أخبار ثقافية

كلب "المغامرون الخمسة" ولغز محمود سالم

سلسلة المغامرون الخمسة
بمناسبة الاحتفال بيوم اللغة العربية في الثامن عشر من الشهر الجاري، تحضر تجربة الكاتب المصري محمود سالم (1929- 2013) بوصفها منجزاً مهماً في ميدان التعريب. وهي تجربة كان لها دور كبير في تقديم مادة قرائية مثيرة لأجيال متعاقبة من الشباب العرب منذ سبعينيات القرن الماضي وحتى اليوم.

محمود سالم قدّم خدمة جليلة للمكتبة العربية بنقله سلسلة الألغاز البوليسية للفتيان "المغامرون الخمسة" عن سلسلة إنجليزية عنوانها "المشهورون الخمسة" للكاتبة "إينيد بلايتون".

لم يكن محمود سالم أديباً كبيراً، ولا متخصصاً في علوم اللغة، لكنّ ما قام به يدلّ على موهبة كبيرة في بعث الروح المحلية المصرية في قصص أجنبية، وتقديمها للقارئ العربي بلغة فصيحة مُيسّرة. وما كان له أن ينجح في ذلك، لولا ثقته بشخصيته العربية، وإيمانه بعمق ثقافته، وبقدرتها على تأصيل القصة الأجنبية في المكان والزمان العربيين، مستفيداً من طول باع بلده في التاريخ والجغرافيا.

نظر محمود سالم في القصة الأجنبية "المشهورون الخمسة"، فوجد أن شخوصها أربعة والكلب خامسها. ولم يستسغ من ناحية ثقافية، أن يتساوى الكلب مع الشخصيات البشرية اعتبارياً. فأضاف شخصية خامسة إلى قصته المعربة "المغامرون الخمسة"، وجعل الكلب سادسهم. ولم يكتف بمراجعة الأسس التي بنيت عليها القصة الأجنبية، بل حرص على تمصير الشخصيات من حيث الملامح والسلوك، ونقل الأحداث إلى الواقع المصري، بدءاً من حي المعادي القاهري، الذي وطّن فيه أبطاله، وجعله مسرحاً لأحداث مغامراته الأولى، كمغامرة لغز "الكوخ المحترق"، ولغز "البيت الخفي"، ولغز "الأمير المخطوف"، وانطلاقاً نحو معالم جغرافية مشهورة شمال مصر وجنوبها، مثل لغز "الجزيرة المهجورة" وفيه يخوض المغامرون الخمسة مغامرة بحرية ضد مهربي المخدرات من إسرائيل إلى خليج "أبو قير" على ساحل البحر المتوسط.

ولغز "وادي الذئاب" الذي تدور أحداثه في صحراء مدينة أسوان النائية. ولغز "المتحف" ويطوف فيه المغامرون في أجواء المتاحف المصرية، ويتعاملون مع جريمة سرقة الآثار الفنية. وألغاز أخرى دارت أحداثها في "بحيرة قارون" و"البحر الأحمر" و"وادي الملوك". وتخطّت بعض ألغازه حدود الجغرافيا المصرية إلى البلدان العربية والأوروبية.

ما قام به محمود سالم في "المغامرون الخمسة" يتجاوز ما قام به المترجمون والمعرّبون، منذ ابن المقفّع مترجم "كليلة ودمنة"، إلى مقتبسي الأعمال الأجنبية المعاصرين، في المسرح والسينما والرواية والقصة، من حيث نجاحه في محو الروح الأجنبية من القصة محواً كاملاً، وليس اللغة فحسب. فالعربية ليست معجماً وألفاظاً وفصاحة ومهارة نحوية فحسب، إنما هي فكر وإبداع وثقة بالهوية الفردية والجمعية أيضاً.

لا يضير من مكانة محمود سالم الأدبية، ولا ينتقص من موهبته، أنه اقتبس شخوص قصصه البوليسية المسلسلة الذائعة الصيت، وبعض أحداثها، من مصدر أجنبي. فقد بنى عليها عمارة أدبية عربية الطراز، وحاز قدم السبق في ميدان الألغاز البوليسية العربية. إلى درجة أن القارئ العربي المغرم بالسلسلة آنذاك، لم يدر في خلده أن تكون القصص أجنبية المنشأ.

حظيت قصص السلسلة الأجنبية بشهرة واسعة في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، وتعد اليوم من كلاسيكيات الأدب البوليسي العالمي المكتوب خصوصاً للمراهقين، وبلغت مجموع مبيعاتها المئة مليون نسخة. ونقلت قصصها إلى أفلام سينمائية، وحلقات تلفزيونية. وفي الجهة المقابلة تعثرت سلسلة "المغامرون الخمسة" بعد سنوات قليلة من صدورها، على الرغم من انتشارها الواسع. بل إن نجاحها الكبير كان السبب الرئيس في تعثرها، فقد سعى أنيس منصور، مدير دار المعارف مالكة حقوق نشر السلسلة وطبعها، إلى تخفيض حصة محمود سالم من عوائد الطبع لأنه قدّر أن قيمتها كبيرة. الأمر الذي دفع المؤلف إلى التوقف عن الكتابة في هذه السلسلة، والانتقال إلى بيروت لإطلاق سلسلة مغامرات بوليسية جديدة، أطلق عليها اسم "الشياطين الثلاثة عشر". وحظيت السلسلة الجديدة بانتشار لا يقلّ عما حظيت به "المغامرون الخمسة".

يروي محمود سالم، في لقاء نادر أجرته معه قناة "مصر المحروسة" التلفزيونية قبيل رحيله، فصولا من معاناته مع دور النشر، من الهلال، إلى المعارف، إلى القلم، إلى الشروق. وتكشف تجربته مع صناعة النشر العربية عن العلاقة المشوّهة بين الناشر والكاتب، القائمة على التغوّل والاستغلال من جانب الناشر.

في اللقاء المذكور تظهر شخصية محمود سالم القوية المسيطِرة، شخصية الكاتب واسع التجربة الحياتية، المحنّك الذي يوجّه قلمه نحو نوع الكتابة الشعبية التي توفّر له أعلى عائد مادي. وبصراحة وبساطة شديدتين يطبعان شخصيته، يعترف محمود سالم أن الربح المادي كان دافعه إلى الكتابة، وأنه تجنّب تبذير ملكاته في الأدب الروائي لأنه لا يمكن أن يكون مهنة تغني الكاتب عن كل مهنة أخرى.

في ذاكرة الرجل حكايات كثيرة عن عصره الذي شهد أحداثاً سياسية خطيرة، مثل الحرب العربية الإسرائيلية سنة 1967. ويشرح في المقابلة جانباً من الظروف التي أدّت إلى الهزيمة، وعن المحاكمات التي عقدت في أعقابها، وكان متهماً فيها لمشاركته في تنظيم حفلة صاخبة في القاعدة العسكرية في أنشاص عشية الحرب. ويحكي بصراحة كبيرة عن أدباء عصره الكبار، الذين عرفهم عن قرب، مثل يوسف إدريس، والطيب صالح، وأحمد عبد المعطي حجازي، ورجاء النقاش، وصلاح عبد الصبور، وأمل دنقل، وصلاح جاهين، وفؤاد حداد. ولا يحكي عنهم بصفتهم الأدبية، وإنما عن صفاتهم الإنسانية، وطباعهم الشخصية، وهمومهم وانشغالاتهم الحياتية.

تمثل كتابة محمود سالم نمطاً من الأدب الملتزم المبسط، الذي يخدم نشر الثقافة العامة، ويشيع حبّ المعرفة، ويرسّخ عادة القراءة في نفوس الشباب، ويربط القارئ ببيئته العربية، ويدعوهم إلى الاهتمام والانتباه والمشاركة في الشأن العام. والأهم من كل ذلك أنه يسهم في إزالة عوائق العامية والتغريب التي تحول بين الشباب ولغتهم الأم.