استعدادا لتنصيب جو بايدن رئيسا، عاشت الولايات المتحدة أسبوعين من الرعب والحمى، وتولى 25 ألفا من جنود الحرس الوطني تحويل تسعة كيلومترات مربعة، هي محيط البيت الأبيض، إلى قلعة حربية، تحسبا لهجمة جديدة من التتر الترامبيين، الذين سعوا في 6 كانون ثاني (يناير) إلى ضرب وترويع وربما قتل نواب الكونغرس الذين كانوا بصدد اعتماد بايدن رئيسا، وما عناه ذلك من إشهار فشل الرئيس السابق دونالد ترامب في الفوز بولاية ثانية.
كان ذلك الحدث أمرا مستجدا، من حيث أن يهجم غوغائيون من البيض على بيض آخرين، بينما التاريخ الأمريكي حافل باستهداف البيض لسكان البلاد الأصليين لانتزاع الأراضي التي كانوا يعتاشون من ريعها، ثم السود رفضا لمنحهم حق الاقتراع في الانتخابات أو الحصول على مساكن أو حتى ركوب نفس الحافلات ودخول نفس الجامعات المخصصة للبيض، ثم امتد العنف الأبيض إلى ذوي الأصول الصينية والمكسيكية، بمباركة أمثال الرئيس الأسبق أندرو جاكسون، وحاكم ولاية ألاباما الأسبق جورج والاس، وكان حداة وحماة ورعاة البطش بالأقليات غير البيضاء هم الأثرياء البيض الذين أسسوا منظمات قوامها عنصريون دمويون لا يرون أن لغبر البيض حقا في العيش على التراب الأمريكي.
كما سقط النظام الصحي الأمريكي في اختبار الكورونا سيسقط النظام القانوني والعدلي في اختبار المواطنة، ويكون ذلك السوس الذي ينخر في أوصال الإمبراطورية الأمريكية، وجميع الإمبراطوريات القديمة انهارت بسبب علل في بنيانها الداخلي، وليس من المستبعد أن تصبح أمريكا بنهاية القرن الحالي في قائمة "حضارات سادت ثم بادت".
ومعلوم أن الولايات المتحدة لم تخض قط حربا نظامية ضد عدو خارجي على أراضيها، ولكنها ومنذ أربعينيات القرن الماضي الدولة الأكثر خوضا للحروب في جميع القارات بداية بقصف هيروشيما وناغازاكي بالقنابل النووية، ومرورا بحرق الناس والأخضر واليابس في فيتنام ولاوس وكمبوديا، وليس انتهاء بغزو أفغانستان والعراق، ومن ثم كيف لا تشمت الشعوب التي عانت من غطرسة القوة الأمريكية في الأمريكيين الذين ظلوا يسوقون أنفسهم على أنهم حماة الديمقراطية، حين تأتي أحداث 6 كانون ثاني (يناير) الدموية رفضا لنتائج العملية الديمقراطية، ويكون ذلك انصياعا لتوجيهات رئيس البلاد الذي لا يقبل بالممارسة الديمقراطية ما لم تكن في صالحه، ثم يستنكر سياسيون من معسكر ترامب ما حدث، ليس لأنهم يرفضونه من حيث المبدأ ولكن لخطورة انقلاب البيض على البيض.
وكيف لا يشمت العراقيون والأفغان بالأمريكيين، وعديد الجنود الذين كانوا مكلفين بتأمين حفل تنصيب بايدن رئيسا كان أعلى من عددهم الحالي في أفغانستان والعراق خمس مرات (25 ألف جندي في محيط البيت الأبيض مقابل 5 آلاف في أفغانستان والعراق)؟ أليس هذا دليلا على أن الأمريكان رأوا في الغوغائيين المناصرين لترامب خطرا أشد من ذاك الذي واجهوه مع القاعدة وطالبان وداعش ووكلاء إيران في العراق؟
وإذا كان الخمسة وسبعون مليون ناخب الذين صوتوا لصالح ترامب في الانتخابات الأخيرة لم يروا فيه خلال بقائه رئيسا خلال السنوات الأربع الماضية ما يشي بأنه معتوه وأرعن وفاقد للأهلية، بل هم على استعداد لممارسة العنف الأهوج لمنع عجلة الديمقراطية من الدوران الطبيعي المعتاد، أليس هذا دليلا على أن شرائح واسعة من الأمريكيين تعاني من إعاقة أخلاقية وفكرية؟ وهل يجوز لبلد يحوز سكانه مئات الملايين من قطع السلاح المرخصة بأمر "الدستور" أن يزعم أنه كفيل برعاية السلام في أي ركن من أركان الدنيا؟
لا أحد يستطيع منع عجلة التاريخ من الدوران، ونهاية سيطرة البيض على الولايات المتحدة صارت أمرا محسوسا، بل إنها بدأت تذوي وتضمر كما هو حال كل الإمبراطوريات الكبرى،
وما يرعب النخب والغوغاء البيض في الولايات المتحدة وحملها على مناصرة شخص قاصر فكريا وأخلاقيا مثل ترامب، هو أن بلادهم تشهد تحولات كبيرة وحاسمة، فقبل سنوات تم انتخاب الأسود باراك أوباما رئيسا لولايتين متتاليتين، ثم جاءت الانتخابات الأخيرة بالسوداء كامالا هاريس نائبة للرئيس، وفاز رجل أسود في انتخابات الكونغرس قبل أيام قليلة في ولاية جورجيا أحد أكبر معاقل العنصريين البيض في أمريكا، وبحلول عام 2045 سيشكل البيض أقل من نصف عدد سكان البلاد، بينما كانوا يشكلون 83% من السكان في عام 1970، وبحلول عام 2060 تفيد المؤشرات إلى أن البيض سيشكلون 42% من السكان، ولهذا فإن البيض المعاصرين قد يلجأون إلى العنف المفتوح مجددا لمنع ما يعتبرونه "ضياع وطنهم".
ولكن لا أحد يستطيع منع عجلة التاريخ من الدوران، ونهاية سيطرة البيض على الولايات المتحدة صارت أمرا محسوسا، بل إنها بدأت تذوي وتضمر كما هو حال كل الإمبراطوريات الكبرى، فقد كان البرتغاليون والإسبان والبريطانيون سادة البر والبحر في العالم منذ القرن الرابع عشر، ودالت دولهم وانكمشوا في رقاع أرض صغيرة هي مواطنهم الأصلية.
وبرزت الولايات المتحدة كقوة إمبريالية بعد الحرب العالمية الثانية، وورثت نفوذ وأراضي القوى الاستعمارية الأوروبية وتحولت إلى قوة سياسية واقتصادية وعسكرية عملاقة، ولكنها باتت اليوم عاجزة حتى عن مواجهة العدو الوحيد الذي تجاسر وغزا أراضيها ألا وهو فيروس كوفيد-19 المسبب للكورونا، فقد كانت الولايات المتحدة أكثر فشلا حتى من بعض الدول الفقيرة في مواجهة الفيروس حتى وصل عدد "قتلاه" الألفين فيها في اليوم الواحد، مما فضح عجز النظام الصحي الأمريكي، والذي تم تفصيله ليوائم فقط احتياجات الشرائح الغنية، مما جعل المواطنين العاديين ـ وهم غالبية السكان ـ يحسون بأنهم مهمشون في أغنى بلد في العالم.
هناك مثل مصري يقول "يموت الزمار وصوابعه بتلعب"، وفي كلمته الوداعية قال ترامب يوم الأربعاء الماضي وقبيل تنصيب بايدن رئيسا بقليل "إن الشيء الذي بدأناه سيستمر"، وما بدأه ترامب هو إطلاق العنان للعنصريين البيض كي يأخذوا القانون بأيديهم، بل أن يصوغوا قوانينهم الخاصة، وهكذا وكما سقط النظام الصحي الأمريكي في اختبار الكورونا سيسقط النظام القانوني والعدلي في اختبار المواطنة، ويكون ذلك السوس الذي ينخر في أوصال الإمبراطورية الأمريكية، وجميع الإمبراطوريات القديمة انهارت بسبب علل في بنيانها الداخلي، وليس من المستبعد أن تصبح أمريكا بنهاية القرن الحالي في قائمة "حضارات سادت ثم بادت".
ماذا يعني أن تكون إدارة بايدن مجرّد دورة ثالثة لأوباما؟
تركيا والتداعيات الجيوبوليتيكية المحتملة للمصالحة الخليجية
اقتحام الكونغرس تعبير عن مزاج عام