إذا كان الزمان غير الزمان فالإنسان هو الإنسان وفريضة الدفاع عن
النفس والأرض والعرض لا تسقط عنه إلى يوم الدين. وسنة التدافع بين الناس
والحضارات والقيم تجعل دوام الحال من المحال ولو دامت للأولين لما دانت للآخرين!؟ وأن الكيل بمكيالين
في حقوق الإنسان من القائمين على مجلس الأمن المخيف هو سبب كل الخلل في المعايير
والموازين وهذا الدمار المبين..
وفي
تاريخ الحروب والثورات التحريرية العظمى دروس للمعتبرين وأن
الذكرى قد تنفع حتى البغاة والعصاة
والطغاة فضلا عن المؤمنين!!
وبمناسبة إحياء
الجزائر للذكرى التاسعة والستين لثورة القرن العشرين بدون منازع في الفاتح من تشرين الثاني (نوفمبر 1954) وربطا
بما تصادفه إحياء هذه الذكرى من أحداث جسام جارية في الساحة والساعة الدولية عرفنا
إرهاصات بدايتها ولا نعرف نهايتها بعد.. نود أن نذكر المعتبرين بدروس التاريخ الحي
الذي عشناه في هذه الثورة لحما ودما وجهادا و"استشهادا" لما يزيد عن
السبع سنين مماثلة لما يراه العالم على المباشر يوميا من أهوال الحرب غير المتكافئة بين الحق والباطل في معركة
الأحزاب الثانية في فلسطين الحالية والتاريخ بيننا يبقى دائما الشاهد الأمين على
المحسنين والمسيئين والظلمة والمجرمين وأصحاب الحق المغتصب الذي لا يسترجع إلا
غلابا وافتكاكا باليمين وتلك هي سنة الله في الأولين والآخرين.
تأتي ذكرى هذا العام مشحونة بكثير من الآلام المبرحة والآمال العريضة
في الوقت ذاته وهي تصادف قمة الثورة الجهادية الوريثة الشرعية لها في معركة الأقصى
بشقيقتها الصغرى فلسطين.
لقد عايشت تلك الثورة
الجهادية كابن شهيد ومجاهد في صفوف جيش تحريرها حتى توقيف القتال وتقرير المصير
والاستقلال وكنت شاهدا على كثير من مجرياتها المفرحة والمقرحة بورودها وأشواكها؛
بأفراحها بانتصاراتها وأقراحها بالإحباطات والتقلبات والخيانات التي اعترضت
مسيرتها الطولية إلى النصر المبين!
ومن مميزاتها أن يوم انتصارها وتحقيق الاستقلال سنة 1962 كان هو يوم
ذكرى الغزو والاحتلال سنة 1830 مما يعني أن كل استقلال قد يحمل بذور احتلال كما أن
كل احتلال يحمل بذور استقلال إذا بقي عزم الرجال كما كان واقع الحال.
وإدراكا مني بما للثورة الجزائية من أوجه شبه وتطابق أحيانإ مع ما
يجري في فلسطين هذه الأيام، إلى درجة التوأمة (السيام) بين الثورتين وخاصة من
جهة نوعية الاستيطان وفصيلة المستوطنين أنفسهم خلفا عن
سلف.. والدليل على ذلك هي آلاف القوافل من شهداء المغرب العربي الكبير المدفونين في القدس الشريف على مر
التاريخ الإسلامي للأمة عندما كانت أمة
حرة حتى تحت الاحتلال الأجنبي الخارجي
(الأرحم مع الأسف من الاستحلال الداخلي الراهن!!!!)، حيث ذهب أكثر من 4000 مجاهد سنة 1948 ودخلوا من أرض الكنانة سابقا لنجدة الأشقاء في الأرض المباركة التي لم تتغير
في وجدان كل مسلم من المحكومين لاحقا في أمة المليارين من أصحاب العين البصيرة
واليد القصيرة على امتداد سماع الآذان وتلاوة القرآن من جاكارتا إلى داكار ونواكشوط والرباط وتطوان مرورا بقسنطينة ووهران!؟!
وإني لهذا السبب وغيره أعيد نشر بعض فصول كتابي (جهاد الجزائر: حقائق
التاريخ ومغالطات الجغرافيا)، هنا في صحيفة "عربي21"، وهو صورة حية عن
جوانب مشرقة من ثورة القرن العشرين التي جسدت أمجاد الحرية والكرامة، تماما كما هو
حال غزة وفلسطين هذه الأيام.. لما بين الثورتين من تطابق وتشابه كما قلنا وعشنا في الثورة الاولى مقارنة
بما نراه على المباشر في الثورة
الفلسطينية العظيمة الثانية التي اختصرت أمة المليارين (من غثاء
السيل) في المليونين من أبناء الشعب الفلسطيني في غزة والقدس وجنين.
وإنني أدرك تمام الإدراك الصلة الوثيقة بينهما في حجم التضحيات
ومعارك التحرير التي يخوضها الأشقاء الفلسطينيون هناك (كما كان أشقاؤهم هنا لأكثر من سبع سنين دون
انقطاع.) في مواجهة أعتى احتلال وأشده شراسة، لا سيما وأنه احتلال
يلتف حوله قادة العالم الغربي
الاستعماري كله ويدعمونه انتقاما من عدوهم اللدود على هزائمهم السابقة وإحياء
لخلافات وأحقاد تاريخية دفينة..
كنا نعتقد، وأن بعض الظن ليس
إثما، أن ثورات الحرية والكرامة والسيادة والاستقلال التي عرفتها مختلف أنحاء
المعمورة قد تجاوزتها الوحوش البشرية المسلحة بالنووي والحقد الأعمى في معاداة
حقوق الإنسان الفلسطيني خارج حقوق الإنسان
التي يحميها حق الفيتو الظالم أمام كل أنظار العالم الأعور الأصم الواجم.
إن الإسلام والاستعمار ضدان لا يلتقيان في مبدأ ولا في غاية،
فالإسلام دين الحرية والتحرير، والاستعمار دين العبودية والاستعباد، والإسلام شرع
الرحمة والرفق، وأمر بالعدل والإحسان، والاستعمار قِوامه على الشدة والقسوة
والطغيان، والإسلام يدعو إلى السلام والاستقرار، والاستعمار يدعو إلى الحرب
والتقتيل والتدمير والاضطراب، والإسلام يثبت الأديان السماوية ويحميها ويقرّ ما
فيها من خير ويحترم أنبياءها وكتبها، بل يجعل الإيمان بتلك الكتب وأولئك الرسل
قاعدة من قواعده وأصلا من أصوله، والاستعمار يكفر بكل ذلك ويعمل على هدمه خصوصا
الإسلام ونبيه وقرآنه ومعتنقيه.وهذا المكيال العجيب الغريب بين إنسانين لا يثير
القلق فقط حول مصير البشرية في هذا العالم
(وحيد القرن) وإنما يعيد السؤال أيضا وبالحاح عما إذا كان للمعارك الحضارية الكبرى
التي سعت لتوحيد البشرية على أساس العدل والمساواة تتراجع إلى ما تحت الصفر كما
نراها في مجازر المغول الجدد بالصوت والصورة في غزة العزة والإنسانية التي تحتضر في مستشفياتها
المنكوبة كلها اليوم والمقطوعة عن الحياة أمام أعين دعاة حقوق
الإنسان (الحجري) وليس الإنسان البشري المتحضر المتعلم والمتقدم!!
وما يفيد في هذه الصفحات من ثورة الجزائر (فلسطين الأولى) الأشقاء في الجزائر الثانية ( فلسطين الحالية)، سأسرده ليس من باب تقديم الدروس، وإنما من باب قراءة التاريخ
والاتعاظ به وأخذ العبرة منه..
تلازم الإيمان مع العمل
إذا اتفقنا على ضرورة تلازم الإيمان مع العمل على هذا النحو الذي
تؤكده لنا ثورة الجهاد الباهرة بنتائجها الحاضرة، سيبقى السؤال مطروحا حول كيفية
تولد هذا الإيمان المقرون بالعمل.
والجواب يكمن في حقيقة علمية (سوسيولوجية) مفادها أن أية ظاهرة أو
فعل قد تم إنجازه في الماضي، يمكن تكرار التجربة لإنجاز مثيل له في الحاضر
والمستقبل إذا توفرت الشروط ذاتها لأن الزمان إذا كان غير الزمان فالإنسان هو
الإنسان والثورة التحريرية المسلحة إنجاز قد تحقق فعلا وأعطى نتيجته الملموسة
المتمثلة في هذا الاستقلال النسبي الذي نتمتع به اليوم بفضل جهاد هؤلاء الرجال
المعتدلين إيمانا وإخلاصا وإنجازا، ومادمنا نسمع بعض ولاة الأمور ممن ينتسبون إلى
هذه الثورة، ويحكمون باسم شرعيتها، يرفعون شعار الثورة المستمرة، من أجل تحقيق
الاستقلال التام الجدير بتضحيات الشهداء... فإنه يتعين علينا أن نراجع أهم تلك
الشروط المتوفرة في ثورة الجهاد، كما عشناها وحاولنا تفصيل الحديث عنها في هذا
الكتاب وهي:
أولا ـ مطابقة الأفعال للأقوال:
إذا كان العدل هو أساس الملك، فإن الصدق هو أساس الثقة، والثقة هي
أساس التلاحم بين الأفراد والجماعات، وهي أساس التضحية أيضا، لأن من لا تثق فيه لا
تضحي معه، فضلا عن أن تضحي من أجله!
وإذا فقدت عوامل التلاحم الاجتماعي المتمثلة في مثل هذه القيم
السامية فقد الأفراد عوامل الترابط، والإيمان بخيرية بعضهم لبعض، وفقدت الغيرية
مكانها لتبقى الأنانية وحدها في الميدان دون منافس.
فمطابقة الأفعال للأقوال هي معيار الصدق المولد للثقة، فالكافر صادق
إذا قال أنا كافر، والكاذب صادق إذا قال أنا كاذب، والمؤمن كاذب إذا قال أنا كافر.
وإذا أتينا بهذه القضايا، والمقدمات أو المسلمات البديهية فذلك لنصل
إلى توضيح الترابط الوثيق بين الإيمان بالمبادئ والصدق في التطبيق..
فالعاقل لا يؤمن بشيء أنه حق إلا إذا اقتنع أن هذا الشيء كذلك،
والاقتناع يأتي عن طريق الاستدلال والاستقراء والمشاهدة والمقارنة، أي مقارنة
المبدأ بالتطبيق، ومقارنة الأقوال بالأفعال. ومن هنا يكون الاقتناع سابقا للإيمان،
كما يكون الإيمان سابقا للفعل بحكم الأصول.
الجنسية الجزائرية إن كانت تمنح و تمنع، فإن الوطنية الجزائرية لا تمنح و لا تمنع، و لكنها تفرض فرضا بالعمل المخلص وحده، ولا ينال شرفها إلا بالتضحية الصادقة في سبيلها كما هي مجسدة في البيان النوفمبري
وإذا طبقنا هذا المعيار النظري على واقع ثورة الجهاد فإننا نجد أن
الأفعال كانت متطابقة مع الأقوال، في غالب الأحيان والأحوال، وما كان على اللسان
هو صورة طبق الأصل لما في الجنان، فتولدت الثقة بين الأفراد، وقوي الإيمان، لأن
الكلام صدق والعهد حق والوعد وفاء!
فلا يخاف المجاهد على أولاده ما داموا في رعاية الأوفياء (...) ولا
يتردد الجندي في اقتحام النار ما دام الضابط في طليعة الشهداء، ولا يشك الشعب في
إيمان الجيش ما دام الجيش قمة في الفداء، ولا يخشى الجيش من خذلان الشعب ما دام
الشعب قمة في العطاء.
فالثقة المتبادلة بين الأفراد كانت هي أساس التفاني في الجهاد، وقوام
التآلف والتكا تف والاتحاد!.
فلنراجع هذا الشرط في أنفسنا وواقعنا اليوم على ضوء ثورة الجهاد،
ونتساءل عما إذا كانت أقوالنا تطابق أفعالنا حتى نضمن الثقة بين الأفراد ونحقق
الهدف المنشود من الثورة المستمرة التي ما فتئ ولاة أمورنا يؤكدون عليه منذ توقيف
القتال سنة 1962، فذلك إذن هو أول الشروط أو أول الدروس المستفادة.
ثانيا ـ الاحتكام إلى المبادئ:
إذا كان من الطبيعي أن تقع بعض الاختلافات بين الأفراد في مسائل
الإنجاز الثوري، التي تخضع لاجتهادات الأشخاص المعرضين للسهو والخطأ، فإنه من غير
الطبيعي ألا يقع الاحتكام إلى المبادئ بدلا من الاحتكام إلى المصالح. فهذه هي نقطة
القوة وتلك هي نقطة الضعف في حياة أية ثورة مهما كانت عارمة، لأن الاحتكام إلى
المبادئ عامل جمع واتحاد وقوة، والاحتكام إلى المصالح عامل تمزق وضعف وعزلة.
فالثورات مبادئ وإنجازات، والمبادئ أفكار موضوعية خارجة من ذوات
الأشخاص، ومن ثم كانت قادرة على أن تجمع من حولها الملايين من الأفراد، لأنها
ثابتة في مكانها ولا تتغير مع الأهواء، فهي تؤتى ولا تأتي، تغير ولا تتغير، فمن
يرد أن يتعرف عليها يجدها في مكانها، على حالها، فإذا اقتنع آمن بها، ووجب عليه
التزام تحقيقها في الواقع الملموس واتخاذها خطا للرجعة في كل انحراف، وأصلا
للاحتكام في كل خلاف.
فالإيمان شيء معنوي كما رأينا، ولا يمكن أن نجعل شخصا مؤمنا بقوة
السلاح المادي.. لأن طريق الإيمان الوحيدة هي الترغيب، ومثلما لا نستطيع أن نصير
شخصا مؤمنا بمبدأ معين بالقوة المادية، لا نستطيع أن نغير إيمان شخص بالوسيلة
ذاتها، وذلك لأن الأفكار لا تغيرها إلا أفكار مثلها أو أفضل منها، ولا يفل الحديد
إلا الحديد، فإذا آمن الفرد بمبدأ معين حق الإيمان، أعطى حياته رخيصة من أجله،
وإذا لم يؤمن ضن حتى بالكلمة الملتزمة المفيدة، فضلا عن بذل الجهد والعرق والحياة!
وما دام الإيمان شيئا معنويا فإنه من السهل على أي فرد كذاب أن يقول أنا مؤمن
بمبدأ السيادة والعزة والكرامة والاستقرار والازدهار وما إلى ذلك مما تردده
أجهزتهم السمعية البصرية ليل نهار، وليس لأحد من أفراد الشعب أن يخلع عن ذلك
المدعي حق الإيمان بما يدعي، وفي هذه الحالة قد يكثر المؤمنون، ويختلط المؤمن
الحقيقي بالمؤمن المزيف، إلا أن المحك الذي سيبقى فيصلا في هذه الحالة هو السلوك
الذي يقوم به هذا الفرد الصادق، أو ذاك الدعي الكاذب والمنافق.
فالسلوك والممارسة الفعلية لتلك المبادئ، المعلن عنها، هي وحدها التي
تحدد وتجسد نوع الإيمان ومقداره الكامن في ضمير الإنسان الذي لا يعلم باطنه إلا
خالقه ورازقه!
ومن تجربتنا في ثورة الجهاد نذكر كيف كان يختبر الإيمان بالعمل،
والمبدأ بالسلوك... ولعل من أبرز الأمثلة على ذلك ما عرف في إحدى مراحل الثورة
(بمؤامرة "الزرقاء" كما مرّ بنا في الفصل الخامس) ومفاد هذه المؤامرة
كما تحتفظ بها الذاكرة ويؤكدها المجاهدون الذين عايشوها بكل تفاصيلها و تطوراتها
المأساوية، المحزنة والمؤلمة، هي محاولة القيادة العسكرية للاحتلال، تقويض بناء
الثورة المسلحة من الداخل، بعد أن فشلت بكل الوسائل في إخماد نارها من الخارج،
وتتمثل تلك المؤامرة في غرس بعض الجواسيس في صفوف المجاهدين، عن طريق تظاهر هؤلاء
الخونة بالوطنية وحب الجهاد والتضحية والرغبة في الانضمام إلى صفوف المجاهدين،
وكادت أن تنطلي هذه الخدعة على بعض القيادات الجهادية، حيث أخذت المؤامرة تؤتي
أكلها في كلّ من الولاية الثالثة ومناطق هامة من الولاية الرابعة كما أسلفنا إلا
أن الباطل هيهات أن يصمد أمام الحق، إذا كان مع الحق رجال صادقون أوفياء ولو
قلائل!، وهذا ما قد حصل بالفعل!!
فكانت القوة وصمام الأمان يتمثلان في الاحتكام إلى المبادئ واختبار
النوايا بمحك الأفعال... فكان سلوك الدخلاء على ثورة الجهاد مخالفا في الشدة لما
يدعونه في الرخاء! ومخالفا في الميدان لما يدعونه في ساعة الأمان، وكان ذلك السلوك
وحده كافيا (بالرغم من وجود عوامل أخرى لا يسع المجال لتفصيلها هنا) لكشف شبكة
المجاهدين المزيفين من طرف المجاهدين الحقيقيين. وتم استئصال معظم هؤلاء الخونة من
صفوف الثورة المباركة لتواصل الزحف المظفر، إلى الهدف المنشود رغم بعض الأخطاء
والتجاوزات التي ذكرناها في سياقها من هذا الكتاب!
وعلى الرغم من تغلب الثورة على المؤامرة فلم يفت قيادة الجهاد آنئذ
أن تستفيد من هذه التجربة الأليمة، وتستخلص منها العبر والدروس، وتتفادى تكرارها
في المستقبل (لأن المؤمن الحقيقي لا يلدغ من الجحر الواحد مرتين).
وأذكر أنه منذ ذلك التاريخ (1958) أصدرت قيادة الولاية الثالثة (التي
كنت أنتمي إليها) تعليمات صارمة بعدم قبول أي متطوع في صفوف جيش التحرير الوطني
إلا إذا نفذ عملية فدائية خطيرة، كتفجير قنبلة في إحدى بؤر العدو أو قتل أحد
الخونة الخطرين وما شابه ذلك...
وفي هذا الموضوع يقول المجاهد مراد كريمي (رئيس المنطقة الثالثة
بالولاية الرابعة): «ففي البادية إذا رأى المسؤول احتياجا لشاب ما، فإنّه يمتحن
ثقتَه وشجاعته وهو لا يدري، فإذا جاءت نتائج الامتحان مرضية له كشف له عن الحاجة
إليه، وغالبا ما توكل له في بدايات تجنيده، أمور المراقبة والاتصال ومرافقة
المجاهدين وما إلى ذلك.
أما في المدينة، فيسبق مرحلة التجنيد، مرحلة ذات أهمية كبرى، ألا وهي
العمل الفدائي، وفيمـا إذا رغب شاب في أن يصير واحدًا من المجاهدين، فإنّه يكون
ملزما بإثبات أهليته لهذا الشرف العظيم، وسبيل هذا الإثبات، هو في الغالب عملية
تصفية لأحد رموز العدو الخطرين في المنطقة أو أحد عملائه، تتم العملية بتوجيه من
المسؤول طبعا، الذي يتكفل بتزويد هذا الفدائي بأداة العملية، وهي أحيانا مسدس أو
في أحيان أخرى قنبلة يدوية..." .
وكان منطق القيادة في ذلك واضحا وسليما ومأمونا حيث يقول: ما دام
الشخص يريد التطوع في صفوف الجهاد، فهو بالضرورة مؤمن بمبادئ الثورة، وإذا كان
المتطوع كذلك حقا فهو بدون شك لا يخشى الموت من باب أخرى وأولى لأن الموت في تلك
الأيام هو أهون الأمور إن لم تكن أسعد الأمور التي تعترض طريق المجاهد، وعليه
فليختبر إيمان هذا الشخص المتطوع من الأساس، حتى لا يحسب على الثورة ويعيش عالة
على الثوار، وكم من مدع للإيمان فشل في الامتحان، وأراح الثورة من عبئه و خطره
واستراح...
ونعود إلى موضوعنا لنقيس الحاضر على الغائب، ونقول : مادمنا نرفع
شعار الثورة المستمرة، ونصرح بأن للثورة أعداء في الداخل والخارج... أفلا يكون من
المحتمل جدا أن تتكرر المأساة المؤامرة ذاتها، أو أخطر منها ونجد أنفسنا أمام
الأعداد الهائلة من "المتطوعين" في ثورة البناء، والتوازن الجهوي،
والعدالة الاجتماعية ومحاربة الفساد، والمحسوبية و"التزويروقراطية" و
الجهوية؟..
فما هو -والحالة هذه- المحك الذي يعرف به و يختبر مدى إيمان هؤلاء "المدعين"
بالمبادئ الثورية والوطنية التي يرفعون شعاراتها ويتعهدون بالالتزام بها؟ إن
الجواب في اعتقانا يتمثل في أن التاريخ يمكن أن يعيد نفسه، وأن آخر الثورة لا يصلح
إلا بمـا صلح به أولها!
وإذا كانت ثورة الجهاد قد نجحت باختبار الإيمان بالعمل والاحتكام إلى
المبادىء قبل المصالح... فإن سنن الثورات لا تتبدل، ومقومات النجاح واحدة، وطريقته
غير متعددة، فإما مبادىء تحكم البعض من أجل صالح الكل، وإما مصالح تحكم الكل من
أجل صالح البعض... ولئن احتاج هذا الحكم إلى توضيح فلا أجد خيرا من التعريب لأذكره
كمثال بارز من مبادئ الثورة كما بيناها في الفصل الأول، ولتقس عليه المبادئ الأخرى (...)
فمن الناحية النظرية والكلامية لا نكاد نجد أحدا (من مسؤولي المرحلة
الراهنة) يجرؤ على القول أمام الناس بأنه ضد مبدأ التعريب، واسترجاع مقومات
الشخصية الوطنية، وتحقيق هويتنا وممارسة سيادة دولتنا بتطبيق الدستور... إلا أن
الاعتراف -قولا- بمبدأ التعريب، وسيادة اللغة الوطنية في المواثيق والخطب الحماسية
الرسمية والشعبية... لم يحل دون بقاء اللغة الوطنية حبيسة المساجد والمحاكم وبعض
الثكنات والمدارس والكليات، لأن الاحتكام في هذا الأمر انتقل من طور المبادىء إلى
طور المصالح، فمن كانت مصالحه متعارضة مع التعريب أقره باللسان وحاربه في الميدان.
ومن كانت مصالحه متعارضة مع سيطرة اللغة الأجنبية على اللسان الوطني (لسبب من
الأسباب) تحمس للتعريب ونادى بضرورة سيادة اللغة الوطنية، رافعا قميص عثمان،
(الضحية) إلى أن يتحقق المنال فيكف عن
المقال، ولا نعدم الأمثلة الكثيرة عمن سكت عن نداه، بمجرد أن تعلم اللغة الفرنسية
أو نال رضاه في التساوي الوظيفي والاجتمـاعي مع من كان أعلاه...!!
وهكذا انتقل التعريب مع مرور الأيام وتبدل الأحوال من مبدأ وطني عام
إلى مبدأ (بطني) خاص بأفراد أو فئات، وفي غياب الاحتكام إلى المبادىء العامة ظهر
الاحتكام إلى المصالح الخاصة، وقويت حجة الاتهام بأن من جهل لسانا عاداه، ومن فقد
منصبا بكاه، وميعت القضايا الجوهرية، وقدمت المبادىء الوطنية قربانا على مذبح
المصالح الفردية والفئوية والجهوية!
فذلك مثال حي لنتائج الاحتكام إلى المصالح بدلا من الاحتكام إلى
المبادىء في غياب المحك الثوري الأصيل، المتمثل في تلازم الإيمان مع العمل، وتطابق
الأفعال مع الأقوال، والاحتكام إلى المبادىء الموضوعية الثابتة بدلا من الاحتكام
إلى المصالح الشخصية و الفئوية و الأسرية والجهوية المتغيرة!
فذلك درس واحد من المئات التي تزخر بها هذه الثورة المجيدة. ولقد
حاولت أن أجتهد في استخلاص هذا الدرس الهام في نظري الذي أرجو أن يكون مفيدا
لأجيال الخلف من أبناء الاستقلال الذين لم يعرفوا ظلم الاحتلال، وأؤكد لهم في
الأخير بأنه إذا كان كل احتلال يحمل بذور استقلال، فإن كل استقلال -أيضا- يحمل
بذور احتلال، والمسؤولية التاريخية تقع حتما على الجيل الذي يقع عليه هذا الاحتلال
أو الجيل الذي لا يعرف كيف يحافظ على هذا الاستقلال الذي حققه الرجال من مختلف
المناطق والجهات والأجيال والفئات، مع الفارق أن بذور الاستقلال في الاحتلال تسقى
بالشهادة، وبذور الاحتلال في الاستقلال تسقى بالخيانة العظمى لمصالح الوطن العليا.
ولسنا هنا في حاجة إلى إثبات لمن يملك حاسّة التمييز الآدمي أن الفرق
الصارخ و الملموس بين ما يطبّقه الأعداء في بلادهم مع أنفسهم في كل شيء، حفاظا على
وحدة وطنهم و هوية شعبهم، و ما ينصحون به غيرهم (من أمثالنا) هو الفرق بين الموت
والحياة، وإن موقفهم السافر من التعريب النوفمبري في رأينا لأدق مقياس، وأقوى دليل
على ذلك. و إذا وجدتم الأعداد "أو نوابهم" قد غيّروا مواقفهم العدائية
من مقومات هويتنا و من عوامل وحدتنا و من قواعد سيادتنا واستقلالنا السياسي
والاقتصادي و الدفاعي والعلمي، ونصحونا به فاحذروا مما ينصحوننا به لأنهم لا يحبون
لنا الخير أبدا، كما و إن وجدتم أيضا بعضا من حاملي "أوراق" جنسيتنا
يتّفقون في "مشاريعهم المجتمعية" مع الأعداء فاجزموا أن أحد الطرفين على
خطإ، و لكن الطرف المخطئ في حق المصالح العليا لوطنه في الوقت الحاضر لن يكون أبدا
فرنسا إلى أن يثبت العكس، باستقلال الجزائر الحقيقي في ظل التطبيق الكامل لمبادئ
ثورتها وبنود دستورها، وحكم أبنائها لأنفسهم بأنفسهم على أرضها.
علما بأن الجنسية الجزائرية إن كانت تمنح و تمنع، فإن الوطنية
الجزائرية لا تمنح و لا تمنع، و لكنها تفرض فرضا بالعمل المخلص وحده، ولا ينال
شرفها إلا بالتضحية الصادقة في سبيلها كما هي مجسدة في البيان النوفمبري، و في
فصول هذا الكتاب بأحرف بارزة توضح أروع صور البطولات و أعلى درجات التضحيات
بالأفعال قبل الأقوال. والباب يظل مفتوحا أمام كل الأولاد والأحفاد للاقتداء
بإيمان وإخلاص وتضحية هؤلاء الآباء والأجداد، وذلك هو أهم الدروس المستفادة من
ثورة الجهاد، لأنه مثلما لا يوجد احتلال دائم، فلا يوجد استقلال دائم كذلك، وإنما
الثابت المؤكد هو أن يظل هناك جهاد قائم، وهذا في الحقيقة هو معنى وجود وزارة
للمجاهدين (وليس لقدماء المجاهدين) في الجزائر ما دون كل البلدان في العالمين!
اقرأ أيضا: الدرس المستفاد لكل المسلمين من جهاد الجزائر إلى فلسطين (1)