كتب

هل تجسر السياسة الشرعية العلاقة بالفكر السياسي المعاصر؟

كتاب يبحث في سبل تجديد الخطاب الديني في المجال السياسي- (عربي21)

الكتاب: "السياسة الشرعية.. مدخل إلى تجديد الخطاب الإسلامي"
المؤلف: عبد الله إبراهيم زيد الكيلاني
الناشر: المعهد العالمي للفكر الإسلامي
الطبعة الأولى: 2019
عدد الصفحات: 600.



تشكل السياسة الشرعية المفردة الأساسية التي تمت استعارتها من التراث الأصولي لتجسير العلاقة بين الفقه السلطاني وبين الفكر السياسي، ذلك أن اجتهادات العلماء بشأنها، واستنادها على التقدير المصلحي وعلى نظر الإمام في مصالح الأمة، جعلها أقرب ما تكون إلى مجال السياسة بالمعنى المعاصر.

وقد بذل غير واحد من العلماء جهدا في التأصيل لكثير من مفردات الفكر السياسي المعاصر، فضلا عن مسلكياته، من خلال الإحالة على نماذج وتطبيقات من السياسة الشرعية التي اعتمدها الأئمة في عصور مختلفة من تاريخ الإسلام. ووجد البعض في هذه المادة الغنية محاولة للتأصيل أو محاولة وصل التراث السياسي الإسلامي بواقع السياسة اليوم ومتطلبات إدارة الدولة في مختلف مجالاتها.

وبغض النظر عن تقييم هذه المحاولات، سواء منها التي بذلت مجهودا في التأصيل، أو التي لم تر أي فجوة بين التراث السياسي الإسلامي والتراث السياسي المعاصر، فإنها كلها انطلقت من مادة السياسة الشرعية، كما استقر مفهومها عند ابن تيمية وابن القيم وابن خلدون وغيرهم.

ويندرج كتاب عبد الله إبراهيم زيد الكيلاني ضمن الجهود التي حاولت الجمع بين المسلكين، أي مسلك التأصيل بما في ذلك استحضار كتب الفقه السلطاني، ومسلك تجسير الفجوة بين التراثين السياسيين الإسلامي والغربي، من خلال إحالته على التطبيقات.

وقد أخذ هذا الكتاب مداه الزمني حتى اكتملت مادته وتعمقت، إذ نشر أصل الكتاب في حجم أصغر، عرض في الأصل للتداول وتعميق الفكرة حول مواده في أروقة المعهد العالمي للفكر الإسلامي، إلى أن صار في الصورة التي عليها الآن، فتم إغناء تطبيقاته، إذ تم إخصاب التطبيقات المعاصرة المرتبطة بالسياسة الشرعية في مجال الأحوال الشخصية، وأيضا التطبيقات المعاصرة للسياسة الشرعية في النظام الإداري والسياسي والدولي.
 
يرى المؤلف أن السياسة الشرعية تضمن ثلاث عناصر متلازمة، يخص الأول فقه المجتمع وفهم سننه والقوانين التي تحكمه، ويتناول الثاني الفقه المقاصدي، ويهتم الثالث بفقه التطبيق والنظر في المآل. ويلاحظ كثافة الدراسات التي تناولت العنصرين الثاني والثالث، وخصوصا الثاني، وندرة ومحدودية الدراسات التي تناولت العنصر الأول. 

ويقدم كتابه ضمن الجهود الشمولية التي حاولت استيعاب العناصر الثلاثة، وذلك من خلال عرض وتحليل تطبيقات الرسول عليه السلام والصحابة الكرام ونماذج من فهم علماء الإسلام عبر التاريخ، وبيان كيف استندت تلك المعالجات إلى منهج شمولي في فهم الواقع وإدراك الحكم المناسب للواقعة.  وقد كان قصد المؤلف من كتابه التأسيس لمنهج في تجديد الخطاب الإسلامي ينطلق من علم السياسة بوصفها أداة للفقيه لتقديم المعالجات الفقهية التي يتصدى لها المجتهد.

مفاهيم السياسية الشرعية وأولياتها

انطلق المؤلف في الفصل الأول من الكتاب من الأولويات المفاهيمية التي تحاول إحاطة المفردات المستعملة بالمفاهيم الشرعية المناسبة، فعرض إلى مفهوم السياسة الشرعية وأدلتها ومجالات تطبيقها وشروط العمل بها، محاولا تحديد العلاقة بين الفقه والسياسة الشرعية، ومؤكدا على استناد السياسة الشرعية إلى الفهم المقاصدي وفهم السنن الاجتماعية.

وتناول في الفصل الثاني دور ولاة الأمور في سن التشريعات، مستعرضا لنماذج من أحكام الإمامة وسندها الشرعي، فذكر من التشريعات التي سنها ولاة الأمور سياسية، تشريعات الدعوة الوعظ وتشريعات حماية الملكية الفكرية، وتشريعات استخدام الأرض وامتلاكها، وتشريعات تخص السياسة ألأمنية، وتشريعات أخرى تخص السياسة القضائية، وتشريعات للوقاية الصحية، وتشريعات أخرى تمس سائر ما يستجد من شؤون المجتمع وأفراده، وتوقف المؤلف على الضوابط الفقهية التي تؤطر دور ولاة الأمور في سن هذه التشريعات ات العلاقة بالسياسة الشرعية، فذكر منها الضابط المركزي المرتبط بجعل المصالح أساس المشروعية في التدبير السياسي، ثم ضابط ولاية السلطة العامة تنظيم ممارسة الحرية لمصحة معتبرة، وضابط عدم تعلق صحة العبادات البدنية بنظر الإمام، وضابط صلاح سياسة الدنيا بدين متبع وسلطان قاهر وعدل شامل وأمن عام وخصب دائم وأمل فسيح، واضبط الأصل في حفظ الدين حفظ قانون السياسة. 

وقد كان منهج المؤلف في ذلك استعراض الضابط، وتقديم شرح له، مع ذكر أدلته وتطبيقاته. وقد عمد المؤلف إلى حصر الضوابط المتعلقة بعموم الولاية، والمجالات التي يسوغ فيها ممارسة السلطة، كما عرض للضوابط المتعلقة فيما ليس من مجالات السياسة الشرعية، والضوابط المتعلقة بتقييد السلطان، والضوابط المتعلقة برواتب الموظفين وبتصويب انحراف السلطة، فنه المؤلف النهج نفسه في عرض الضابط وشرحه وبيان دليله مع التعريج على بعض تطبيقاته.

تطبيقات معاصرة للسياسة الشرعية في الأحوال الشخصية

استند المؤلف في الفصل الثالث على دراستين قامت بهما الدكتورة رولا محمود الحيث، لعرض جملة من التطبيقات المعاصرة للسياسة الشرعية في الأحوال الشخصية، فتوقف أولا على بعض التدابير العلاجية لممارسة خاطئة استغل فيها الحكم الشرعي لهدم مقصد شرعي، فذكر من ذلك، الطلاق في مرض الموت للحرمان من الإرث، والوصية المضارة لا للتقرب إلى الله عز وجل، فأشار المؤلف في الحالتين معا، وفي كل الأمثلة الشبيهة لها إلى وجوب تدخل لسياسة الشرعية لرد هذه التصرفات إلى نهج الشريعة الأصيل، وضرورة انتظمها في فكرة جلب المصالح ودرء المفاسد.

 

تشكل السياسة الشرعية المفردة الأساسية التي تم استعارتها من التراث الأصولي لتجسير العلاقة بين الفقه السلطاني وبين الفكر السياسي، ذلك أن اجتهادات العلماء بشأنها، واستنادها على التقدير المصلحي وعلى نظر الإمام في مصالح الأمة، جعلها أقرب ما تكون إلى مجال السياسة بالمعنى المعاصر.

 



وقد ذكر المؤلف صورا من تطبيقات السياسة الشرعية في مجال الأحوال الشخصية، فذكر منها اجتهاد مجلس الإفتاء ألأوروبي بتوارث المسلم وغير المسلم، ووجوب توثيق الطلاق والقول بعدم وقوعه من غير توثيق، كما ذكر من ذلك جملة التدابير التشريعية لمعاجلة العنف ضد المرأة وضرب الرجل لزوجه، فاستند إلى ذلك إلى اجتهاد الدكتور عبد الحميد أبو سليمان، كما ذكر من ذلك إعطاء المرأة المتزوجة من أجنبي حق الحضانة بنص القانون، فسلك في هذه القضايا مسلكا توجيه الأدلة ومناقشتها وترجيح بعضها على بعض، بما يؤكد مركزية السياسة الشرعية في حسم الخلاف بما يعود على المجتمع بالمصلحة واستقرار وحدته الأساسية (الأسرة).

التطبيقات المعاصرة للسياسة الشرعية

ربما كان الفصل الرابع من هذا الكتاب هو أخصبه إن لم يكن ثمرته، فيه تناول المؤلف التطبيقات المعاصرة للسياسة الشرعية في النظام الإداري والساسي والدولي، فانطلق أولا من بحث مرتكزات النظام السياسي (السلطة التنفيذية)، فذكر منها مرتكز السلطة السياسية (السلطة التشريعية)، وترتكز التشريعات الموجهة لحركة المجتمع، ومرتكز الإقليم، ومرتكز الشعب.

ومع ميل المؤلف إلى التماهي مع مقومات الدولة كما هو تعريفها القانوني والدستوري، وتأكيده على الصفة التنفيذية للسلطة السياسية، والصفة التشريعية التي تأخذها الأحكام والتشريعات المستندة إلى المرجعية الإسلامية، إلا أن منهجه في التكيف والتماهي لم يراع الفرق بين السلط (التنفيذية والتشريعية والقضائية) وبين عناصر الدولة بالتعريف القانوني، والتي يشكل الإقليم أحد عناصرها الثلاثة، بل  سقط في الخلط بين الاعتبارين، بما جعل مرتكزات النظام السياسي تجمع بين عناصر الدولة بالمفهوم القانوني، وبين السلط الثلاث التي يقوم عليها النظام الدستوري.

وقد تعرض المؤلف لأشكال الحكم وأثرها في حماية حقوق الإنسان، فاستعرض أشكال الحكم عند أرسطو واستند إلى بعض التحديدات الدستورية الغربية في تقسيم أنماط الحكم، كما ذكر تقسيم ابن خلدون للدول ودور دولة الشريعة في تقييد الحاكمين، فانتهى من ذلك كله إلى اقتراب الفكر الإنساني من المنهج الإسلامي فيما يخص تقييد القانون الداخلي بحقوق الإنسان وبالقانون الدولي، لكنه في المقابل، اعتبر عطب الفكر الغربي في عجزه عن إيجاد قيم إنسانية محايدة.

ولم يغفل المؤلف ـ عند تناوله لقضية توزيع السلطات داخل الدولة وتقييد السلطة العامة ـ أن يتناول إشكالية العلاقة بين الديمقراطية وما تعنيه من إرادة الناخبين، وبين مرجعية الشرع، فبين عدم تعارض المرين من خمسة وجوه، فذكر ألا تلازم بين المشاركة البرلمانية والاعتقاد بأن مرجعية الحكم لغير الله، لأن المشاركة قدج تكون بهدف تحكيم شرع الله وتحويل الفكرة إلى قانون وتشريع ملزم، فتكون المشاركة من وسائل تحكيم شرع الله، وأشار إلى أن المشاركة البرلمانية هي استثمار للأعراف والقوانين المتاحة والممكنة سبيلا للتمكين، وأن ذلك عين ما فعله رسول الله عليه السلام، كما ذكر وجها ثالثا وهو أن مآل رفض المشاركة البرلمانية عبر الانتخابات الديمقراطية هو غياب القدرة الشعبية على التأثير السياسي، كما أن احتمال وصول أغلبية غير مسلمة عبر الانتخابات الديمقراطية أمر وارد مما يحتم ضرورة المشاركة، ومنها أيضا أن وصول قيادات لا تقبل بشرع الله مرجعية لها لا يكون عمليا إلا من خلال الانقلابات وتغييب الإرادة الشعبية، لأن الأمة في غالبيتها مسلمة ومحبة لشرع الله تعالى.

ولم يغفل المؤلف أن يخوض في بعض مستلزمات الديمقراطية التشاركية، أي ما يخص مشاركة مؤسسات المجتمع المدني في الحكم، فحاول الـأصيل لذلك من خلال الرجوع إلى الوثيقة النبوية، والإحالة على مركزية القبائل فيها، وأن ذلك مما يؤصل لدور المجتمع المدني باعتباره جزءا أساسيا من مؤسسات الأمة.

وقد اجتهد المؤلف في دراسة هذه الوثيقة (صحيفة المدينة) محاولة قراءتها في ضوء مفردات الفكر السياسي المعاصر (رئيس الدولة، سيادة الدولة داخليا وخارجيا، الوحدة السياسية بين مواطني الدولة، التسامح بين الممل السماوية، السيادة القانونية والتشريعية للدولة). وعرض لفكرة الترجيح بأغلبية الأصوات محاولا بحث مستندها الشرعي، ومرجحا في المحصلة ما انتهى إليه رأي الريسوني من أن الأكثرية يعتبر دليلا مرجحا مع إبقاء الاجتمال مفتوحا في إمكانية أن يكون الصواب مع الأقلية، لكن فقط في مستوى نظري، أي لا يمكن التعويل عليه في ممارسة الشورى.

ويتعرض المؤلف أيضا إلى قضية الرقابة النيابية وصلتها بالتشريع، فيعرض إلى تقسيمات النظم الدستورية الوضعية للحكومات، وشكل الرقابة النيابية في كل حكومة على حدة، ويتعرض لأعطاب الرقابة ومحدودية سلطتها في إدانة الرئيس ومحاسبته وعزله، فيعرض في المقابل لراي العلماء في حدود تدخل الاجتهاد الشرعي في محاسبة رئيس الدولة وأعوانه ومسؤولية الموظف العام، فيعرض في ذلك لرأي أبي حفص الرجراجي وراي الثعالبي، ليقرر من خلالها مبدأ "من اين لك هذا" ة ومبدأ التصريح بممتلكات الموظف العام.

الضوابط الفقهية للسياسة الشرعية في المجال الدستوري

وعلى نفس المنهج الذي اعتمده في الفصل المعني بالأحوال الشخصية، اجتهد المؤلف في رصد وتأصيل عدد من القواعد والضوابط الفقهية المؤطرة للمجال الدستوري، محاولة عرض الضابط وشرحه وبيان أدلته مع بعض تطبيقاته، فذكر من هذه الضوابط أن الأمة هي الأصل والدولة ما هي إلا إحدى مؤسساتها، وأن الواجب اتخاذ الإمارة دينا وقربة، وأم شرعية الدولة تستمد من طاعة الشرع ورضا لأمة، وأن الشوكة لا تقوم إلا بموافقة الأكثرين من معتبري كل زمان ومكان، وأن الحل والعقد يدور بين أهل الخبرة والاختصاص وهم أهل الشورى، وبين ذوي القوة والشوكة وهم أهل سلطة التنفيذ، وأن الضرورة تسقط ما أعوز من شروط المكنة في اختيار ولاة الأمور، وأن ولاة ألأمور وكلاء ونواب للأمة لا ملاك لها، وأن الشورى ملزمة للحاكم، وأن الأمة تقوم مقام الإمام مع فقده او عجزه، وأن من ظهرت خيانته سقطت طاعته، وغيره من الضوابط التي استفاض المؤلف في شرحها وبيان أدلتها وتطبيقاتها.