سنة 1799، أي بعد عشر سنوات بالضبط من قيام الثورة الفرنسية، سادت حالة عامة من التبرم والقلق لدى الفرنسيين بسبب خيبة آمالهم. الشعور باليأس اجتاح الأنفس. العدمية والتشاؤم اكتسحا مساحات المعنى والتفاؤل. الثقة تبددت ولم يعد الناس يطيقون أي حديث عن أي معنى.
في تلك الأثناء، بعث صامويل كولريدج رسالة إلى صديقه وليام ووردزورث يستحثه فيها أن يتصدّى للنزعة السلبية التي استولت على الأفئدة: "أريد منك أن تكتب قصيدة من الشعر المرسل موجهة لهؤلاء الذين تخلّوا، بسبب الإخفاق الكامل للثورة الفرنسية، عن أي أمل في مستقبل أفضل للإنسانية، وغرقوا تماما في أنانية أبيقورية، يخفونها تحت أقنعة العناوين الناعمة للترابط الأسري، واحتقار الفلسفات المثالية والحالمة".
وضع تمرّ به كل الثورات. سقف الآمال يكون أرفع بكثير من الإمكانيات. حصائل السنوات الأولى تكون ضعيفة وتصيب الثقة في مقاتل. قليلٌ مَنْ يعتصم بالصبر والمثابرة.
كلّ المعارك تدور على أرض الوعي وفي دروب الوجدان. خلال فترة الاستبداد يستعمل الطاغية السجن والتعذيب والقتل لكسر الإرادة والنيل من العزم. أما بقاياه ممن جرّدتهم الثورة من وسائل الإكراه المادي، فإنهم يستخدمون وسائل الفتك الناعمة: استهداف الأمل والثقة والحلم والتفاؤل، تلك الجسور التي عَبَرَ فوقها رجال ونساء آمنوا بالتغيير، متخطين حواجز سميكة من الإحباط حين كان أغلب الناس منشغلين بيومهم وخلاصهم الفردي.
المتربصون بالحلم ممن مردوا على اغتيال الطموح، يحاولون بعد الثورة أن ينقضّوا على الأمل للإجهاز عليه.
قبل الثورة، يفصلك المستبدّ عن عملك ليتركك فريسة للجوع والفقر والخصاصة. وتلك مداخل الإذعان والقبول والصمت عن الظلم. بعد الثورة، هناك من يحاول أن يفصلك عن حلمك وأملك وثقتك ليتركك فريسة للتشاؤم واليأس والشك. وتلك مداخل الهزيمة والندم.
كل المعارك تبدأ في ساحة الوعي وتنتهي هناك. مواطن القوة والضعف هناك. الأسلحة والكمائن، الذخائر والخطط، جميعها هناك. يُهزم المرء في الداخل، حيث رصيده من التصميم، قبل أن ينهار أمام الناس في الخارج. لذلك يتغذى الوعي من الفن والدين والشعر والأدب والعلم والفلسفة والحب واللقاء. والمرء يصمد بقدر غذائه ذاك.
بعد الثورة مباشرة تغادر الانتظارات والأحلام هويّتَها وتتحول، بسبب طول السفر ومشاقه وتضاريس الطريق وأشواكه المتبقية مِن زَرْعٍ الظلم، إلى أثقال موجعة ينوء تحت كاهلها التحمّل. فيضيق المرء بحلمه. وهو وضع سريالي تعمل آلة الشك على صناعته فتخلق مشهدا ساخرا يُبكي. وهو سريالي لأن المرء يوشك، بسبب المَطرَقَة المستمرة لآلة التدمير الذهني، أن يكفر بنفسه قبل الله.
وحده من يرابط في قلعة الأمل والصبر يجتاز امتحان الانتظار.
الحلم اختبار مغرٍ. إنه كما المرأة الفاتنة، تستثير المشاعر الجميلة، لكنها تأسر الوجدان فيتمنى الرجل لو قاوم، بادئ الأمر، الانجذاب إليها حتى لا يفقد انتماءه إلى ذاته. لكن الثورة، كما الحب مغامرة، ممتعة. إنها، كما المرأة أيضا، تدفع نحو آفاق جديدة من لذة الحياة ومتعة المعنى، لكنها توشك أن تسجن العقل وتسلبه حريته.
قيمة الثورة تكمن في تحرير العقل قبل ملء البطن. قيمة الثورة تكمن في استعادة الإنسان إنسانيته المهدورة ابتذالا وإذلالا. وهل سجدت الملائكة لآدم لامتلاء بطنه أم لامتلاء عقله. عقل متحرر معتدّ وسجين أفضل تمثيلا للإنسان من بطن متخم وهو حرّ. لذلك تحب الثورة / المرأة الرجل المتعفف وتزدري من لا يفكر خارج دائرة جسده.
الثائر الحقيقي لا يستهويه عالم الأشياء، لذة جسدية، بل عالم الرموز والأفكار متعة عقلية، إرادة حرة وقلبا زاهدا. تغريه مآثر التاريخ وأمجاده أكثر مما تهمّ به نوازع.
قيمة الثورة تكمن في تحرير العقل قبل ملء البطن. قيمة الثورة تكمن في استعادة الإنسان إنسانيته المهدورة ابتذالا وإذلالا. وهل سجدت الملائكة لآدم لامتلاء بطنه أم لامتلاء عقله. عقل متحرر معتدّ وسجين أفضل تمثيلا للإنسان من بطن متخم وهو حرّ. لذلك تحب الثورة / المرأة الرجل المتعفف وتزدري من لا يفكر خارج دائرة جسده.
تونس، هذا البلد الجميل حدّ الفتنة، تعرضت، عبر تاريخها، لاعتداءات استهدفت ثرواتها المادية والرمزية فأنهكتها. لكنها لم تنل من عزمها، فظلت تفاجئ العالم في كل مرة بما لا يتوقعه.
ندوب الاعتداءات ما زالت بادية على جسدها الفاتن، تشوهات في المبنى تغطّي قواما رشيقا قاوم ولم يستسلم. نَزَفَ ولم يخضع. وتشوهات في المعنى، اختلال في التوازن وبحث مضنٍ عن استواء إنساني أفسده المستعمر واغتصبه المستبدّ.
الثورة تموت حين تنتهي المثالية ويجفّ الخيال. الثورة تموت حين تخبو الجسارة وتتراجع الشجاعة. الثورة تموت حين ترتفع الاهتمامات الشخصية والمبتذلة إلى مراتب المثل العليا. الثورة تموت حين يصاب المثقفون بسقم الخيال وضعف الإرادة، وينزوي الأفراد كلٌّ في عالمه الخاص.
هناك مثل إنجليزي يقول: "كي تكون واقعيّا عليك أن تطلب المستحيل". وهو نفس المعنى الذي قصده برغسون بقوله: "بقدر ما نرتقي في المثالية نسترجع الاتصال بالواقع".
لا يجب أن تنال مشاق الطريق التي اعترضت التونسيين بعد الثورة من منسوب الأمل لديهم. فمقاومة اعتمالات اليأس تكون بمزيد الأمل. التونسيون ورثوا طبقات من التشوه لحقت ببلادهم وتراكمت عليهم منذ ليل الاستعمار إلى العبث الذي مارسته الدولة الوطنية.
الثورة تموت حين تنتهي المثالية ويجفّ الخيال. الثورة تموت حين تخبو الجسارة وتتراجع الشجاعة. الثورة تموت حين ترتفع الاهتمامات الشخصية والمبتذلة إلى مراتب المثل العليا. الثورة تموت حين يصاب المثقفون بسقم الخيال وضعف الإرادة، وينزوي الأفراد كلٌّ في عالمه الخاص.
التونسيون ورثوا وضعا ثقافيا تكسرت فيه الكلمات حتى فارقت الدوال مدلولاتها، فلم يعد لخطابات الرئيس في آذانهم وقع ولا حتى لآيات القرآن التي يتلوها الشيخ على مسامعهم أثر من فرط ارتباطها بمخارج أصوات منافقة، ساسة ووعّاظا. كلها أصبحت تحيل عندهم إلى الضجيج والصخب، لا إلى الطرب والانتشاء.
الكلمات، كل الكلمات، من الخطاب السياسي إلى الشعر إلى الحديث الشريف إلى القرآن الكريم كانت في وقت ما لا تلقى من التونسيين إلا اللامبالاة وفي أفضل الأحوال نزرا قليلا من الاهتمام الفاقد للحرارة. السبب هو أن صاحب الخطاب ليس صادقا.
إعادة ربط القصد بالعبارة تتطلّب اليوم جهدا كبيرا من قِطْرِ الصدق.
إعادة الثقة في الكلمة تتطلب جهدا ثقافيا فكريا كما فعل الرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام. صدق بيان أعجز فطاحلة الخطاب من بلغاء العرب.
نظرة إلى ساسة وسياسة بأمل.. إحقاق الحقّ وبعث الأمل
سياسة تونس الخارجية بين ثقافة الاستعمال والبناء المؤسسي
هل غابت النكتة السياسية في عهد السيسي؟!