قطعت شوطا طيبا في قراءة سيرة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما الذاتية "أرض موعودة"، الذي صدر في أواخر العام الماضي عن دار كراون للنشر، ورغم أن معظم جوانب سيرة ومسيرة أوباما كانت معلومة لدي، إلا أنني حرصت على اقتناء الكتاب لأنني معجب بتجربته، وازددت إعجابا بها كلما ازداد كرهي لخلفه دونالد ترامب، وبعبارة أخرى فإن ذلك الإعجاب لا يشمل سياساته ولا حتى أفكاره العامة.
لا يهمني اليوم من أمر أوباما أنه ابن سيدة أمريكية بيضاء ورجل كيني أسود؛ وقضى معظم سني طفولته وصباه متنقلا ما بين هاواي وإندونيسيا، وأنه عندما عاد إلى الولايات المتحدة والتحق بالمؤسسات التعليمية الأمريكية عانى من الازدراء والتحقير من قبل أقرانه البيض، بينما كان السود منهم يرون أنه ليس أسود بما فيه الكفاية، ولم يكن في سجله الأكاديمي في المراحل ما قبل الجامعية ما يجعله مميزا عن زملائه، ولكنه وبالالتحاق بالجامعة صار مجدا مجتهدا، بعد أن تفتَّح وعيه على أمور كثيرة، فكان أن نال فرصة الالتحاق بأم الجامعات الأمريكية، هارفارد لدراسة القانون.
ما استوقفني طويلا في الكتاب هو مسيرته من محام صغير، وشاب يعمل في منظمات عامة لمساعدة سود مدينته شيكاغو، إلى شاب جسور يخوض تجربة الترشح لعضوية برلمان ولاية إلينوي ويفشل ثم يعاود الكرة وينجح، ثم يتمدد أفق طموحه بالترشح ثم الفوز بعضوية مجلس الشيوخ الذي هو أعلى سلطة تشريعية في بلاده، ليصبح ندا لعشرات السياسيين المحترفين الذين لهم كلمة في معظم الشؤون العامة.
الأمريكان أنفسهم يقرون بأن نظامهم الديمقراطي معتل ومختل، ومع ذلك فإنه لا يسمح في غالب الأحوال بأن يكون هناك زعيم أو رئيس أو قائد سياسي بـ"الصدفة" والتآمر كما هو الحال في معظم الدول العربية،
استوقفني ما يتطلبه كل ذلك من جهد: قرع أبواب البيوت على مدى أشهر طويلة لتوزيع المنشورات المتعلقة برؤاه وبرامجه، بل والدخول في حوارات مع المواطنين في الشوارع والحانات والأندية، وهناك الاستذكار المستمر لـ "دروس" السياسة بالاطلاع الدؤوب على مجريات الأمور وتوجهات الرأي العام وما تقوله استطلاعات الرأي، والسفر برا وجوا طوال أشهر عديدة لمخاطبة الناخبين، ثم الخضوع لمطحنة آلة إعلامية شرسة تنصب كمائن لكل من يدخل مجال العمل العام لفضح "عَرْضِه" ونشر أي غسيل قذر يكون قد خبأه لأي مدى زمني، وبعد كل ذلك كان على أوباما أن يخضع المرة تلو الأخرى لآلة الفرز الحزبية التي تحدد من هو المؤهل لخوض المنافسة ويتمتع بفرص فوز أفضل من غيره.
كل نقلة في حياة أوباما بعد أن حدد خياره ومساره السياسي استغرقت أعواما من التفكير والتحضير والنقاش وتبادل الآراء مع أهل الثقة من المعارف والأصحاب، ومع هذا تعرض الرجل لنكسات وإخفاقات، ولكنه كان يستجمع شتات عزيمته ويستأنف المسير لتحقيق الهدف المنشود، وهكذا استخدم كل نجاح صغير حققه سلما يرتقي به إلى نجاح وهدف أكبر.
كل ذلك جعلني أتساءل: كيف ابتُلينا نحن بحكام عجزة يتسمون بقصر النظر وضحالة الفكر؟ والإجابة على التساؤل عندي هي أنهم ـ بالمصري ـ أكلوها والعة، كما يقال عن الشيء "الجاهز" الذي يفوز ويحظى به المرء عن غير جدارة، وانظر حال مصر: هل راود رئيسها الحالي عبد الفتاح السيسي حلم الرئاسة قبل عام 2011 الذي شهد سقوط نظام حسني مبارك؟ بل لا أحسب أنه كان يتوقع أن يصبح يوما ما وزيرا للدفاع!! وإذا به يصبح وزيرا للدفاع وفي بلد ظل من الناحية الفعلية محكوما بعسكريين منذ عام 1952، وكان يعاني من اضطراب سياسي واجتماعي كما يحدث في كل الدول التي تخرج من ربقة حكم ديكتاتوري طويل الأمد؛ في بلد كهذا، لم يكن صعبا أن يقوم السيسي بانقلاب ناعم ويصبح رئيسا للجمهورية، ويعجبه الحال ويقرر أن يصبح رئيسا مدى الحياة.
كيف ابتُلينا نحن بحكام عجزة يتسمون بقصر النظر وضحالة الفكر؟ والإجابة على التساؤل عندي هي أنهم ـ بالمصري ـ أكلوها والعة، كما يقال عن الشيء "الجاهز" الذي يفوز ويحظى به المرء عن غير جدارة،
وهناك في السودان عبد الفتاح الآخر (البرهان) الذي نال الحظوة تلو الحظوة خلال حكم عمر البشير، ولكن ما أن انقلبت موازين الأمور لغير صالح البشير بعد اندلاع ثورة شعبية حتى وجد نفسه يتصدر المشهد ويزعم أنه المنقذ من حكم البشير، ويجعل من محمد حمدان دقلو (حميدتي) نائبا له بعد أن ينعم عليه برتبة فريق أول دون أن يكون له أي حظ من التعليم العسكري، وصار الرجلان في صدارة المشهد السياسي في السودان وكما السيسي فلم يسبق لأي منهما شغل وظيفة عامة على أي مستوى تجعلهما على بعض دراية بكيف تساس وتُساق الأمور.
ولا يختلف عن هذا الثالوث حافظ الأسد ونجله بشار في سوريا، وصدام حسين في العراق، وزين العابدين بن علي في تونس، ومعمر القذافي في ليبيا، وعلي عبد الله صالح في اليمن، بل وحتى في الدول العربية التي بها أنظمة حكم تلتزم بقشور وشكليات الديمقراطية يكون الفوز بالمناصب العليا في البرلمانات ومجالس الوزراء لذوي الحظوة المسنودين بالثروة والجاه أو القبيلة أو "واشنطن"، أي أن التعويل في إسناد المناصب لا يكون على الخبرة والكفاءة والمؤهل التعليمي، بل بمنطق شريعة الغاب التي تسمح للقوي بافتراس الضعيف.
والأمريكان أنفسهم يقرون بأن نظامهم الديمقراطي معتل ومختل، ومع ذلك فإنه لا يسمح في غالب الأحوال بأن يكون هناك زعيم أو رئيس أو قائد سياسي بـ"الصدفة" والتآمر كما هو الحال في معظم الدول العربية، حيث معظم الرؤساء من الفئة التي يقول عنها المثل السوداني "قام من نومه ولقى كومه" ـ والكوم هنا المكسب الكبير أياً كان نوعه.
كيف ستؤثر سياسات بايدن على العلاقة بين تركيا وإيران؟
الأمريكان والتباهي بما ليس فيهم
الدبلوماسية القصوى.. هدايا بايدن لإيران مبكّراً