الكتاب: ثورة مصر المنسية (مقاومة الاحتلال البريطاني في مطروح والواحات 1915 ـ 1919)
المؤلف: عبد القادر طريف
الناشر: الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2018
على عكس ما يروجه البعض عمداً، أن الشعب المصري لا يثور، يقدم الباحث الكبير عبدالقادر طريف في هذا الكتاب ـ المرجع ـ قصة كفاح الشعب المصري للاحتلال الإنجليزي في مطروح والواحات.
القصة ببساطة تشير إلى تمرد فرقة من الجيش المصري في الصحراء الغربية على رأسها حكمدار مطروح نفسه، اليوزباشي محمد صالح حرب (الذي أصبح وزيراً للحربية فيما بعد سنة 1939)، بمشاركة 15 ضابطا و175 جنديا مصريا من قوة الهجانة وحرس الحدود، وانضم إليهم نحو تسعة آلاف من أهالي مطروح والواحات وأعلنوا الحرب المسلحة على الإنجليز في كانون الأول (ديسمبر) 1915. وظلت الحرب مشتعلة لثلاث سنوات كاملة، سقط خلالها قتلى من الجانبين.
وقد تعمد الاحتلال الإنجليزي إخفاء أمر هذه الثورة المسلحة في مطروح عن العالم، ليثبت أن الشعب المصري محب للإنجليز، وأن الأمور مستتبة لهم وعلى ما يرام في مصر، كما أخفاها أيضاً عن بقية المصريين حتى لا يثوروا مع بقية شعبهم فتقع الكارثة على رؤوس الإنجليز، والمفارقة الغريبة أن السلطات المصرية آنذاك، وعلى رأسها السلطان حسين كامل سلطان مصر، وحسين رشدي باشا رئيس وزراء مصر وقتها، وحكومته كانوا يعلمون بهذا التضليل ويوافقون عليه.
وكانت تلك المعارك تُسمى خطأ بمعارك الجيش السنوسي ضد الإنجليز في الصحراء الغربية، غير أن البحث المطول والتفصيلي الذي قدمه عبد القادر طريف في هذا الكتاب، المرجع، يؤكد أن المعارك جرت بين فرقة من الجيش المصري تقود مصريين متطوعين ضد الجيش البريطاني نفسه، وأن دعم السنوسيين للمتمردين المصريين لا يعني أبدا أنهم هم من خاضوا المعركة.
مقدمات الثورة:
قامت الحرب العالمية الأولى في أغسطس 1914، فتحولت بريطانيا من الحكم المستتر لمصر، إلى الحكم العلني، والسيطرة الواضحة، فأعلنت الحماية التامة على مصر، ثم أعلنت خلع الخديوي عباس حلمي الثاني الذي لم تكن تثق فيه، وقررت بشكل منفرد وبقرار من المعتمد البريطاني تعيين عمه حسين كامل خديوي على مصر، بل ومنحته لقب سلطان ليكون موازياً للسلطان العثماني، شكلاً، ومنذ تلك اللحظة أطلقت بريطانيا يدها في السيطرة على كل أمور مصر، فهي من عينت الحكومة برئاسة حسين رشدي، وهي من كانت تمرر كل القرارات التي تريدها، ومنها إعلان الحرب على ألمانيا، ثم تركيا، باعتبار مصر مستعمرة بريطانية.
ويورد المؤلف عدة وثائق عن هذه الفترة، منها نص وثيقة إعلان الحماية البريطانية على مصر، ونص وثيقة خلع الخديوي عباس حلمي الثاني بأمر من وزير الخارجية البريطاني، ووثيقة تعيين السلطان حسين كامل، وغيرها من الوثائق التي تبين أن الإنجليز كانوا الحاكم الفعلي لمصر آنذاك.
وعن أسباب اندلاع الثورة، يقول المؤلف في الصفحة (27):
"كان المسلمون في مصر يساقون لقتال إخوانهم المسلمين قسراً، وفي الوقت نفسه كان المصريون يُجبرون على التبرع للصليب الأحمر ولأسر جنود الحلفاء المنكوبين ولفرسان القديس حنا... وبلغ ما جُمع من مصر سنة 1915 أكثر من 112 ألفاً من الجنيهات، ثم ارتفع في السنة التالية إلى ما يقرب من 119 ألفاً من الجنيهات، وارتفع في عام 1918 إلى 226 ألفاً تقريباً، بل وأجبر الإنجليز الحكومة المصرية نفسها في سنة 1918 على أن تتبرع للحكومة الإنجليزية بثلاثة ملايين جنيه مساهمة منها في نفقات الحرب، وتعهدت مصر أيضاً بالتبرع بنصف مليون آخر من ميزانية السنة التالية".
هذا، بالإضافة لتجنيد الشباب المصري قسراً ليحارب في صفوف الجيش البريطاني، وجمع العمال لخدمة الجيش البريطاني، وكان يتم جمعهم بالإكراه عن طريق السلطات وموظفيها وعمداء البلاد وخفرائها، ويذكر المؤلف أن عدد العمال والفلاحين والهجانة المصريين الذين أُخذوا من مصر منذ بداية الحرب حتى نهايتها بلغ مليونا ونصف مليون عامل، مات الكثير منهم.
يتتبع مؤلف الكتاب مصائر رجال الثورة المسلحة فيشير إلى استشهاد البعض وهروب آخرين غربا وجنوبا، حتى أصدرت حكومة الشعب برئاسة سعد زغلول سنة 1925 عفواً تاماً عن كافة المتمردين وسمحت لهم بالعودة دون عقوبات
وفي 24 تشرين الثاني (نوفمبر) 1915، أمر الأميرالاي سنو بك قائد القوات البريطانية بمصادرة كل المحلات في مطروح على أن يتم تسديد أثمانها فيما بعد، وأمر أصحاب هذه المحلات بالخروج من مطروح، وإخلاء العزب من جميع الغرباء القاطنين بها كالطليان واليونانيين، وتم الاستيلاء على المتاجر الموجودة بها لحساب الجيش البريطاني تمهيداً لاتخاذ مرسى مطروح مركزاً للعمليات العسكرية.
ويورد المؤلف أسماء الضباط المصريين، وبيانات عنهم، فضلا عن أسماء العمداء والمشايخ المصريين الذين شاركوا معهم في المعارك خلال تلك الفترة، ووصف تفصيلي للمعارك.
كانت أولى معارك الفدائيين المصريين هي معركة وادي ماجد في 11 ديسمبر سنة 1915 التي سقط خلالها 40 ضابطا إنجليزيا و80 جنديا صرعى، وتتالت المعارك بعدها، تكبدت بريطانيا خلالها خسائر فادحة.
ينقل المؤلف عن مذكرات عبد الرحمن باشا عزام (أول أمين عام للجامعة العربية فيما بعد) قوله: "إنه حضر معركة بير أبو تونس وأن خسائر الإنجليز فيها كانت كبيرة جداً، تخطت 1000 قتيل بخلاف الجرحى، الذي يؤكد أن 450 جريحاً بريطانياً نُقلوا إلى المشافي في القاهرة وأن عدداً كبيراً آخر من الجرحى نُقل إلى مستشفيات على ظهر السفن، أما خسائر المجاهدين فهي قليلة جداً، ولم تزد عن ثلاثين قتيلاً، ومائة جريح".
ووفقاً لمذكرات عزام باشا، فإن الإنجليز فقدوا في المعركتين اللتين حضرهما وهما معركة بير أبو تونس، ومعركة عقاقير أبو حريرة، ألفا ومائة قتيل بريطاني، وأكثر من تسعمائة جريح.
من ناحية أخرى، يفند المؤلف الروايات الإنجليزية عن هذه المعارك، ويقول: "كل الروايات الإنجليزية تقول إن أول معركة هي معركة وادي الصنب، عندما خرج الإنجليز لمطاردة اليوزباشي صالح حرب ومن معه، حيث أرسل الجنرال والاس، قوة بقيادة الكولونيل جوردون، ومعه الحاكم العسكري لمطروح الكولونيل سيسل جيفيل سنو بك، وأنهم خرجوا من مطروح متجهين إلى منطقة دوار حسين، المتواجد فيها صالح ومن معه، وهي على بعد 26 كم غرب مدينة مرسى مطروح. وبعد أن تحركت القوة مسافة 14 كم ـ في منطقة وادي الصنب تحديداً ـ وقعوا في كمين كان معدا مسبقاً حيث فاجأتهم نيران البنادق صباحاً، وقامت معركة حامية الوطيس، أسفرت في نهايتها عن مقتل 16 ما بين ضابط وجندي بريطاني، منهم ضابط المخابرات والحاكم العسكري لمطروح الكولونيل سنو بك، الذي قُتل أثناء محاولته القبض على بدوي جريح".
وإذا كانت كتب التاريخ لم تشر للمقاومة المسلحة العنيفة التي سقط خلالها عشرات القتلى من الإنجليز والتي امتدت ثلاث سنوات، بل إن بعض المؤرخين مثل عبد الرحمن الرافعي اعتمد الرواية البريطانية بأن مجموعة من القوات السنوسية هاجمت كتائب الإنجليز في الصحراء الغربية، فإن هذا الكتاب يظهر الحق ولو بعد حين، ويكشف حقيقة ما طُمس ونُسي.
ويتتبع مؤلف الكتاب مصائر رجال الثورة المسلحة فيشير إلى استشهاد البعض وهروب آخرين غربا وجنوبا، حتى أصدرت حكومة الشعب برئاسة سعد زغلول سنة 1925 عفواً تاماً عن كافة المتمردين وسمحت لهم بالعودة دون عقوبات، فعاد بعض المشاركين وتولوا مناصب مهمة في الشرطة المصرية، وعاد محمد صالح حرب، وترقى في المناصب حتى وصل فيما بعد إلى منصب وزير الحربية.
تلك صفحات منسية ووقائع مطموسة أعاد رسمها باحث مجتهد، ففي تاريخ مصر الطويل لم يتوقف الشعب عن الثورات والاحتجاجات إلى يومنا هذا، وكما قال السير توماس ونتورث راسل أحد كبار الضباط الإنجليز، الذي شغل منصب حكمدار بوليس القاهرة لأكثر من ثلاثين سنة أثناء الاحتلال الإنجليزي لمصر، وكتب العديد من التقارير السنوية عن الأوضاع الأمنية في المحروسة: "المصريون مثل رمال الصحراء الناعمة، تستطيع أن تمشي فوقها مسافة طويلة، لكنك لا تعرف متى تفاجئك وتتحرك، وتبتلعك"، وكأن راسل يحذر كل حاكم من طبيعة هذا الشعب الذي يبدو ساكناً هادئاً غير مكترث، ثم فجأة ينقض. فشكرا للشغف بالكشف، وطوبى للباحثين عن الحقيقة.
خريطة العنف في غرب إفريقيا.. قراءة في كتاب
المؤرخون الإسرائيليون والحروب الصليبية.. قراءة في كتاب
تاريخ مصر من الفتح العربي حتى عصر السادات.. قراءة في كتاب