في سلسلة المقالات التي عنوناها بـ"
المواطنة من جديد" آثرنا أن نتناول مجموعة من الأفكار والمقدمات الأساسية لتجلية مفهوم المواطنة، كما تتأكد عناصر التأًصيل المتعلق به وارتباطه بشكل جوهري مع المفاهيم الأساسية التي تتعلق بحقوق الإنسان، وقلنا إن من إشكالات هذا المفهوم هو ذلك الأمر الذي يتعلق بالتنازع حول مدركات هذه المفردة في الثقافات والحضارات المختلفة، وكان علينا أن نتعرض لإسهامات الرؤية الإسلامية في تأسيس وتأصيل ذلك المفهوم، بما تؤكده القيم الإسلامية في سياق تلك المقولة الذهبية للإمام علي كرم الله وجهه: "الناس صنفان؛ أخ لك في الدين، ونظير لك في الخلق"، أي أن المواطنة التي تقوم على قاعدة من احترام الأديان والعلاقة بين أصحاب الدين الواحد لا تتنافى بأي حال من الأحوال مع المواطنة الإنسانية ضمن الحقوق المشتركة في الإنسانية.
ولعل ذلك الخطاب المتعلق بمنظومة القيم الكلية في الرؤية الإسلامية ذلك الخطاب الإنساني في القرآن إنما يشكل في حقيقة الأمر قاعدة لهذا الفهم، إن تصور الإنسان ضمن هذه الرؤية إنما يقوم على مساواة أصلية "كلكم لآدم، وأدم خلق من تراب"، وأن الأفضلية معقودة بنواصي الفعل المتعلق بنفع البشرية والإنسانية وتحقيق القيم الأٍساسية الإنسانية في أرض الواقع من غير تمييز أو عنصرية. إنها الحقيقة التي تتعلق بأن القيم لا ترتبط فقط بالمسلمين، ولكنها ترتبط بكامل الإنسانية.
هذا الخطاب يُشتق منه المعنى الأساسي الذي يتعلق بحقيقة الرسالة الإسلامية، ووصف الرسول فيها ومهمته الإنسانية والعالمية "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين". نعم كل العالمين، كل العوالم المتنوعة هي محل لرحمة هذه الرسالة وهذا الرسول، وعلى قاعدة شريعة الرحمة تلك يبدو هؤلاء ممن يؤمنون بالنبي عليه أفضل الصلاة والسلام يرتبطون هذا الارتباط بنبيهم الكريم؛ لا يقبلون عليه كلمة أو ذكرا قبيحا بالتلميح أو بالتصريح.
ومن هنا، فإن الأمر الذي يتعلق بذلك إنما يحقق لنا المعنى الذي يرتبط بالقضية الأساسية باحترام كافة الأديان، حتى مع اختلافها في سياق يؤكد على تلك القاعدة "لكم دينكم ولي دين"، إلا أن تلك القاعدة التي تتعلق باحترام الأديان مسألة أساسية ضمن رؤية هذه الشريعة، حتى كان النهي عن سب آلهتهم حتى لا يكون ذلك مدعاة لسب إلهنا، فوضعت الشريعة تلك القاعدة الإجرائية "وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ" (الأنعام: 108)؛ لتعبّر عن معنى الاحترام والالتزام رغم التمايز والتمسك بالدين في مواجهة الأديان الأخرى.
هذه النظرة الأساسية إنما تشكل جوهر مفهوم العالمية في الإسلام، فهي عالمية تحترم الإنسان، ومواطنيته على أساس تلك القاعدة، ذلك أن احترام معنى المواطنة الإنسانية باعتبار هؤلاء جميعا نظراء لنا في الخلق، إنما يعبر عن حقيقة النظر الذي يستوعب البشرية بأسرها ضمن رؤية تؤكد على معاني المساواة رافضة أي استناد أو حجة عنصرية. هكذا يمكن أن نفهم معنى ارتباط المواطنة بالقيم الإنسانية والعالمية.
فمن المؤسف حقا أن ترى رئيسا لدولة لا يقدر حجم المسؤولية عن الكلمة ولا عن الفعل، فيحاول من خلال شعارات زائفة وحالة عنصرية متمكنة أن يمارس هذا الخطاب الذي يسوغ الإساءة لنبي لأكثر من مليار ونصف مليار مسلم، ويعتبر ذلك ضمن حرية التعبير! بينما أن من يشكك في حادثة تاريخية أو في أعداد المحرقة، فقد دبجت لذلك القوانين مجرّمين ومعاقبين. ورغم أن المسألة الثانية يمكن أن تنتمي إلى قاعدة تتعلق بالتحقق التاريخي، وأن أمر النبي يتعلق بشريعة يتبعها الملايين، إلا أنه في ذلك اعتبر الأمر الذي يتعلق بالتشكيك في حادثة تاريخية جرم يستحق العقاب، بينما الإساءة إلى نبي ومتبعيه من المسلمين هو أمر يدخل تحت حرية التعبير "الزائفة"، ثم بعد ذلك يتحدثون عن العقلانية وعن الوقوف في وجه بث الكراهية.
أليس
ماكرون بخطابه المأفون هو الذي يحض على الكراهية والعنصرية تحت عناوين زائفة من الحرية وحرية التعبير؟! فماذا وقد انتقد البعض شخص "ماكرون"، فأدى ذلك لأن تعبر هيئات رسمية في
فرنسا أنها لا تقبل بأن يهان شخص "ماكرون" نفسه، ولم تعتبر ذلك من حرية التعبير، بل وجهت في ذلك واستنفرت حتى ترد على مثل هذه الانتقادات التي تستهدف شخصه.
أيها "الماكرون"، أليس كل ذلك يعبر عن محاولة بث ما تراه أنت أنه قيم فرنسية فتقسر الجميع على قبولها بكونها قيما إنسانية عالمية، في حقيقة الأمر ليس ذلك إلا محاولة لتعميم قيم العلمانية الفجة التي يتبناها بعنصرية أشد يحترفها، ويعبر عن كل ذلك بأنها قيم عالمية.
ثم تأتي بعد ذلك المسألة التي تتعلق بالمواطنة وحقوق الإنسان.. أليس لديك في حضارتك ما ترفعنه من شعارات تتعلق باحترام التنوع الثقافي والحضاري وعناصر التعدد الإنساني؟ فماذا عن احترام هذا التنوع وأنت مسكون بلغة عنصرية تتحدث عن أن الإسلام في أزمة، وأن هذا الإسلام "المأزوم" في العالم إنما يضيف للإنسانية مثالب ومشاكل ولا يضيف للإنسانية قيما وأعرافا إنسانية؟
في حقيقة الأمر إن هذا التقييم ينبئ عن جهل كبير حينما تخلط بين المنهج وبين ارتكاب بعض تجاوزات من متبعي هذا الدين، فتتهم الدين بأسره وتعمم تعميم الجاهلين على عموم هذا الدين، وهذا من الأمور التي تخالف المنهج والحقيقة، ذلك لو أردت نعدد لك ماذا ارتكبت فرنسا في حق الإنسانية من إرهاب ومجازر، وما الحالة الجزائرية حال استعمارها ببعيدة، ورفضت أنت وأقرانك أن تعتذروا عما ارتكبته فرنسا، ومع ذلك تضع من نفسك ومن قيمك "الزائفة" معيارا إنسانيا وعالميا، فكيف يمكن أن نتحدث كذلك عن الأديان وعن الرسول الكريم بمثل تلك الاستهانة وذلك الاستخفاف؟
إن هذا الأمر إنما يتعلق بجملة التشوهات لمفاهيم ترتبط بتنميط عولمي من حضارة غالبة تريد أن تدخل الجميع في بيت طاعتها، من غير معقب في حالة استعباد مبطن بالقيمة الإنسانية، وهي في الحقيقة مسكونة بمعاني المركزية الغربية والعنجهية الفرنسية بعلمانيتها الفجة، وهي في حقيقة الأمر حالة عنصرية لا إنسانية، وتمتهن مفهوم المواطنة بأبعاده الإنسانية، إن المسلم على سبيل المثال الذي يعيش على أرض فرنسا يحثه إسلامه على أن ينخرط كمواطن في بلد يعيش فيه، ولكن ليس معنى ذلك أن يتجرأ مواطن آخر على سب دينه أو السخرية منه ومن مقدساته. لو عرفت ذلك لعرفت معنى الحرية الحقيقية، حريتك تمد مدا بحيث لا تتعارض أو تمس حرية الآخرين ومقدساتهم.
فإذا أردت الميزان الإنساني في مفهوم المواطنة لعرفت أن الأمر يحتاج منك أن تتثقف إنسانيا وقيميا وتتخلى عن عنصريتك الدفينة وعلمانيتك الفاجرة التي يمكن أن تبيح الاعتداء على مقدسات الآخرين، وحينما يقوم هؤلاء المسلمون عبر حدود دول مختلفة وفي أرجاء العالم بمقاطعة البضائع الفرنسية فإن ذلك يعبر عن احتجاج حضاري راق يعلن فيه هؤلاء أنهم يستطيعون أن يضروا بديانتك المادية ألا وهي "ديانة السوق". فحينما يقاطعون بضائعك تتأثر وتصرخ، فلو علمت أن شأن الأديان بالنسبة للمسلمين والرسول الكريم هي من الأمور التي تحفز الجميع للاحتجاج من أجلها إلا أنك لا تفهم معنى القيم الروحية والإنسانية والدينية.
أنت حر في دينك وما تؤمن به، ولكنك لست حرا في أن تعتدي على ديني ورسولي، أو تسمح بذلك أو تومئ بخطابك في لحن القول، فتحرّض على الدين وأتباعه، هذا لو كنت تعلم معنى إنسانية المواطنة ومواطنة الإنسانية.