في الفصل الذي خصصه الشيخ محمد الغزالي للإسراء والمعراج
من كتابه (فقه السيرة)، يورد رأيًا في الحادثتَين المشهورتين للدكتور محمد حسين هيكل،
صرَّح به في كتابِه (حياة مُحمَّد)، فيقول الغزالي: "وقد اختلف العلماء من قديم:
أكان هذا السُّرَى الخارق بالرُّوح وحده، أم بالروح والجسد جميعا؟ والجمهور على القول
الأخير. وللدكتور هيكل رأي غريب، فقد اعتبره استجماعًا ذهنيًّا ونفسيًّا لوحدة الوجود
من الأزل إلى الأبد، في فترة من فترات التألق النفساني الفذّ، الذي اختُصَّ به بَشَرٌ
نقيٌّ جليلٌ مِثلُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وفي إبان هذا التألق، الذي استعلى به
على كل شيء استعرَضَ حقائق الدين والدنيا، وشاهد صور الثواب والعقاب، إلخ. فالإسراء
حَقٌّ وهو عنده رُوحيٌّ لا مادّي، ولكنه في اليقظة لا في المنام، فليس رؤيا صادقةً
كما يرى البعض، بل هو حقيقةٌ واقعةٌ على النحو الذي صوّره ثم قالَ فيه بعدئذٍ
"وليس يستطيع هذا السموَّ إلا قوةٌ فوق ما تعرف الطبائعُ الإنسانية". والحقُّ
أن الحدود بين القوى الرُّوحيّة والقوى المادية أخذَت تضمحلُّ وتزول، وأنّ ما يراه
الناس ميسورًا في عالَم الرُّوح ليس يستوعِر في عالَم المادّة".
هكذا يتّضح أنّ الغزاليّ يميل إلى الرأي القائل بأنّ
الحادثتَين وقعتا بالجسم والرُّوح معًا، على خلاف (هيكل). وفي الواقع يتّصل رأيا الرجُلَين
في هذا الأمر بالنظام الذي أخذا به نفسَيهما في التعرُّض للسيرة النبوية. ففي (حياة
محمَّد) كتبَ (هيكل) مقدمةً طويلةً للغاية حملَ خلالَها على تراث كُتّاب السِّيرة والمفسِّرين
القدامى والمُحدَثين لإيرادِهم مرويّاتٍ إعجازيّةً عن النبيّ، يتعارض كثيرٌ منها في
رأيِه وما يقرره القرآن في آياتٍ عديدةٍ من أنّ خطابَه للناس خطابٌ عقلانيٌّ لا يتذرّع
بمعجزةٍ سوى نفسِه، حيث التحدّي الوحيدُ للكفّار في القرآنِ هو أن يأتوا بمِثلِه أو
بعشر سُوَرٍ مثلِه أو حتى بسورةٍ من مثلِه.
ويرى (هيكل) أنّ تلك المرويّات وإن صحّحها
رجالُ الحديث تحوّلَت إلى أداةٍ في أيدي المستشرِقين يهاجمون بها الإسلام ونبيَّه،
ولذا رفضَها إجمالا. أمّا الغزاليُّ فمن الواضح أنه كان أقربَ إلى قَبول ظاهر النُّصوص
الحديثيّة، وإن كانت مقدمتُه لكتابِه هذا توضح أنّه تصرَّف تصرُّفًا واسعًا في أخذ
هذه النصوص وردِّها، فهو يرفضُ إيرادَ الحديث الصحيح عن أخذ النبيِّ بني المُصطلِق
على حِين غِرَّةٍ لأنه يتنافى ومبدأَ الدعوة بالحسنى إلى الإسلام والإعذار ثم الإيذان
بالحرب الذي يقرره القرآن، ويستدرِك بأنّه ربما كان هناك موضِعٌ لهذا الحديث في قصة
غزوة بني المصطلِق لو كان يمثّل مرحلةً متأخرةً في الصراع بين جيش المسلمين وبني المصطلِق،
وهكذا.
ويتبيّن لنا أنّ الغزاليّ لم يكن ضيّقَ التصرُّف مع ظاهر
نصوص الحديث في خلال فصلِه عن الإسراء والمعراج نفسِه، حيث يعلّق على حديث البخاري
عن أنس بن مالكٍ قالَ: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم: رُفِعَت لي السِّدرة،
فإذا أربعة أنهار: نهران ظاهران، ونهران باطنان، فأما الظاهران: فالنيل والفرات، وأما
الباطنان: فنهران في الجنة" فيقول: "وقد عرفَ محمدٌّ - صلى الله عليه وسلّم – في هذه الرحلة أن دعوته
ستَنسَاخُ في الأرض وتتوطَّن الأودية الخصبة في النيل والفرات وتنزع هذه البقاعَ من
مجوسية الفُرس وتثليث الرُّوم. بل إنّ أهلَ هذه الأوديةِ سيكونون حمَلَة الإسلام جيلاً
في أعقابِ جيلٍ، وهذا معنى رؤية النيل والفرات في الجنّة، وليس معناه أنّ مياهَ النهرَين
تنبُع من الجَنّة كما يظُنُّ السُّذَّجُ والبُله."، ويفسح الغزاليُّ هوامشَ كتابِه
لتعليقات الإمام المحدِّث ناصر الدين الألبانيّ الذي خرّج أحاديثَ الكتابِ ليستدركَ
على الغزاليِّ استدراكًا أكثرَ إخلاصًا لظاهر هذا الحديث، حيث يقول الألبانيُّ:
"ألا تَرى أنّه إذا قال إنسانٌ لماءٍ في كأسٍ: هذا من السماءِ، لكانَ صادقًا،
وكان قصدُه معروفًا؟ فليتأمَّل. ونحوُ هذا يُقالُ فيما صحّ عنه صلى الله عليه وسلّم
"إنّ أربعةَ أنهارٍ من الجنة" أي أصلُها من الجنة، لا أنها تنبُع الآنَ منها".
والشاهد أننا إذ نقرأُ تأريخَ هيكل والغزاليّ للسيرةِ
النبوية وحادثتَي الإسراء والمعراج بالأخَصّ، وهوامشَ الألبانيّ على الغزاليّ، نَجِدُ
أنفسَنا إزاءَ ثلاثِ مستوياتٍ من تلقّي النصوص الحديثيّة، أولُها الإخلاص التامُّ لمقتضَيات
عقل المتلقّي، متمثّلاً في (هيكل)، وآخِرُها الإخلاص التامُّ لظاهر هذه النُّصوص مع
حَمل معناها على أمرٍ غيبيٍّ لا طاقةَ للعقل على الإحاطةِ به، متمثّلاً في الألباني،
وبين المستوَيَين يأتي الغزاليُّ باستعداده لقبول مَدَىً أوسعَ من النُّصوص مع محاولةِ
تأويلِها ومصالحتِها على العقل الجمعيِّ استلهامًا من ظواهر التاريخ، كما في مسألَتَي
بني المصطلِق وأنهار الجَنَّة.
والحقيقةُ أنّ مسألة المعجزة أو خوارق العادات بتواتُرِها
في الأديان تمثّل مشكلةً أمام العقل، بيد أنّي أجدُ نفسي مع الفيلسوف الأمريكي (جوزايا
رويس) إذ يقولُ في كتابه (مَصادر البصيرة الدِّينية) – ترجمة: أحمد الأنصاري، المشروع
القومي للترجمة، مصر، 2007 – خلال حديثِه عن مفهوم الوحي والمفارقة الدِّينيّة:
"فإن شئتَ ألاّ تجعلَ وحيًا معيَّنًا يستمدُّ صحّتَه من وحيٍ آخر أسبقَ منه، وهكذا
إلى ما لا نهاية، فلابُدّ أن تفترضَ مسبَّقًا أن هناك وحيًا كائنًا في مكانٍ بعيدٍ،
يستمدُّ صحَّتَه وأصالتَه مِن داخلِكَ ومن نُوركَ الباطنيِّ، ومن معرفتك الشخصيةِ بطبيعة
هذا الكائن، وتَمَكُّنِك من معرفتِه بوصفه أساسًا لكل بصيرةٍ دينية"، ويسترسل
فيقول: "اعترفَ بصحّة هذه الملاحظةِ مَن يؤكّدون أنه بدُونِ إيمانٍ لا يستطيعُ
أيُّ وحيٍ خارجيٍّ أن يَهدي مَن يعيشونَ في الظَّلام. فلا تكفي المعجزاتُ لإثباتِ صِحَّتِه.
ولا تستطيع الدلالاتُ والمعجزاتُ أن تبيّن الإرادة الإلهية لمن لا يشعرون داخلَهم بالنُّور
وليس لديهم استعدادٌ لاستقبالِه. باختصارٍ، إذا كان هناك وجودٌ لأي بصيرةٍ دينيّةٍ
خارجيّةٍ فإنها لا تأتي إلينا إلا إن كانت خبرتُنا الشخصية تمثّل أساسًا لها".
وأجِدُني أرى في القرآن بوضوحٍ ما يصدّقُ رأيَ (رويس):
"قُل انظُرُوا ماذا في السَّماواتِ والأرضِ، وما تُغني الآياتُ والنُّذُرَ عن
قومٍ لا يُؤمِنُونَ" – سورة الإسراء 101. وغير هذه الآيةِ كثيرٌ في القرآن يُحِيلُ
المتلقّي إلى نُورِه الداخليِّ ويجعلُ الآياتِ غيرَ ذاتِ غَناءٍ لِمَن لا يعقِلون أو
لا يؤمنون.
وانطلاقًا من هذا الفهم يَلُوحُ لي أنّ ما تذكُرُه كتُبُ
السِّيرة من معجزاتٍ للنبي بخلاف القرآن يبدو بعيدًا كُلَّ البُعد عن أن يَقصِدَ إلى
إقناع الكافِرين بنبوَة محمدٍ عليه الصلاة والسلام، فحديثُ جابرِ بن عبد الله عمّا
حدثَ يوم الحديبية إذ أصابَ المسلمين عطشٌ وشُحٌّ في الماء، ونَبعِ الماء مِن بين أصابع
النبي "فجعلَ الماءَ يَثورُ بين أصابعِه كأمثالِ العُيُون فشَرِبنا وتوضَّأنا"،
وهو حديثٌ متَّفَقٌ عليه، هذا الحديثُ لا يزعُمُ أنّ هذا وقعَ أمام أعيُن الكافِرين
ليصدِّقوا بنبوة محمَّدٍ، وإنما هو أمرٌ وقع بين المسلمين، فهو أقربُ إلى تثبيتٍ من
الله لإيمانهم. وإلى هذا الرأي يذهب الغزاليُّ كذلك حيث يقول: "فقد تكفَّل القرآن
بإقناع أُولي النُّهى من أول يومٍ، وجاءت الخوارق في طريق الرسول ضربًا من التكريم
لشخصِه والإيناسِ له، غيرَ مُعَكِّرَةٍ ولا معطِّلةٍ للمنهج العقليِّ العاديّ الذي
اشترعَه القرآن. وقد اقترحَ المشركون على النبي أن يرقى في السماء فجاء الجوابُ من
عند الله "قُل سبحان ربّي هل كنتُ إلا بشرًا رسولا؟" – الإسراء 93 – فلمّا
رَقَى في السماءِ بَعدُ، لم يَذكُر قَطُّ أن ذلك رَدٌّ على التحدّي أو إجابةٌ على الاقتراح
السابق، بل كان الأمر كما قُلنا محضَ تكريمٍ ومزيدَ إعلامٍ من الله لعبدِه".
فماذا لو كانت رؤيا؟
يحتجُّ كثيرون على أنّ الإسراء والمعراج كانا رؤيا صادقةً
بالآية: "وما جَعلنا الرؤيا التي أريناكَ إلا فتنةً للناسِ" الإسراء 60.
ولا يهدُف هذا المقال إلى ترجيحِ رأيٍ على رأيٍ في النهاية، لكننا ننطلِق مرّةً أخرى
كما انطلَقنا أوّلاً إلى الفيلسوفِ (رويس)، مُحاوِلِين الامتياحَ من بئر الفكرِ غير
الإسلاميّ، مُنفَتِحين على التجربة الإنسانيّة في آفاقِها الرَّحبَة. لا نَدخُلُ جُحرَ
ضَبٍّ ضيّقًا وراءَ (جورج سانتايانا) عالِم الجَمال الأمريكيّ ذي الأصل الإسبانيّ،
وإنما نستأنِسُ بما قالَه في كتابه (الإحساس بالجَمال) – ترجمة محمد مصطفى بدوي، المركز
القومي للترجمة بمصر، 2011 – حيث ذهبَ إلى أنّ الكاثوليكيّة ما هي إلا حُلمٌ، لكنه
لا ريب حُلمٌ جميل، وعلينا أن نتقبّل القَصَص الديني للمسيحية بمعناه الشِّعريِّ لا
الحَرفيِّ، وبذلك نستطيعُ الأملَ في الخُلود على نحوٍ ما، وليس خلودُنا امتدادًا لشخصيّاتنا
في العالَم الآخَر، بل هو تكرارٌ لها في هذه الحياةِ عن طريق ألفاظنا وأعمالنا وتشبيهاتنا
المقدسة خاصّة.
هل يصدُق بعضُ ذلك على الإسراء والمعراج؟ يبدو لي رأي
الدكتور (هيكل) قريبًا بدرجةٍ ما ممّا يرمي إليه (سانتايانا) في حديثِه عن القَصص الديني.
وبغضّ النظَر عن وِجهة النظر التي يتبنّاها المتلقّي لحادثتَي الإسراء والمعراج، فإنّ
اللغة تظلُّ وعاءً قاصِرًا حين يتعلّق الأمر بأفكارٍ وراءَ هذا العالَم المنظور. ولعلّ
الكلمةَ السواءَ المنشودةَ بين الجميع تتبلورُ أمامَنا حين نتأمّل تعاليمَ الصلاة وبرّ
الولدين وحُسن الجِوار وصِلة الرحِم وإغاثة الملهوف والقِسطِ إلى المُخالِفين في العقيدة
والبِرّ بهم، إلى غير ذلك ممّا نستطيعُ تبيُّنَ آثارِه في حياتِنا ممّا دعا إليه محمدُ
بنُ عبد الله وطبّقَه في سيرتِه فكان قرآنًا يمشي على الأرض. حينذاكَ لا نَجِدُ قولاً
نُشيرُ به إليه ونحن نتأمل مرويات الإسراء والمعراج، خيرًا ممّا قال البوصيريُّ في
بُردته:
"فَمَبلَغُ
العلمِ فيهِ أنَّهُ بشَرٌ .. وأنه خَيرُ خَلقِ اللهِ كُلِّهِمِ".