لم يعرف الفلسطينيون قبل عام 1948م، وهو عام النكبة "المخيم"، ولكنهم عرفوه حينما هجرتهم العصابات الصهيونية من أراضيهم وبيوتهم بقوة السلاح واضطروا للعيش فيه بشكل مؤقت لحين عودتهم إليها، ليتحول المخيم خلال أكثر من 7 عقود إلى رمز وطني ومحضن للمقاومة وهاجس يطارد الاحتلال الذي يحلم بالتخلص منه بأي طريقة كونه أحد الشهود على النكبة.
وشردت العصابات الصهيونية بعد احتلالها المدن والقرى الفلسطينية عام 1948م قرابة 750 ألف لاجئ فلسطيني أقاموا مخيماتهم على مقربة من قراهم بشكل مؤقت لتكون لهم مأوى لحين عودتهم ليتكاثروا ويصبح عددهم الآن قرابة 6 ملايين لاجئ.
وأكد عدنان أبو حسنة المستشار الإعلامي لرئاسة وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" في حديثه لـ "عربي21" أن عدد مخيمات اللاجئين الفلسطينيين المسجلة لديهم هي 58 مخيما، موزعين على الضفة الغربية وقطاع غزة، وسوريا، ولبنان، والأردن.
وأوضح أن عدد اللاجئين المسجلين لديهم ويحملون بطاقة لاجئ وتقدم "الأونروا" المساعدات لهم هو 5.7 ملايين لاجئ فلسطيني.
وأكد نصر أحمد رئيس اللجنة الشعبية في مخيم الشاطئ للاجئين الفلسطينيين والواقع غربي مدينة غزة على أن إقامة مخيمات اللاجئين جاءت نتيجة تهجير الشعب الفلسطيني بقوة السلاح من دياره في العام ١٩٤٨م.
وقال أحمد لـ "عربي21": "لم يعش اللاجئون الفلسطينيون حياة مستقرة في المخيم، والفقر والبؤس صفتان لازمتهم ولم يفارقهم حنين العودة إلى الوطن وكانت لديهم رغبة جامحة إلى الانضمام إلى الجيوش العربية لتحرير قراهم ومدنهم التي هجروا منها".
وأضاف: "إرث الماضي الذي حافظ عليه الأجداد والآباء وتناقلوه بيننا سواء تاريخ وحكايا النكبة والتهجير أو حياتهم على أرض فلسطين وما تمتعوا به من خيرات ورغد العيش والتجارة والصناعة وما تناقلوه من قصص وروايات ورسومات تحكي تاريخهم لا بد من الحفاظ عليه وتوريثه جيلًا بعد جيل حتى نحميه من الاندثار والنسيان ليظل حاضرًا في الأذهان حتى العودة التي لا بد آتية".
وأوضح أحمد أنه عندما أنشئ جيش التحرير الفلسطيني سارع المئات للانضمام إليه وأقيمت معسكرات التدريب من أجل ذلك، وشاركوا في عمليات فدائية داخل خط الهدنة وحرب حزيران عام ١٩٦٧، للدفاع عن وطنهم إلى جانب إخوتهم من المواطنين والعرب، ولم تثنهم الهزيمة والاحتلال عن المقاومة والانضمام إلى التشكيلات الفدائية التي أرقت العدو وأوقعت فيه الخسائر الجسيمة.
وأكد على أن أوج هذه العمليات كان بين عامي ١٩٦٨م و١٩٧٢م إذ قام وزير الحرب الإسرائيلي الأسبق أرئيل شارون وقتئذٍ بعمليات استهداف كبيرة للفدائيين وهدم أعداد كبيرة من منازل المخيمات في محاولة منه لوأد المقاومة المسلحة ضد الاحتلال.
وقال أحمد: "المخيم بالنسبة للاجئين مسكن مؤقت ومحطة انتظار وليس حياة استقرار وما زالوا يحتفظون بمفاتيح بيوتهم وكواشين (شهادات الطابو) أراضيهم، وبعض تراثهم الذي احتفظوا به مثل المزودة والفأس والطاحونة والثياب المطرزة ويمارسون في أفراحهم السامر والدبكة والأهازيج التي تذكرهم بالعودة والحنين إلى الأرض والوطن".
وأضاف: "الاحتلال الصهيوني يكره المخيمات الفلسطينية ويرغب في تدميرها وإزالتها عن الوجود وحاول أكثر من مرة أن يسعى لتوطين اللاجئين في أماكن متفرقة، منها ما هو خارج البلاد والتي فشلت جميعًا، ومنها ما هو داخل البلاد عبر مشاريع الإسكان مثل حي الشيخ رضوان بغزة، وحي الأمل في خانيونس، ومشروع بيت لاهيا في الشمال بل ويرغب في إنهاء كل ما يمت للمخيمات واللاجئين بصلة حتى الأونروا التي أنشئت من أجلهم يحاربها ويحاول بشتى الطرق أن يجفف مواردها لتنتهي وليسهل بعد ذلك تصفية القضية الفلسطينية، فطابور اللاجئين على مراكز التموين يدخل في قلوب المحتلين الرعب لأنه يؤكد يومًا بعد يوم أن هذه المخيمات حية وشاهدة على أكبر جريمة في التاريخ المعاصر، اقتلاع شعب حي من أرضه وتراثه وإحلال عصابات تم تجميعها من شتات الأرض محله، فالمخيمات تذكرهم بأن هذا الاحتلال لا بد زائل طال الزمان أم قصر".
وأوضح أن حياة اللاجئ في المخيم حياة بؤس وشقاء، مؤكدا على أن هذه المخيمات تضيق بسكانها فهي الأكثر اكتظاظًا على مستوى العالم.
وضرب رئيس لجنة مخيم الشاطئ مخيمه مثلا موضحا أنه يعيش فيه أكثر من ٩٠ ألف لاجئ في بقعة لا تتجاوز مساحتها 800 دونم، وبيوت مهترئة، بعض المنازل مكون من غرفة واحدة ومطبخ وحمام بمساحة ٤٠ مترًا مربعًا فقط.
وقال: "أزقة المخيم لا تكاد تتسع لمرور فرد واحد، حيث اقتسمت العائلات البيت الواحد ومنهم من توسع رأسيًا في عدة طوابق، يقتات بعضهم أحيانًا كثيرة على الخبز والشاي، وازداد الأمر سوءًا على معظم السكان في ظل جائحة كورونا التي صاحبتها فترات منع التجول حيث فقد الكثير أعمالهم البسيطة مثل الصيد البحري والبسطات التجارية وقليل من الصناعات والحرف اليدوية التي لا تكاد تسد رمقهم ولا تلبي حاجات أطفالهم، يساعدهم في العيش ما يتسلمونه من مساعدات من وكالة الغوث التي توفر لهم أيضًا العلاج الأولي والتعليم لأطفالهم حتى الصف التاسع.
وأضاف: أقامت الأونروا مخيم الشاطئ للاجئين في العام ١٩٥١م على مساحة نصف كيلومتر تقريبًا للملمة شتات اللاجئين الذين سكنوا في ثلاثة مخيمات صغيرة متفرقة في مدينة غزة عبارة عن خيام من القماش ذاقوا خلالها أصنافا من العذاب والبؤس، هذا المخيم ضم في بدايته حوالي ٢٣ ألف لاجئ في منازل متلاصقة مبنية بالطوب ومسقوفة بالقرميد، عاشوا في معظمهم على المساعدات التي كانت تقدم لهم من الأونروا، وتوسع المخيم في العام ١٩٦٢م ليصبح حوالي ٦٥٠ دونمًا، ثم تمدد مرة أخرى ولكن على نفقة اللاجئين أنفسهم في العام ١٩٩٥ ليصبح حوالي ٨٠٠ دونم.
وقال الكاتب والباحث ناهض زقوت، مدير مركز المستقبل للتنمية الثقافية: "يمثل المخيم التجسيد الفعلي لعملية النفي والتهجير القسري التي تعرض لها الفلسطينيون، ومفهوم المخيم ليس دلالة مكانية تشير إلى مجموعة من البشر يسكنونه فحسب، بل هو تعبير عن حالة تمتد إلى جميع أبناء الشعب الفلسطيني الذين تحولوا بعد 1948 إلى لاجئين في جميع أصقاع الأرض".
واعتبر زقوت في حديثه لـ "عربي21" كل فلسطيني هو ابن لمخيم، حتى لو عاش في أرقى مدن العالم، ما دام المخيم في جوهره ليس إلا التجسيد الفعلي للمنفى.
وعد المخيم ظاهرة غير مسبوقة في حياة الشعب الفلسطيني، فلم تكن ظاهرة المخيم معروفة للفلسطينيين قبل عام 1948، ولكن بعد النكبة أصبح المخيم صفة ملتصقة بالشعب الفلسطيني، وتعبر عن مأساته ومعاناته، وتهجيره من أرضه ووطنه.
وشدد على أن المخيم لا يشكل أية أهمية في حياة الشعب الفلسطيني غير أنه مكان لمرحلة قادمة، ويتمسكون به لأنه عنوان نكبتهم، ويرفضون التوطين.
وقال زقوت: "لقد حافظ الفلسطينيون على المخيم كتعبير عن مأساتهم، ومحطة للانتقال لعودتهم إلى ديارهم، وحتى سنوات قريبة لم يكن الفلسطينيون في المخيمات لديهم أية مبادرات لعملية التغيير في شكل مكان المخيم حتى لا يشعروا بالاستقرار، بل كان يمثل لهم محطة للعودة".
وأشار إلى أن المخيم كان أشبه ما يكون بمركز إيواء كبير أقيم على عجل، لذا لم يكن مستغربًا أن تكون الخيمة بمثابة الوحدة السكنية الأولى فيه.
وقال زقوت: "على الرغم من استبدال الخيمة بالبيوت الطينية، ومن ثم الإسمنتية، فقد حافظ المخيم على اسمه في الوعي الجمعي للفلسطينيين، كنوع من الرغبة اللاواعية بأن يكون مكانًا طارئا للإقامة المؤقتة، فالمخيم شاهد على نكبة الشعب الفلسطيني، وشاهد على الجرائم الصهيونية التي ارتكبت بحقه، وأحد أكبر رموز المعاناة الفلسطينية، وفي الوقت نفسه، برز كأحد معالم الصبر والصمود والعطاء والنضال الفلسطيني، فمن قلب المخيم خرجت الحركات الثورية، وكان أبناء اللاجئين هم جنود النضال والعمليات الفدائية، فالمخيم كان دافعا لتحرير الأرض وتحقيق العودة".
وأضاف: "في بدايات اللجوء رفض الكثير من اللاجئين الفلسطينيين تحويل الخيام التي يسكنونها إلى أبنية، غير أن طول المعاناة فرض نفسه على واقعهم، فاضطروا للتكيف التدريجي مع أوضاعهم، فاتخذت المخيمات شكل أبنية بسيطة مكتظة، تفتقر إلى الحد الأدنى من الخدمات".
وشدد زقوت على أن المخيم تحوّل من دلالته على التهجير والمنفى إلى رمز للعودة باتجاه الأرض التي رحلوا عنها قسريا، ومن رمز للذل والعار إلى رمز للكرامة الوطنية، وعبر العديد من الكتاب والأدباء عن دلالات المخيم بأنه أصبح الحاضنة للكفاح المسلح.
وقال: "رغم أن المخيمات شكلت بؤر فقر وقهر، إلا أنها شكلت في الوقت نفسه بؤر ثورة وتمرد على الواقع، وأصبحت نماذج لعزة الإنسان الفلسطيني وكرامته، وحرصه على هويته ورفضه للتوطين وتطلعه للعودة، ولذلك كانت المخيمات الفلسطينية حاضنة أساسية للثورة الفلسطينية وللعمل المقاوم".
وأضاف: "على الرغم من مرور سنوات عديدة تزيد عن السبعين عاما على وقوع النكبة الفلسطينية، إلا أن ذاكرة سكان المخيمات ما زالت مزدحمة بذكريات الأرض، ويحلمون بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي والعودة إليها، متمسكين برفضهم لأي اتفاقية تسوية لا تتضمن إنهاء معاناتهم وحق عودتهم إلى مدنهم وقراهم وأراضيهم المحتلة".
وشدد على أن الدولة العبرية بتعاون من المجتمع الدولي سعت في تغيير نمط المخيم الذي يمثل مأساة اللاجئين الفلسطينيين ومعاناتهم، مؤكدا على أن المخيم بالنسبة للفلسطينيين ليس مكان إقامة بل مرحلة انتقال إلى وطنهم، لذلك رفضوا كل مشاريع التوطين التي عرضت عليهم وتمسكوا بحق عودتهم، ولم يتنازلوا عن المخيم كرمز ودلالة على نكبتهم.
وقال الباحث الفلسطيني: "كانت مخيمات اللاجئين ولا زالت الجسم المؤرق لحكومات إسرائيل، لذلك سعت إلى وضع الخطط والمشاريع لإنهاء وجود المخيمات وتصفيتها في محاولة لتذويب اللاجئين في المحيط المحلي وإنهاء دور وكالة الغوث، فقد صرح دافيد بنغوريون، رئيس الحكومة الإسرائيلية في آذار عام 1957، بينما كانت إسرائيل تستعد للانسحاب من قطاع غزة (سيبقى قطاع غزة مصدرا للمشاكل ما لم يوطن اللاجئون في مكان آخر)".
وأضاف: "جاء في السيرة الذاتية لشارون قوله (إنني أعتقد أنه حان الوقت لحل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين وإنني مستعد للقيام بذلك وسيكون من مصلحتنا إلى حد كبير أن نقضي عليها نهائيا وإلى الأبد، وفي رأيي أن مثل هذا الأمر ممكن)، حيث كان ذلك أساس خطة شارون والتخلص من مخيمات اللاجئين الفلسطينيين كليا".
وتابع: "ما المحاولات التي تقوم بها الآن وكالة الغوث من تقليص للخدمات وتغيير نمط توزيع الإغاثة الاجتماعية إلا محاولة يائسة لتصفية نفسها حسب المطلب الإسرائيلي، لأن إسرائيل تعتقد أنه بتحسين أوضاع المخيمات وإلغاء دور وكالة الغوث سيصبح اللاجئون الفلسطينيون غير مطالبين بالعودة، ويفرض عليهم المكان كإقامة دائمة، لأن عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم وأرضهم ليس في مصلحة إسرائيل من حيث سعيها لإقامة دولة يهودية نقية من العنصر العربي".
الزيتون.. شجرة مباركة جذورها ضاربة في أرض فلسطين
قصة المؤرخ الفلسطيني الراحل محمد عزة دروزة وكفاح شعب
"عكا".. مدينة هزمت نابليون وقهرت جيوشه على أسوارها