تعتبر مدينة غزة واحدة من أقدم مدن العالم، حيث اكتسبت أهمية بالغة بسبب موقعها الجغرافي الحساس عند ملتقى قارتي آسيا وإفريقيا، والذي منحها أهمية استراتيجية وعسكرية فائقة، لتكون شوكة في حلق كافة الغزاة والحصن الأخير لفلسطين وبلاد الشام من أي غزو.
واعتبر المؤرخون مدينة غزة الخط الأمامي للدفاع عن فلسطين، بل وبلاد الشام، حيث كان لموقعها المتقدم دور عظيم في الدفاع عن العمق المصري في شمالها الشرقي، وجعلها ميدان القتال لمعظم الإمبراطوريات في العالم القديم والحديث، وهي: الفرعونية، والآشورية، والفارسية، واليونانية، والرومانية ثم الصليبية، وفي الحرب العالمية الأولى وحتى بعد احتلالها من قبل البريطانيين والإسرائيليين.
وعزّز مكانة غزة عبر التاريخ موقعها المميز فوق تلة صغيرة ترتفع بنحو 45 متراً عن سطح البحر الذي تبتعد عنه نحو ثلاثة كيلومترات، حيث كانت غزة القديمة تحتل مساحة تقدر بنحو كيلومتر مربع فوق هذه التلة، يحيط بها سور عظيم له عدة أبواب من جهاته الأربعة، وكان أهمها: باب البحر أو باب "ميماس" نسبة لمينائها غرباً، وباب "عسقلان" شمالاً، و"باب الخليل" شرقاً، وأخيراً "باب الدورب"، وباب "دير الروم" أو "الداروم" جنوباً.
واعترى هذه التسميات الكثير من التبدل وفقاً لاختلاف وتبدل الزمن والإمبراطوريات، وكانت هذه الأبواب تغلق مع غروب الشمس، ما جعلها حصينة مستعصية على أعدائها.
ويرى بعض المؤرخين أن العرب الكنعانيين أنشأوا غزة في الألف الثالثة قبل الميلاد، ويرى البعض أنها تعود في نشأتها للعرب المعينيين "Minaeons" الذين كانوا يقطنون في جنوب الجزيرة العربية في القرن الثامن عشر قبل الميلاد، وأنهم وضعوا حجر أساسها، أو على الأقل ساعدوا في نموها وازدهارها.
ويذكر المؤرخون أن بناة غزة الأقدمون وأول من استوطنها هم المعينيون، والسبائيون، والعويون، والكفتاريون، والعناقيون، والمديانيون، والأدميون، والعموريون، إلا أن الكنعانيين هم أول من سكنوها وحافظوا على وجودها، وتركوا بصماتهم على تاريخها الطويل، ولقد كان لغزة شأن كبير مع المصريين القدماء والفراعنة، حيث عبرها الكثير من ملوك مصر الفراعنة، إما لفتحها أو للانطلاق منها لفتح الشام، واتخذها تحتمس قاعدة لهجومه، فقد كانت غزة الموقع المتقدم للدفاع عن العمق المصري في شمالها الشرقي؛ ففي أيام الحرب جعلها المصريون قاعدة للجيش المصري، وفي أوقات السلم جعلوا منها المقر الرئيسي لممثل فرعون في بلاد الشام.
وقال المؤرخ الدكتور عبد اللطيف أبو هاشم والذي له عدة مؤلفات عن تاريخ مدينة غزة وآثارها والعديد من الكتب والأبحاث العلمية المحكمة عن المخطوطات العربية والتراث العربي الإسلامي: "إن غزة مدينة تاريخية قديمة من قواعد فلسطين الشهيرة، وتعد من أقدم المدن التي عرفها التاريخ فقد صمدت لنوائب الزمان حتى أنه لم يبق فاتح من الفاتحين أو غازٍ من الغزاة إلا وكان له معها قصة إما أن يكون قد صرعها أو قد صرعته على طول المدى".
وأشار أبو هاشم في حديثه لـ "عربي21" إلى أن مدينة غزة هي المفتاح الوحيد لجنوبي فلسطين وشرق مصر لذلك فقد توالت عليها الغارات من الشمال والجنوب على حدٍ سواء.
وأوضح أن أفضل طريق تجارية في العالم القديم هي التي كانت تبدأ من جنوب بلاد العرب ينتهي أحدهما في غزة على البحر المتوسط ويمتد الثاني في طريق الصحراء إلى تيماء ودمشق وتدمر.
وشدد على أن مدينة غزة كانت من أهم المدن الفلسطينية الأربعة الجنوبية وهي غزة، عسقلان، أسدود، وعقرون.
وأضاف أبو هاشم: "العناصر الحياتية لمدينة غزة وعبقرية مكانها، هي التي أمدتها بأسباب البقاء والخلود فالموقع هيأ لها الأمن والأمان، وما يزال استراتيجيًا كبوابة بين قارتين وواحة صحراء وقاعدة عسكرية وسوق تجارية بين إقليمين متباينين، وهي الخط الساخن بين إمبراطورتين، وقد شكلت العمق الاستراتيجي للدفاع عن أهم شريان عالمي وهو قناة السويس".
واعتبر أبو هاشم أن لمدينة غزة وموقعها الجيوسياسي أهمية كبرى لدى الفاتحين والغزاة على مدار التاريخ، حيث كان يطلق عليها قديماً: (دهليز الملك)، ويعبر عنها:(بالمملكة الغزية)، ثم أصبح يطلق عليها: "بوابة الفاتحين"، فهي تمثل حلقة وصل مهمة بين قارتين آسيا وأفريقيا، وهي بوابة آسيا وقد عدت من فيالق الشام الخمسة (غزة وعسقلان ـ واللد والرملة ـ وحبرون ونابلس).
وأوضح انه مدينة غزة لعبت دورًا كبيرًا أثناء الحرب العالمية الأولى وإرهاصاتها السابقة (1914 ـ 1917)، حيث كانت من خلال موقعها الاستراتيجي والجيوسياسي محور الارتكاز في التصدي للجيش البريطاني من قبل الجيش التركي المرابط في المدينة.
ويرى المؤرخ الفلسطيني أن احتلال مدينة غزة كان من أهم الأسباب التي أدت لاحتلال باقي المدن الفلسطينية حتى القدس، مشيرا إلى دورها المركزي في التصدي وإعاقة تقدم القوات البريطانية المرابطة في الجهة الجنوبية حتى القنال (قناة السويس) مدة ثلاث سنوات من (1914-1917م)، وذلك بسبب الدفاع والاستبسال من قبل الجيش العثماني المنتشر عبر أرجاء المدينة شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا حتى حدود القنال، موضحاً كيف سقطت باقي المدن الفلسطينية فور سقوط غزة مباشرة، حيث لم يواجه الجيش البريطاني أية مقاومة فيها حتى وصل مدينة القدس دون أي رد أو مقاومة بل وجد ترحيبًا.
وأشار أبو هاشم إلى انه من أهم نتائج الحرب والمواجهات التي حدثت الخراب الكبير الذي حدث بسبب المعارك التي دارت فيها وحولها، وقد تهدم منها ما يزيد عن ثلثها، ومن ثم هجرها أهلها.
وأكد أن مدينة غزة تحملت كل نتائج الحرب بسبب صمودها في وجه الانجليز الأمر الذي لم يحدث في أي مدينة أخرى من المدن والقرى التي تحيط بغزة أو الممتدة حتى القدس.
وشدد على أن غزة رغم كل ما تعرضت له إلا أنها لعبت دورا مهما في المقاومة بعد أن استعادت عافيتها فصمدت خلال حرب 1948، وكانت معقلا للفدائيين في سبعينات القرن الماضي، واندلاع انتفاضة الحجارة في نهاية العقد الثامن من القرن الماضي.
وكان لغزة الدور الكبير في الحفاظ على القضية الفلسطينية لتكون عاصمة السلطة الفلسطينية عام 1994م قبل انتقالها إلى رام الله، لتعيد انتفاضة الأقصى عام 2000 الدور الريادي للمقاومة وذلك بابتكار الصواريخ محلية الصنع لتجبر الاحتلال على الانسحاب من غزة عام 2005.
وتعرضت غزة لحصار مشدد منذ عام 2006 و3 حروب طاحنة تمكن المقاومة التي شكلت لها قاعدة صلبة في غزة من التصدي له لجيش الاحتلال بكل بسالة.
ومن جهته أكد الدكتور أيمن حسونة الحاصل على درجة الدكتوراه في علم الآثار القديمة، وأستاذ مساعد في قسم التاريخ والآثار في الجامعة الإسلامية بغزة أن موقع مدينة غزة تتنوع ما بين العصور الموغلة في القدم التي تبدأ منذ العصر البرونزي القديم 3300 ق.م، والوسيط 2200ق.م، والحديث 1500ق.م، والعصور القديمة المتمثلة في العصرين الروماني والبيزنطي مابين القرن الأول والخامس الميلادي.
وقال حسونة لـ "عربي21": "الموقع الجغرافي والاستراتيجي لغزة جعلها المحطة الأولى لقاطعي صحراء سيناء (المسمى قديما طريق حورس) لاسيما للقادم من مصر والمغادر لها. لذا فقد كانت هدفا استراتيجيا للجيوش طوال مدة الصراعات الحضارية القديمة".
وأضاف: "هذا الموقع شجع قاطنيها على الاشتغال بالتجارة منذ القدم، إذ أصبحت غزة بوابة تجارية تربط بين الحضارات القديمة، فقد ربطت الطريق التجاري الأفريقي بالطريق الآسيوي، وكذلك الحضارات الأوروبية عبر الطريق التجاري البحري على ساحل البحر الأبيض المتوسط".
وأشار حسونة إلى أن موقع غزة كان أقرب محطة تجارية برية لتجارة العرب التي ازدهرت عبر دولة الأنباط في الأردن، الذين كان لهم علاقات متميزة مع تجار مدينة غزة.
وقال أستاذ التاريخ: "في الفترة المسيحية المبكرة اشتهرت غزة بكثرة شهدائها الذين خاضوا صراعا مريرا مع الوثنية في المدينة، وقد ارتبط اسم المدينة باسم القديس هيلاريون الغزاوي الذي كان أول من ادخل نظام الرهبنة إلى فلسطين وبلاد الشام، حيث ينسب له تأسيس أقدم دير في فلسطين".
وأضاف: "تعد مدينة غزة ذات أهمية خاصة لعدد من الرحالة والمستكشفين فقد بدأ النشاط الأثري في إقليم غزة، في القرن التاسع عشر، حيث زار المنطقة عددا من الرحالة والمستشرقين الذين استكشفوا المنطقة ودونوا شيئا عنها".
وأكد الدكتور عبد القادر حمّاد الأستاذ في جامعة الأقصى والباحث والخبير في السياحة الفلسطينية على أن مدينة غزة تتميز بأهميتها السياحية، خاصة وأنها تمثل البوابة الرئيسية التي تتصل بالعالم الخارجي من خلال مصر، فضلاً عن وجود العديد من العوامل الجغرافية الطبيعية والبشرية التي تؤثر على النشاط السياحي فيها، وبالتالي تحدد مدى ازدهارها وتطورها.
وقال حمّاد لـ "عربي21": "تقع غزة في موقع جغرافي فريد باعتبارها جزءاً رئيسياً من فلسطين التاريخية التي تحتل موقعاً جغرافياً فريداً في قلب العالم القديم والجديد، مما جعل الانتقال إليها سهلاً وميسوراً، سيما وأنها تتصل بالعالم الخارجي من خلال معبر رفح البري، كما تتصل بفلسطين التاريخية من خلال معبر بيت حانون وصولاً إلى الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية".
ويتيح هذا الموقع لغزة بحسب حمّاد فرصة الجذب السياحي حيث يمر بها السائحون والزوار والحجاج القادمون من مصر ومناطق أخرى باتجاه المناطق الأخرى خاصة في القدس وبيت لحم والناصرة مما يعطي لها فرصة أن يقضي هؤلاء بعض الوقت لزيارة ما تتميز به من معالم مختلفة.
واعتبر مظاهر السطح وطبوغرافية بغزة، من المقومات الجغرافية الهامة التي من الممكن أن تلعب دوراً هاماً في الجذب السياحي لها، خاصة وأن تضاريسها تعتبر جزءاً متقلصاً من السهل الساحلي الفلسطيني الذي ينتهي في الغرب على شاطئ البحر المتوسط بخط ساحلي شبه مستقيم، مقوس نحو البر قليلاً.
وأكد حمّاد أن الفلسطينيين فتحوا غزة منذ أقدم الأزمنة، وكانت من المدن الفلسطينية الخمس المشهورة وهي: غزة، عسقلان، اسدود، وعاقر، وجت "غات".
واعتبر أن أجمل ما في غزة هو بحرها، شاطئها، وساحلها وسمائها، رمالها الذهبية البراقة، وشمسها ودفؤها، ونسيمها العليل.
وقال:"إن غزة عروس البحر الجميلة كانت تجذب السياح إلى بحرها وشاطئها، حيث تعتمد كثيراً في اقتصادها على السياحة قبل ان يفرض عيها الحصار المشدد".
وأوضحت نريمان خِلة المرشدة السياحية في وزارة السياحة والآثار الفلسطينية أن مدينة غزة تحضن مئات المواقع الأثرية موزعة على الحقب الزمنية.
وقالت خِلة لـ "عربي 21": "غزة القديمة من أقدم المدن المتجذرة في عمق التاريخ، تعاقبت عليها العديد من الحضارات، نظراً لموقعها الجغرافي المهم، ما ساهم في رسم طابع معماري خاص بها في كل حقبة تاريخية، فقد كانت البلدة القديمة بغزة تتكون من أربعة أحياء، هي: الدرج، والزيتون، والشجاعية، والتفاح".
وأضافت: "غزة القديمة تروي على أرضها حكايات وقصصاً عشقها الساكن فيها، فقد بنيت على هذه الطريقة المعمارية منذ زمن بعيد، لتبقى لوحة مسكونة بخطوات من مروا عليها عبر الزمن وأقاموا فيها من أقوام وشعوب، غزة العتيقة تحمل عبق آلاف السنين من معمار أثري".
وتابعت: "من يسير في طرقاتها تصادفه الجدران العتيقة التي تتميز بالبناء العتيق، والأقواس التي تتميز بلونها الرملي والتي تعود إلى الحقبة العثمانية، وجزء آخر يعود للحقبة المملوكية، مدينة تعاقبت عليها العديد من الحضارات، نظراً لموقعها المميز، ما ساهم في رسم طابع معماري خاص بها في كل حقبة تاريخية".
وأوضحت خِلة أنه مع مرور الزمن امتدت البلدة القديمة وتوسعت مساحتها، وتمدد البناء الخرساني الجديد، فساهم في تهدم واندثار العديد من المباني القديمة، ولم يبقَ إلا القليل من المباني الأثرية القديمة وهو ما يقارب 146 بيتاً، وتمثل حوالي 80% مما هو متوفر من مبانٍ تقليدية، أما الجزء المتبقي فهو عبارة عن مبانٍ عامة كالمساجد والكنائس والزوايا والمدارس والمقابر والأسواق والحمامات، وتتوزع البيوت التقليدية على أحياء البلدة القديمة.
وأشارت إلى أن النظام الإنشائي الذي بنيت فيه البيوت التقليدية في مدينة غزة هو نظام الحوائط الحاملة، ومادة البناء الأساسية هي الحجر الرملي، بالإضافة إلى الحجر الجيري والرخامي والفخار والطين، ولا يزال يوجد نماذج مميزة من البيوت التقليدية في البلدة القديمة بغزة تشهد على عراقتها وأصالتها مثل قصر الباشا والمسجد العمري وحمام السمرة وكنيسة بيرفيريوس.
الشقيري.. أسس منظمة التحرير واصطدم بالقادة العرب والفصائل
"التشريعي الفلسطيني".. صرح تاريخي شامخ منذ العهد العثماني
المؤرخ مصطفى كبها والحاجة لتأريخ الحدث الفلسطيني