
أما في مصر فطبيب الفلاسفة في الخندق دوما فـ "ما لا يرضي الله هو معه" كما قال ذات يوم. السيسي أكد قبل يومين على تحالفه الاستراتيجي مع اليونان وهي الحليفة الفرنسية في شرق البحر الأبيض المتوسط وليبيا. يأتي هذا بعد هزيمة أرمينيا، المدعومة فرنسيا، في قرة باغ لدرجة التحاق أعضاء مجموعة يمينية متطرفة بالقتال هناك في إطار ما أسمته "صراعا عالميا ضد المسلمين".
لم تتحرك النيابة الفرنسية لتعقب أعضاء الجماعة كما لم تفعل يوما في مواجهة مرتزقتها الذين عاثوا في القارة السمراء إرهابا وانقلابات. المؤمنون برسالة ماكرون من أيتام دونالد ترامب يبحثون عن كفيل أو حام جديد. ضعف الطالب والمطلوب.
يقول إيمانويل ماكرون في رسالته إلى الفايننشال تايمز مقتبسا من ابن خلدون " الجهل يؤدي إلى الخوف، والخوف يؤدي إلى الكراهية، والكراهية تؤدي إلى العنف". هذا بالضبط ما تعيشه فرنسا منذ سنوات وتكرس أكثر خلال الأزمة الأخيرة التي لا يبدو أن نهايتها تلوح.
نحن و"ماكرون" وردّنا عليه.. ومن جرّؤوه علينا
هل باعت تونس والجزائر والمغرب أبناءها؟