أعاد السجال الدائر بين قيادات حركة "النهضة" التونسية حول مستقبل التداول على المناصب القيادية في إدارة شأن الحركة استعدادا لمؤتمرهم 11، إلى الواجهة مسألة التناوب على المناصب القيادية لدى التنظيمات الإسلامية بشكل عام.
والحقيقة أن هذا السجال المثار في تونس هذه الأيام، ليس هو الأول من نوعه، لا في تونس ولا في باقي التنظيمات المحسوبة على تيار الإسلام السياسي في المنطقة العربية والإسلامية.. لكن الجديد في هذا الملف أنه يأتي بعد نحو عقد من الزمن من اندلاع ثورات الربيع العربي، وانتقال الإسلام السياسي من المعارضة إلى الحكم، ومن السرية إلى العلن..
وعلى الرغم من أن عددا من الحركات الإسلامية تعاملت بسلاسة مع مطلب التداول السلمي على المناصب القيادية كما هو الحال في مصر والمغرب وموريتانيا وفلسطين مثلا، إلا أن هذا التداول لم يسلم من خدوش سياسية وأحيانا شخصية طبعت تاريخ الإسلام السياسي الحديث..
"عربي21"، تسأل: كيف تعاطى الإسلاميون مع مطلب التداول السلمي على المناصب القيادية في تنظيماتهم؟
الكاتب والإعلامي بسام ناصر يطرح مع نخبة من المشتغلين بالإسلام الحركي تجربة إسلاميي فلسطين في التعاطي مع تحدي التداول على المناصب القيادية..
وضع استثنائي
على الرغم من كل الصعوبات والتحديات التي فرضتها سلطات الاحتلال الإسرائيلي على الحركات الإسلامية في فلسطين، إلا إن تلك الحركات سواء ما كان منها في الضفة الغربية أو غزة أو الداخل الفلسطيني (48) تمكنت من إدارة شؤونها التنظيمية الداخلية بما يضمن لها استمرارية الوجود ودوام الحضور في الساحة الفلسطينية، ومواجهة حملات استهدافها المتتابعة.
ونظرا لقسوة الظروف المتولدة من رحم الاحتلال الإسرائيلي فإن تلك الحركات اضطرت تلك الحركات لاتخاذ تدابير وإجراءات تنظيمية اتسمت بالسرية التامة، لاختيار من يتولون مسؤولية مختلف المواقع القيادية فيها، سواء أكان ذلك بالتعيين أو بالانتخاب الداخلي ضمن التدابير الممكنة والمتاحة في ظل الاحتلال.
ووفقا لمراقبين فإن من الصعوبة بمكان مطالبة تلك الحركات بما تطالب به الأحزاب والقوى السياسية الأخرى، نظرا لخصوصية الحالة الفلسطينية، وعمل الأحزاب والقوى المقاومة تحت حراب الاحتلال، بكل ما يفرضه عليها من تحديات المحافظة على كياناتها وقياداتها وكوادرها العاملة، ما يحملها على اجتراح مقاربات تتوائم مع ظروفها القاهرة، وتؤمن لها في الوقت نفسه إدارة شؤونها التنظيمية الداخلية بين (أقاليمها) المختلفة داخل فلسطين وخارجها.
يستعرض هذا التقرير تجربة كل من حركة المقاومة الإسلامية في غزة والضفة والخارج، وحركة الجهاد الإسلامي، والحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني، ويسلط الضوء على كيفية وآليات اختيار قياداتها، وإن كانت تجربة تلك الحركات قد تضمنت تداولا حقيقيا للمواقع القيادية فيها وفق لوائحها وقوانينها الداخلية؟ والبحث عن العناصر الأخرى المؤثرة في عملية التداول على المواقع القيادية إضافة للوائح والقوانين الداخلية، وتقييم نتائج تلك التجارب إن كانت تلك الحركات قد قدمت نموذجا عمليا في التداول يتوافق مع أطروحاتها النظرية.
تجربة حركة حماس
في هذا الإطار درجت حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، (تأسست عام 1987) على إجراء انتخابات داخلية دورية، تجريها بسرية تامة كل أربع سنوات، لاختيار قياداتها على اختلاف مستوياتها التنظيمية، وتقوم بعد انتهائها بإعلان نتائج المكتب السياسي.
وكان الدكتور موسى أبو مرزوق أول رئيس انتخب عام 1992 لأول مكتب سياسي للحركة، وبعد أن اعتقلته السلطات الأمريكية عام 1995 على خلفية انتمائه للحركة، تم انتخاب خالد مشعل رئيسا للمكتب السياسي عام 1996، وشغل المنصب حتى شهر أيار 2017، ثم انتخبت الحركة إسماعيل هنية رئيسا لمكتبها السياسي، وما زال يشغل المنصب إلى يومنا هذا.
ووفقا لأدبيات الحركة ونظامها الأساسي فإن الانتخابات الداخلية تجري حسب اللوائح والقوانين، التي "تضمن التداول السلس على المواقع القيادية، وتتسم بقدر كبير من المرونة التي تراعي خصوصية الحالة الفلسطينية، وتفرق الفلسطينيين بين كتل جغرافية تتباين ظروفها تباينا شديدا" حسب الكاتب والباحث الفلسطيني في شؤون الحركات الإسلامية، ساري عرابي.
لكن تنبغي الإشارة، يضيف عرابي "إلى أن اللوائح هي مجرد عنصر من مجموعة عناصر تؤثّر في التداول القيادي داخل الحركة، فمراكز القوة والنفوذ المؤسسة على المناطقية والعلاقات الشخصية والتحالفات الداخلية تؤثر بشكل حاسم في التداول القيادي وطبيعة التصعيد، مما قد يخلق حالة من الاستزلام، ويؤدي إلى احتكار التداول في طبقة تملك تربيطات العملية، مما يجعل مكانة أفراد الصف الثاني تتحدد بحسب طبيعة علاقاتهم مع شخوص الصف الأول، في صورة من الاسترلام" على حد قوله.
اللوائح هي مجرد عنصر من مجموعة عناصر تؤثّر في التداول القيادي داخل الحركة، فمراكز القوة والنفوذ المؤسسة على المناطقية والعلاقات الشخصية والتحالفات الداخلية تؤثر بشكل حاسم في التداول القيادي وطبيعة التصعيد
وتابع حديثه لـ"عربي21" بالقول: "ويبدو أن التشتت المناطقي ونمط الديمقراطية المركزية يتيح للصف الأول هذا النمط من مركزية التداول في الطبقة العليا التي تتسم بقدر من الثبات".
ولفت عرابي إلى أن "حجم الانتخاب في القواعد الدنيا متفاوت بحسب الظروف الخاصة بكل كتلة جغرافية للفلسطينيين، فالظروف الأمنية الخاصة بساحة الضفة الغربية مثلا لا تتيح للعناصر والكوادر الانتخاب المباشر مما يدفع الحركة لابتداع حلول قد لا تحظى بالشرعية الكافية، لذا فالحاصل أنه ومهما كان حجم مشاركة العناصر الدنيا في الانتخابات الداخلية، فإن التداول القيادي تحسمه تربيطات وتحالفات الطبقة القيادية العليا".
وعن تقييمه لمسيرة الحركات إن كانت قد استطاعت أن تقدم نموذجا عمليا في التداول على المواقع القيادية يتطابق مع أطروحاتها النظرية، أوضح ساري أن الحركات "كأي فاعل اجتماعي وسياسي ثمة تدافع داخلي فيها، ونشوء مراكز قوى، وهذا قد يبدو طبيعيا، لكن قسطا وافرا منه يتناقض مع تنظيرات الحركة حول الزهد في الموقع، والتي نجم عنها منع الدعاية الانتخابية، وألا يرشح الفرد نفسه، وألا ينتخب نفسه.
وأردف "ومحاولتها عكس صورة من هذا النوع عن ذاتها لقواعدها، الأمر الذي يخلق قدرا من قصور الوعي لدى القاعدة حيال الحركة، وذلك لأن صف الحركة لا يخلو من التربيطات، التي تسمى داخليا بالكولسات، والتحالفات الداخلية".
وطبقا لعرابي فإنه على "الرغم من العيوب في هذه الممارسة، فإن الحركة كانت تخرج غالبا بحالة جيدة تحسم فيها الخلافات وتناقضات المصالح بصورة معقولة، وتبقى اللوائح ضمانة أمان ضرورية وفاعلة حتى لو أثرت عليها عوامل أخرى".
من جهته قال الكاتب والباحث السياسي، محمد غازي الجمل "أقرت اللوائح الداخلية لحركة حماس عدم بقاء أي عضو في ذات الموقع القيادي لأكثر من دورتين متتاليتين، إلا أن إقرار ذلك لم يحصل إلا بعد ما يزيد عن عقدين منذ انطلاق الحركة، وهو ما سمح ببقاء السيد خالد مشعل رئيسا لها قرابة واحد وعشرين عاما".
وتابع: "كما أن النظام الداخلي للحركة لا يدعم نقلا كاملا للدور الذي يمثله الموقع القيادي، إذ ترتبط الكثير من متعلقات الموقع القيادي بالشخص نفسه، كالعلاقات السياسية، ومصادر الدعم المتنوعة".
وعن مدى حصول تبادل السلطة داخل حركة حماس بين أقاليمها المختلفة، ذكر الجمل في حديثه لـ"عربي21" أن "تبادلا للسلطة حصل بين (أقاليم) الحركة مرة واحدة هي في العام 2017، حينما انتقلت القيادة من الخارج إلى قطاع غزة".
وأردف "أما تبادل القيادة داخل صفوف الحركة في الخارج فقد تم مرتين، الأولى بين الشيخ خيري الآغا رحمه الله، وبين الدكتور موسى أبو مرزوق، بعد أن تنحى الآغا برغبته عن موقعه عام 1993، والثانية بانتخاب السيد خالد مشعل، وكان أبو مرزوق حينذاك معتقلا في أمريكا، أما في الداخل فقد كانت (سرعة التدوير القيادي) عالية، بسبب طبيعة المواجهة التي تسفر عن استشهاد أو اعتقال القيادات بوتيرة سريعة".
وردا على سؤال إن كانت الحركة قدمت نموذجا عمليا يتوافق مع أطروحاتها الداخلية أوضح الجمل أن "الحركة في البعد النظري تتبنى الفهم الإخواني للنصوص الشرعية المتعلقة بعدم طلب الإمارة، وعدم "تزكية النفس"، بمعنى تجنب الادعاء بالأهلية للقيادة، وهو أمر يحكم نظامها الانتخابي المكتوب، إلا أن الواقع مغاير لذلك".
وواصل توضيحه لفكرته بالقول: "إذ يدرك المتابعون للانتخابات الداخلية للحركة، وللحركات الإخوانية عموما، شدة التنافس على مختلف المواقع القيادية، والذي يحمل دوافع جهوية او شخصية، إضافة إلى بعض الاختلافات على أسس برامجية أو فكرية، إلا أن النظام الداخلي غير مصمم لتعزيز البعد البرامجي أو الفكري في التنافس، وهو ما يركز الجدل الانتخابي حول الأشخاص أو الانتماءات الجهوية الضيقة (غزة، ضفة، خارج) ويعمق الانقسامات، ويجعل خسارة القيادي لموقعه وكأنها تصويت ضد شخصه وإدانه له، وهو أمر يزيد من صعوبة الانتقال السلس للمواقع القيادية".
الحركة في البعد النظري تتبنى الفهم الإخواني للنصوص الشرعية المتعلقة بعدم طلب الإمارة، وعدم "تزكية النفس"، بمعنى تجنب الادعاء بالأهلية للقيادة، وهو أمر يحكم نظامها الانتخابي المكتوب، إلا أن الواقع مغاير لذلك
وعن كيفية إدارة الحركة لملف اختلاف بعض قياداتها في الرأي والمواقف السياسية لفت الجمل إلى أن "الحركة اعتمدت (ديمقراطية توافقية) في غالبية محطات عملها ـ ويعود ذلك جزئيا إلى التباعد الجغرافي بين (أقاليم) عملها ـ، وأسهم ذلك في الحفاظ على تماسكها التنظيمي إلا أنه حد من فعاليتها السياسية، ومن قدرة قيادتها على المحاسبة التنظيمية وتقويم الأخطاء".
وفي الإطار ذاته قال الكاتب والأكاديمي الفلسطيني، الدكتور عدنان أبو عامر "بعد مرور ما يزيد عن ثلاثين سنة من تأسيس حركة حماس، يمكن القول أن لدى الحركة مجموعة من النظم والقوانين واللوائح التي تجعل عملية نقل السلطة من قائد إلى آخر، ومن قيادة إلى أخرى أكثر سلاسة وأقل تعقيدا".
وأضاف: "صحيح أن المسألة ليست رياضية بحتة، لكن حماس قياسا بغيرها من الحركات والتنظيمات السرية ذات العمل المسلح استطاعت أن تجتاز الكثير من الامتحانات القاسية عبر العقود السابقة لنقل السلطة بشكل سلس ومرن بين مختلف قياداتها وأقاليمها الجغرافية المختلفة".
وردا على سؤال "عربي21" حول البعد الجغرافي وتأثيره على عملية تداول المواقع القيادية في الحركة ذكر أبو عامر أن لهذا الموضوع حساسية بالغة، فحماس من الناحية التنظيمية والشعبية والعسكرية تتركز في قطاع غزة بشكل أساسي، في حين أنها في الضفة الغربية تعيش حالة من الملاحقة الدائمة من قبل السلطة الفلسطينية وإسرائيل على حد سواء".
حماس قياسا بغيرها من الحركات والتنظيمات السرية ذات العمل المسلح استطاعت أن تجتاز الكثير من الامتحانات القاسية عبر العقود السابقة لنقل السلطة بشكل سلس ومرن بين مختلف قياداتها وأقاليمها الجغرافية المختلفة
وتابع: "وهو ما يجعل انتقال السلطة داخل الحركة أمرا صعبا للغاية في ظل حالة الضغط الأمني، والمتابعة والتجسس والاعتقالات المكثفة على مدار الساعة من السلطة وإسرائيل، أما على صعيد الخارج فهناك الثقل القيادي والمالي والعلاقات السياسية، لذا يمكن الحديث عن حالة من التوازن ـ إن صح التعبير ـ بين الخارج وقطاع غزة إلى جانب ثقل القيادات التاريخية في السجون، خاصة العسكرية منها".
وعن مدى تقديم "حماس" لنموذج عملي في التداول على المواقع القيادية، لفت أبو عامر إلى "أننا أمام قضية معقدة جدا، فنحن نتكلم عن حركة سرية في الأساس، يغلب عليها طابع العمل العسكري وهو ما يتطلب كثيرا من التحوط والسرية والابتعاد عن الأضواء والتخفي".
وختم حديثه بالإشارة إلى أن "عملية الانتخاب التي تجريها الحركة كل أربع سنوات تتم بأقل قدر من الظهور والانكشاف باستثناء بعض المواقع القيادية العليا التي عادة ما يتم التداول عليها، وقد تكون حماس على صعيد الحركات ذات الطابع العسكر المسلح نجحت إلى حد كبير في تقديم نموذج عملي في التداول على المواقع القيادية العليا فيها".
المغرب.. هل تعيش "العدل والإحسان" مأزقا في مشروعها؟(1من2)
تجربة إسلاميي الأردن في التداول على المواقع القيادية (2من2)
تجربة إسلاميي الأردن في التناوب على المواقع القيادية (1من2)