وفقا للتعريفات الأمنية، فإن مذبحة رابعة العدوية هي فض اعتصام بالقوة، ووفقا للتعريفات السياسة، فهي استخدام مفرط للقوة بعد انقلاب عسكري. لم يتبق سوى التعريف الحقوقي، وهو أنها
مذبحة متكاملة الأركان. لا تصمد أي من التعريفات السابقة في كتب التاريخ كثيرا، فرجال الأمن لديهم فائض من المذابح، ورجال السياسة ينظرون للمصلحة ولا ينظرون كثيرا للوراء، والحقوقيون لا يملكون سوى التوثيق والضغط في لحظة الحدث.
تقع مهمة توثيق الحدث على أهالي الضحايا والمؤمنين بعدالة قضيتهم، وذلك للفهم والعظة من ناحية، ولضمان المحاسبة في المستقبل، ولو بشكل رمزي، من ناحية أخرى. وهو للأسف ما لم يحدث حتى الآن بما يتناسب مع هول ما حدث في رابعة العدوية عام ٢٠١٣.
بعد عشر سنوات من الآن قد تكون السردية السائدة تختلف تماما عما يعرفه وشاهده الملايين، وتصبح وقتها السلطة هي الضحية والشهداء هم الجناة. تخبرنا كتب التاريخ عن ذلك في وقائع يصعب حصرها
لم تكن مصادفة أن تعلن السلطات
المصرية عن إنتاج مسلسل "
الاختيار 2" وتسرب صورا للنجم الشاب ذي الشعبية الشبابية، أحمد مكي، وهو يرتدي زي الشرطة في الذكرى العاشرة لثورة ٢٥ يناير. والمعلومة المسربة مع الصورة أن المسلسل سيتطرق لمذبحة فض رابعة. وهي رسالة واضحة لجيل يناير
وضحايا رابعة مفادها: نعم قتلنا وسنقتل ونذكركم بما فعلنا في رابعة، ورسالة لعموم المصريين والعرب: إننا نملك فرض سرديتنا لما حدث عن طريق وسائلنا
الإعلامية.
لا نبالغ إذا قلنا إنه بعد عشر سنوات من الآن قد تكون
السردية السائدة تختلف تماما عما يعرفه وشاهده الملايين، وتصبح وقتها السلطة هي الضحية والشهداء هم الجناة. تخبرنا كتب التاريخ عن ذلك في وقائع يصعب حصرها؛ نذكر منها مثالا واحدا وهو مجزرة باريس التي ارتكبتها السلطات الفرنسية عام 1961 بحق رجال ونساء وأطفال جزائريين خرجوا في مظاهرة سلمية في العاصمة الفرنسية، فقتلت الشرطة الفرنسية المئات منهم، بل وألقت بجثث بعضهم في نهر السين. وترفض حتى الآن أن تعترف الدولة الفرنسية بما اقترفته في قلب عاصمة النور آنذاك رغم عشرات الأدلة الموثقة.
يعني هذا أن مذبحة رابعة في طريقها للنسيان بالتصوير البطيء رغم التقارير الحقوقية والأدلة المصورة وشهادات الأحياء. لن تذهب الأجيال الجديدة اليوم وغدا للتفتيش في دفاتر وأرشيف الماضي لتستخرج تفاصيل المأساة وتعيد نكأ الجراح لتفهم ما جرى، أصحاب المصلحة الوحيدون هم الذين يريدون لمصر الحرية وسيادة القانون وعدم تكرار ما جرى مستقبلا، وعليهم كأفراد ومؤسسات عبء إحياء الذكرى وتوثيقها.
من المهم أن يتم تحرير مذبحة رابعة من صبغتها السياسية، فليس كل من كانوا في رابعة إسلاميين، وهناك عشرات الأمثلة على ذلك. ولأن التوصيف الحقوقي لها أنها جريمة ضد الإنسانية، فيجب أن يكون توثيقها التاريخي مرتبطا بالجانب الإنساني
لا يوجد حتى الآن موقع الكتروني واحد يروي القصة كما هي وكما رصدتها وسائل الإعلام، ولا يوجد حديث عن الملفات العالقة بعد هذه المذبحة وخاصة
قضايا المفقودين، وهم الذين لا يُعرف مصيرهم حتى اليوم، فلم تستخرج لهم شهادات وفاة وليسوا مسجونين. أيضا لا يوجد حصر بأسماء الضحايا وقصصهم، وألف باء تقدير إنساني للضحايا هو ألا يتحولوا إلى مجرد رقم، وأن تُروى سيرتهم وقصصهم وظروف قتلهم. وهذا ملف لم يفتح حتى الآن، وهو ملف مليء بالمفاجآت. أحد الأمثلة أنه من ضمن القتلى المصور الصحفي البريطاني مايك دين الذي استهدف أثناء تأدية عمله لحساب قناة سكاي نيوز البريطانية، وقصته لم تأخذ أدنى تقدير من التغطية الإعلامية.
أزمة مذبحة رابعة العدوية أنها أتت في ظل استقطاب اجتماعي وسياسي كبير، ومن مصلحة السلطات الأمنية والسياسية في مصر أن تظل مصبوغة بصبغة سياسية ليسهل شيطنة كل من يتكلم في هذا الموضوع. ولذا من المهم أن يتم تحرير مذبحة رابعة من صبغتها السياسية، فليس كل من كانوا في رابعة إسلاميين، وهناك عشرات الأمثلة على ذلك. ولأن التوصيف الحقوقي لها أنها جريمة ضد الإنسانية، فيجب أن يكون توثيقها التاريخي مرتبطا بالجانب الإنساني المفجع فيها وليس الجانب السياسي.
twitter.com/hanybeshr