انتبه أحد الأصدقاء إلى أنَّ وباء الحزن والفجع جاحَ مواقع التواصل ندباً
لحاتم علي ورثاءً، حتى إني وجدت قوماً يفقهون قولاً، ذكروا ألفاظاً مثل النزيف والنكبة والمصيبة في رثائهم للمرحوم، فكأنها حمّى.
إن مواقع التواصل أعدى من القوباء، بالخير وبالشر، وإنَّ الموت عرس أسود، تغدو الجنازة عرسا والميت عريساً، ويتبارى الأقارب والأباعد في استعراض مدائحهم وحزنهم على الملوك. وكان حاتم أميراً من أمراء الإخراج، وسأحاول أن أبلغ أسباب الحزن عليه، وأفسرّ الأمر، فلست من خصوم
حاتم علي بل إنني من محبّي أعماله السيرية والتاريخية.
قرأت مرة مقالاً مفيداً في صحيفة الحياة عن تطور
المسلسلات التاريخية العربية، فابتهجت به، ولو كان مخزن الصحيفة موجوداً لأعدت قراءته، لكنهم أحرقوه أو سرقوه أو صادروه لشأن لا يخفى. وكنت أشعر بالمرارة من أول مسلسل ديني "على هامش السيرة"، وكان أول مسلسل ديني أعرفه، ولم يكن فيه ما يحمد سوى أغنية الشارة العذبة، وهي لياسمين الخيام، وكانت الأغنية طويلة كأنها حلقة مستقلة. بل كنت أشعر بالعار أمام زملائي من أتباع الديانات والمذاهب الأخرى، فمن هو أبو مرّة، الذي صار سيد قريش وأحد أبطال المسلسل، حتى أن اسم المسلسل يجانبه التوفيق، وليس في السيرة هوامش، فهوامشها متون. مؤكد أنّ المسلسلات التاريخية تطورت وعقلت، لكننا لم نعد كما كنا، فقد جهلنا كثيراً ولم تعد تؤثر فينا المسلسلات التاريخية لسبب وجيه هو أننا فسدنا كثيرا.
عرفت حاتم علي كاتباً قبل أن أعرفه ممثلاً ومخرجاً، وقرأت له قصة "موت مدرس التاريخ العجوز" في الأسبوع الأدبي، صفحة أدب الشباب، وكان يشرف عليها الأديب شوقي بغدادي، الذي صفق للقصة وأثنى عليها. وتلخص القصة بدايات حاتم علي الذي ستشبه نهاياته، بدأ بالتاريخ وانتهى بالتاريخ. والبدايات تصدق النهايات، فإن أردت أن تعرف نهايتك فانظر إلى بدايتك، هي قاعدة ولكل قاعدة شذوذ. وكان الكاتب ينعى موت التاريخ بموت مدرسه، وكأنه قرر بعد سنوات أن يحمل رسالته الأولى، ففعل، فكان صلاح الدين (الذي ترجم إلى التركية والماليزية)، ومسلسل عمر، والثلاثية الأندلسية.
سمعت مخرجاً معروفاً يثني على بأس حاتم علي واقتداره على قيادة ذلك الجيش من الممثلين في مسلسل الفصول الأربعة، ورأيت حلقات منه، ومنها حلقة يهتدي فيها الأب (جمال سليمان) إلى الحق المبين على يد ابنته، ويؤمن أن رامي عياش مطرب أحق أن يتبع من مطرب آخر لم أعد أذكره، فقلت: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ثم إني في ذلك اليوم تعرضت إلى حادث سير ونجوت منه، فنظرت إلى ضحية الحادث، وحمدت ربي وبكيت لأني كنت سأمضي إلى ربي وآخرتي، وأنا أجهل شرف رامي عياش ومنزلته في الطرب والغناء.
وأثنى قوم على المسلسل، ليس لأنه جعل من المطرب اللبناني رامي عياش بطلاً وهادياً ونصيراً، بل لأنه ذكر في إحدى حلقاته كتاباً لابن حزم هو "طوق الحمامة"، وقيل إنَّ الكتاب فُقد من الأسواق في اليوم التالي وهذا حسن ومحمود.. ابن حزم برامي عياش، يوم بيوم والحروب سجال.
ماذا لو أن المسلسل أثنى على كتاب للمؤلف نفسه، مثل "جوامع السيرة النبوية"، أو "رسالة في فضل الأندلس" أو كتاب "الإمامة والسياسة"، وأغلب الظنِّ، وبعضه إثم أنَّ المسلسل ذكر طوق الحمامة ليس للتذكير بابن حزم، وإنما لأنه كتاب عن الحب، وقد عشنا قرنا من الحب السينمائي والخزي الواقعي.
ونحن نتذكر الفصول الأربعة لا بد أن نتذكر أنَّ حياتنا صارت فصلاً واحداً منذ عشر سنوات، ليس لنا معبود سوى الحب، نسبّح بحمده ونقدسه ونمجده، والمعتقلات تفترس آلاف المعتقلين في صمت.
مسلسل قيامة أرطغرل:
نصحني صديق عتيد بمشاهدة مسلسل "قيامة ارطغرل" فلم أفعل، لأن الوقت تقلص كثيراً. وزعم زاعمون أن معدل العمر ارتفع كثيراً ولم أصدقهم، وكان رأيي أن سنة عند أجدادنا تعادل عشراً من أعمارنا، سوى أنهم كانوا أحراراً من البطاقات الشخصية والبطاقات الذكية ومن مشاهدة المسلسلات، فكان الأجداد أبطالاً على الأرض وفي السماء، أما أبطالنا المعاصرون فهم أبطال في الكاميرات، أمثال
جمال سليمان و
تيم حسن، أبطال الواقع اختشوا وماتوا.
أما مسلسلات حاتم فقد مدحت كثيرا، والحق أني كرهت مسلسل الزير السالم، فلم يكن هذا الزير زيري الذي قرأت سيرته صغيراً، ولم يعجبني النص ولا التصوير، وهذا رأي يقاس بالذوق، والذوق ليس حكما عدلا مقسطا، وأني وجدت تفاوتاً في سرعة المسلسل، فهو سريع حيناً وبطيء أحياناً، وفي مسلسلات حاتم علي هدر كثير، قد أشير إليه في مقال مستقل.
وقرأت عشرات المقالات تمدح الحوار في الزير سالم. ذكرنا في بداية المقال أن الآراء أعدى من القوباء، وتفشو مثل الوباء، وكنت كلما قصدت متجراً سمعتهم يتحدثون عن جمال الحوار وذكائه في الزير سالم. لكن أين من حوار الزير السالم الحوار في مسلسلات رباعية الأندلس ومسلسل عمر الذي شيّده سيد التأليف التاريخي وليد سيف؟
كما أني استغربت اسم مسلسل عمر، فلمَ لم يسمِّ المسلسل عمر بن الخطاب أو الفاروق مثلاً، وهو أولى وأهيب، فلا بد من نسب ما مثل: صقر قريش، مثل: قمر بني هاشم.
والحاصل أن حاتم علي مشى على أثر مدرس التاريخ العجوز قصصا، فوجدا عبادا صالحين أمثال صلاح الدين وصقر قريش وعمر بن الخطاب. ويعيد بعض الفاضلين الفضل إلى وليد سيف، فوليد هو الأمير وحاتم هو الوزير.
وأذكر أني تابعت مسلسل صلاح الدين وقارنته بالنص التاريخي، ووجدت هدرا في بعض المشاهد، ليس هذا موضع ذكرها، وهدر التاريخ هو هدر للواقع.
وأعود إلى سؤالي الأول: وهو لماذا صار لمسلسل "قيامة أرطغرل" الإسلامية كل هذا المجد، حتى أنَّ موسيقا المسلسل صارت أكرم من النشيد الوطني التركي، ولم يبلغ مجده واحد من مسلسلاتنا التاريخية؟
ذكرت تقارير صحفية أنَّ المسلسل فتح قلوب ملياري مشاهد، وإنَّ 25 رئيس دولة زاروا موقع التصوير، وأنَّ فناناً أمريكياً أشهر إسلامه في موقع التصوير، وأنَّ الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو زار موقع التصوير وهو يصرخ متحمساً بعد أن ذكر أسماء ممثلي المسلسل واحداً تلو الآخر: هذا المسلسل يعلّم الإسلام الحقيقي، وقد أكون مسلماً يوماً ما بفضل هذا المسلسل".
ولم يحصل ذلك لواحد من مسلسلات الثنائي وليد سيف وحاتم علي، مع إقرار الخاصة والعامة بجمال مسلسلاتهما وحرصها على تقديم التاريخ لشعب نسي تاريخه، أو أُجبر على نسيانه، أو حُرم من ذكره. ويظنُّ بعضهم أنَّ السبب هو أنَّ تركيا في حالة انبعاث جديد، وقد تبنت حكومة العدالة والتنمية المسلسل، بينما لم تفعل حكومة عربية تؤمن بالبعث العربي الاشتراكي مع مسلسلات الثنائي المذكور، فقد كان البعث يتورع عن استعراض التاريخ في التلفزيون في سنوات حكمه الأولى، ثم وجد أن صالح المسلسلات يضرب بطالحها، عسل وسمٌّ يقدمان على مائدة واحدة. وأظنُّ أنَّ المؤلف والمخرج، وهما من رعايا الدول العربية، كانا حريصين على أن يدرسا المنهاج كما كنا نفعل فنبقى أسرى وعبيدا لغلافي الكتاب المقرر؛ لا نحيد عن المرعى، فلم يقل طالب في عهود الحكومات العربية الحديثة إنه يدرس ليعرف فهو يدرس لينجح ويجمع العلامات.
وأذكر أنَّ فيلم الرسالة لمصطفى العقاد أحدث ما يشبه الثورة، وكان له دوي، واهتدى كثيرون به، وأن أنطوني كوين تأثر كثيراً بشخصية عمر المختار العظيمة التي أدَّاها. أمّا عمر بن الخطاب، فلم يؤثر في الممثل الذي أدّى دوره، بل إنّي قرأت له تصريحا أنه استاء كثيراً من الشروط التي وقعها بعد تمثيل دوره، لقد أثّر ابن الوهاج في الناس أكثر من عمر بن الخطاب فأين العلّة؟
العلّة هي أنها مسلسلات تاريخية، مثل قطع العرض في المحلات، ممنوع اللمس، ليست للبيع والاستعمال. وهناك من يزعم أنها لم تؤثر في مخرجها الذي اجتهد محبّوه في البحث عن رأيه في الثورة السورية، فوجدوا له تصريحاً في مجلة مصرية غير معروفة، فهموا منه أنه ضد قتل الشعب السوري ولم يذكر الرئيس السوري بخير أو بشر، فأين هو من عمر بن الخطاب؟ لكن ليس موقفه من النظام هو الميزان، هناك ميزان آخر أعدل.
سألت كاتبا ندب حاتم علي ندباً ملتاعاً فقلت له: كأنَّ الأندلس سقطت مرة ثانية، كأنّه أبو عبد الله الصغير آخر ملوك الأندلس.
فقال: حتى تعرف فضل حاتم علي انظر إلى مسلسلات هذه الأيام؛ "أم هارون" و"غرابيب سود" و"الحور العين"، وقارنها
بالتغريبة الفلسطينية، وصقر قريش، وصلاح الدين الأيوبي، وعمر بن الخطاب وإذا شئت أن تلخص حياته في جملة..
فقاطعته وقلت: أعرفها. أنظر إليها، هي المكتوبة على
نعش المرحوم من الأمام.
twitter.com/OmarImaromar