تتجدّد التحديات في طريق حركة النهضة، لا تكاد هذه التحديات تتضاءل حتى تعود، أكثر تعقيدا وشراسة، في ظل مناخات إقليمية ودولية متحفظة في المجمل على التغيير الديمقراطي، الذي دشنته تونس، بل قد تعمل على إرباكه وتقويضه. تصاحب هذا الوضع حالة داخلية، تبدو قلقة وغير مرتاحة، ولا تساعد على توحيد الجهود في مواجهة التحديات الخطيرة في وجه البلاد والحركة.
أولا: حققت تونس على مدى حوالي عقد بعد ثورتها انتقالا سياسيا نوعيا، خطت به خطوات معتبرة وغير مسبوقة، على طريق تعزيز المسار الديمقراطي، وترسيخ أركانه، وبناء دولة المؤسسات، وبسط الحريات العامة والخاصة. وهي مكاسب استراتيجية على طريق إعادة بناء الدولة الوطنية، على أسس وقواعد جديدة، ووفق رؤية ديمقراطية.
وكان لحركة النهضة دور أساسي في عملية التحول والبناء، بما بوأها مكانة رئيسية في المشهد السياسي، ودفع بها حزبا مشاركا في الحكم، ومساهما فيه بصفة معتبرة منذ 2012 إلى اليوم. وساهم توجه النهضة، الذي رجح في مجمله لصالح الوسط، وتجنّب الميل إلى التوجهات الصلبة، إلى حد كبير في تأمين ما تحقق من إنجازات على المستوى الوطني. وهو ما يجب أن يسجل ويوثق بشكل علمي، عند قراءة تجربة الانتقال الديمقراطي في البلاد.
ثانيا: بيد أن ما تحقق من مكاسب وطنية منذ الثورة إلى اليوم، انحصر في مجمله في المستوى السياسي، كما أنه لايزال يفتقد للمرافقة الاستراتيجية، لترسيخه من جهة، ولتوسيعه من جهة أخرى، ليشمل تحولا اقتصاديا اجتماعيا، عبر اجتراح منوال تنموي، يقوم على رؤية اقتصادية واجتماعية واعدة، وجدية في إحداث الانتقال الحقيقي بحياة التونسيين، والاستجابة لتطلعات الشباب والمناطق المحرومة، في الخروج من الهامش إلى المركز، ومن الظل إلى الضوء.
وقد تعمّق هذا الخلل في الانتقال الاقتصادي والاجتماعي الشامل، بسبب محيط إقليمي وعربي ودولي عاصف، يلقي ظلاله السلبية المباشرة على الحالة التونسية. هذا الوضع جعل الحالة التونسية، رغم المكاسب والنجاحات التي تحققت، حالة قلقة وهشة، تحمل في ثناياها «قابلية الانتكاس»، وتفكك الإجماع وروح التوافق، التي سادت بأقدار منذ 2013. وتغري هذه الأوضاع الرخوة المتربصين بالتغيير (داخليا وخارجيا) للانقضاض على المسار، واستهداف حالة الاستقرار، ومحاولة إرباك التجربة، وخلط أوراق اللعبة من جديد عبر دفعها للفوضى.
ثالثا: مثّل مسار النهضة منذ مؤتمرها العاشر، وصولا إلى اللحظة الراهنة، حالة مركبة. تراوح فيها هذا المسار بين إنجازات معتبرة، واهتزازات عاصفة، في العلاقة بالمؤتمر نفسه. ففضلا عما خلّفه من تداعيات وإشكاليات تنظيمية واضحة، كان واضحا للعيان في تركيبة المؤسسات القيادية اللاحقة عن المؤتمر، ثم في عملية إفراز القوائم الانتخابية، الذي عكس سوء تدبير فادح، كرّس انقساما وتجاذبات حادة.
تبدو النهضة اليوم أمام لحظة تاريخية فاصلة ومفصلية، قد لا تتكرر لتنقذ نفسها، وقفة، ومراجعة، وانبعاثا جديد
إلى جانب ذلك لم تنجح النهضة في تمثل مضامين المؤتمر، ولم تستو الحركة على ما سطرته اللوائح من أفكار للتحول والانتقال، فوّتت على نفسها لحظة تاريخية مهمة للتطور، فكرا وسياسة ومنهجا وصورة، وإبراز مشروعها الوطني الديمقراطي المنفتح، في إطار تمسكها بهوية البلاد. وبقدر ما كانت لحظة ما بعد انتخابات 2014، لحظة مهمة في نهج وسلوك النهضة، إصرارا على التوافق السياسي، وحرصا على وسطية التموقع، بقدر ما مثلت لحظة ما بعد المؤتمر العاشر لحظة الجموح مجددا لخطاب المغالبة، عبّر عن نفسه بشكل صارخ في الانتخابات البلدية، ثم انجرت النهضة إلى فك التوافق مع الباجي قايد السبسي في قرطاج، ودعم خصمه يوسف الشاهد في القصبة.
وقد حصل هذا التأرجح بدون بناء تحالفات حقيقية، لا مع الأول ولا مع الثاني، انتهاء بحملة انتخابية تشريعية ورئاسية في خريف 2019، اُستدعي فيها خطاب، متناقض مع مضامين المؤتمر العاشر، استراتيجية ونهجا ورؤية، بل انكشف خطاب نقض غزل روح التوافق التي بشر بها الحزب لسنوات، وتبرأ من نتائجه، حتى بدا مجرد مخاتلة سياسية، وليس مقاربة استراتيجية. واستدعي خطاب الهوية بصورة سطحية، رهانا على رفع الرصيد الانتخابي. لحظة بدت أشبه بالانزلاق، هز الصورة، وعمّق الشكوك لدى الشركاء المفترضين، تحالفا وشراكة.
رابعا: خرجت النهضة من الاستحقاق الرئاسي من الدور الأول، بما يشبه الخسارة المرة، التي عكست ترددا وسوء تدبير وتقدير لمحطة سياسية حيوية، لم تحسم الحركة بشأنها إلا أسابيع قليلة قبيل إجرائها. وانعطفت الخسارة على تراجع واضح في نتائج الانتخابات البرلمانية، التي حلت فيها النهضة أولا دون أن تحقق الفوز المطلوب. وما تحقق من نتيجة رغم محدوديتها أهدرت وبُددت في مسار فاشل لتشكيل الحكومة، بدءا بسوء اختيار مرشحها لرئاستها، ثم ضعفها الفادح في إدارة التفاوض لتشكيل الحكومة، انتهت بحالة من تعميق التوتر مع القوى السياسية الأخرى، ثم بالفشل في حصول الحكومة المقترحة على الثقة في مجلس نواب الشعب. فشل لم يكن هينا، بل أطلق ديناميكية سلبية لا تقل كارثية على خروج عبد الفتاح مورو من الدور الأول في الرئاسيات، وقد تزيد عليها.
وحتى محاولات التدارك في المفاوضات الثانية لتشكيل الحكومة، التي عيّن قيس سعيد إلياس الفخفاح رئيسا لها، بقدر ما انتهت فيها النهضة إلى نتائج مقبولة، تشكيلة، إلا أن الوصول إليها حصل بتعميق أزمة الثقة وحالة من الاحتقان مع شركاء مفترضين، على غرار التيار الديمقراطي وحركة الشعب، بل إلى حد ما رئيس الجمهورية نفسه.
خامسا: تجد النهضة اليوم نفسها أمام استحقاق المؤتمر الحادي عشر، وهو بحكم حجم النهضة ودورها في المشهد الوطني، يعتبر هذا الاستحقاق استحقاقا وطنيا بامتياز، سيكون محل اهتمام الرأي العام الوطني والعربي، فضلا على أبناء النهضة، المعنيين بشكل مباشر بهذا الاستحقاق.
استحقاق يواجه حالة من الضغط الداخلي والخارجي، ليس فقط لجهة الحاجة لتجديد الشرعية، وإنما بما يمثله من محطة مفصلية في تاريخ الحركة والبلاد. وقد لا نبالغ إذا قلنا إنه لحظة تأسيسية جديدة، لتجديد النخبة القيادية، وإعادة بناء منظومة قيم وسياسات ورؤى جديدة، وتدقيق التموقع الاستراتيجي للحزب في المشهد الوطني، لذلك تبدو النهضة اليوم في حاجة إلى خطوات حاسمة، للحفاظ على موقعها في المشهد السياسي، بل وتعزيزه بمقاربة تجديدية شاملة ضمن أفق وطني منفتح، وهو ما يقتضي:
*التوافق على طبيعة المؤتمر عبر حوار جدي في مؤسسات الحزب وبين مختلف نخبها، لتجاوز فكرة أن المؤتمر مجرد محطة انتخابية، لتجديد المؤسسات. والوعي بالحاجة الملحة لإعطاء مسألة التموقع الاستراتيجي للحركة في الساحة السياسية، وما يستتبع ذلك من تفصيل لخياراتها الاجتماعية الاقتصادية ورؤيتها التنموية وبالتالي تدقيق موقعها في المشهد الوطني.
*ترسيخ مبدأ الانتقال القيادي، من خلال تجديد النخبة القيادية، باعتباره أمرا حيويا لمستقبل النهضة وشرطا لتطوّرها، ولاستمرار مشروعها الوطني وما يقتضيه ذلك من التزام صارم، بما نص عليه القانون الأساسي في هذا الباب والتمسك بالمبادئ التنظيمية، التي تؤكد على الديمقراطية في إدارة الحزب والتداول على المسؤوليات.
*تحويل الحزب إلى ورشة عمل مفتوحة لإجراء التشخيص الدقيق والسليم، ثم إعادة بناء الحزب، مقاربة تجديدية شاملة، تنفض عن الحزب عبء وإرث تنظيمي وسياسي، تراكم بدون تدقيق وتمحيص، ولم يعد اليوم يستجيب للحظة التاريخية حزبيا ووطنيا. ما يستلزم إطارا قانونيا أكثر ديمقراطية (القانون الأساسي للحزب) وإدارة سياسية أكثر رشدا وحوكمة، ورؤية وطنية شاملة (التوجه السياسي) تستجيب لمقتضايات التحول السياسي في البلاد، وتتمثل قيم التغيير والثورة، عدالة اجتماعية، ووسطية سياسية.
تبدو النهضة اليوم أمام لحظة تاريخية فاصلة ومفصلية، قد لا تتكرر لتنقذ نفسها، وقفة، ومراجعة، وانبعاثا جديدا. لحظة تحتاج الكثير من الشجاعة ونكران الذات. لحظة تسويات تاريخية، تعبر بالحركة إلى أفق وطني جديد، تحتاجه البلاد والمنطقة، يعيد حقن منظومة قيم ومفاهيم حضارية وثقافية وسياسية تجديدية، بكل جرأة ولكن بثقة وانسجام مع الذات، ووفاء لها، وضبطا لغريزة الحكم والسلطة، وعقلنة الإدارة السياسية.
*مدير المركز المغاربي للبحوث والتنمية
*صحيفة القدس العربي ـ لندن
المطبعون في قلوبهم مرضٌ وذاكرتهم هباء