انطلاقا من أن حسابات بيدر الخميس الحكومي، لم تطابق حسابات حقل الاثنين في قصر بعبدا رغم الوساطات الهائلة من أكثر من جهة، ورغم الضغوطات الفاعلة على أكثر من صعيد، وعلى وقع صوت الأنا والكيمياء المفقودة بعد الاستقالة الشهيرة ولعبة عض الأصابع، إلا أن أنشودة البقاء للأقوى كانت سيدة الموقف، مفجرة حرب بيانات متلاحقة، استعملت فيها كل أنواع الأسلحة الورقية والمستندات الرقمية للأعداد الحكومية من 18 إلى 20 و22، وصولا إلى لعبة الكلمات المتقاطعة.
والمختصر يقول؛ إن مفتاح الحل في حكومة لا ترضي هذا ولا ذاك، إنما حكومة تبعث الثقة في الداخل المتعب والخارج الراغب في حكومة على قياسه حتى يمكنها من ولوج التمويل الدولي؛ الذي هو صلب انتعاش الاقتصاد المحتضر إلى حدود 19 مليارا، بعد أن كان فوق 55 مليارا كناتج قومي محلي، مع نسب نمو متهاوية دون 20 بالسالب، وصرخة كل القطاعات الإنتاجية والصحية والعمالية التي ستلجأ إلى الشارع قريبا على قاعدة "مجبر أخاك لا بطل".
الثقة قبل كل شيء
وحقيقية الأمر أن المقطوع هو عامل الثقة بين الأطراف الفاعلة التي ينتظر كل واحد منها الآخر على زلة هنا أو هناك أو بيان من هنا أو هناك. وتلك الطرق لا تبني ثقة ولا تؤلف حكومات ولا تصلح دولة بحاجة ماسة لكل أنواع الإصلاحات، بعدما ضرب سوس
الفساد فيها تقريبا كل شيء، ولا غرابة أن نرى
لبنان في المرتبة 148 في مؤشر مدركات الفساد.
ومن هنا، أنطلق إلى مؤشر السعادة الذي بات اللبنانيون بموجبه أقرب إلى التعاسة والانتحار؛ الذي يتزايد بفعل العوز والفقر والجوع الذي يضرب كل شيء، وباتت مشاهد عراك السوبرماركت من يوميات الناس المتنازعة على غالون زيت مدعوم أو كيس رز مدعوم للأسف، وكأني بالناس يموتون ببطء حتى صاروا يحنون إلى أيام الحرب لا أعادها الله، أو يدعون على أنفسهم بالموت هروبا من واقع فيه دولار يلامس 15 ألفا، وربطة خبز تتصاعد يوميا مع ارتفاع سوق العملات وارتفاع سعر برميل النفط عالميا وصولا إلى رفع الدعم، وعندها ستضرب صرخة الفقر والجوع كل الساحات.
الحراك الدبلوماسي والعقوبات الأوروبية
ولكن، ما هو السر الذي سيحرك الملف الحكومي وينقله إلى ساحة العمل والوصول إلى حلول في ظل الأفق المسدود والحديث المتعاظم؟ لا حل إلا بتفعيل حكومة تصريف الأعمال، وفي ذلك ضرب للتكليف والتأليف معا. من هنا بدأ الحراك الدبلوماسي بين القصور، وكان لافتا جدا حركة السفيرة الأمريكية ونظيرتها الفرنسية اللتين اتفقتا على أنه حان الآن وقت الحكومة بعد ثمانية أشهر من هدر الوقت.
إن الكلام الدبلوماسي للأسف لا يصرف في بنك السياسيين المفلسين، الذين باتوا ربما أمام عقوبات من نوع جديد برتبة فرنسية أوروبية، خاصة بعد نداءات البطريرك المتكررة وآخرها وأخطرها مع الأمين العام للأمم المتحدة، حيث طالب البطريرك الماروني الكاردينال بشارة بطرس الراعي؛ الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بدور أممي رائد في حل الأزمة بلبنان، وأوضح الراعي شارحا لغوتيريش حالة اللبنانيين وموقف الدولة، وعجز الجماعة السياسية عن الجلوس معا والاتفاق على مشروع إنقاذي، في وقت انتشر فيه الجوع والفقر وتدهورت العملة الوطنية، وشارف البلد على
الانهيار التام، فهل يستجدي البطريرك التدويل الذي ربما صار على الأبواب؟!
من هنا، تشير المعلومات المتقاطعة إلى أن العقوبات الفرنسية تلوح في الأفق على العديد من السياسيين اللبنانيين، حكوميين وبرلمانيين، إلا أنّ اللجوء إلى خيار العقوبات في المشهد السياسي اللبناني ليس خطوة سهلة، وأكبر دليل ما جرى من تداعيات على التأليف الحكومة بعد العقوبات على الوزير باسيل، وتاليا من شأن خطوات كهذه أن تولّد وضعا ديبلوماسيّا غير مسبوق؛ تجد بموجبه دولة نفسها بصدد فرض عقوبات على حكومة "صديقة"، من دون أن يسبق ذلك نزاع أو توترات كبيرة بين الطرفين، غير اللهم دفع الأطراف للعودة إلى لغة العقل لإنجاز حكومة.
هل تجدي العقوبات؟
وباريس ما زالت تأمل عدم الاضطرار إلى فرض عقوبات، وتاليا ما زالت الجمهورية الفرنسية تترك المجال مفتوحا أمام المسؤولين اللبنانيين من أجل التوصل إلى حل، مستدركة بأنّ فرض العقوبات قد يستغرق وقتا طويلا، ولا بد من العمل بوتيرة أسرع، حيث التدهور في لبنان يمضي بسرعة هائلة.
ومن الجدير ذكره، تصاعد الحديث عن عقوبات أوروبية على غرار العقوبات التي فرضت على غير دولة عربية على غرار تونس ومصر وآنذاك، فشملت العقوبات المسؤولين الذين حرموا شعبهم من مكاسب تنمية الاقتصاد والمجتمع المستدامة، وقوضوا تطوّر الديمقراطية في البلاد بحسب البيانات الأوروبية، فهل تكون العقوبات الأوروبية بداية إمكانية تدويل القضية اللبنانية؟ من شأن تلك العقوبات الأوروبية أن تؤدي إلى تجميد حسابات المسؤولين اللبنانيين المودعة في المصارف الأوروبية، كما أنّهم سيُمنعون من السفر إلى أوروبا، إلّا أنّ فرض العقوبات لا يعني أنّ المسألة مبرمة، إذ يمكن للمسؤولين المعنيين اللجوء إلى القضاء الأوروبي لوقف مفاعيلها، فهل هذا كاف؟! لا أعتقد.
إن تعقيدات المشهد تؤكد أن وقت ثورة رغيف الخبز باتت قريبة، وتاليا لا أبلغ من كلام السفير البريطاني مارتن لونغدن بعد لقائه الوزير باسيل، حيث قال؛ إن القادة السياسيين في لبنان "يرقصون" على حافة الهاوية، داعيا إياهم لتحمل المسؤولية. وأضاف: "البديل الوحيد لذلك (عدم إنهاء الأزمة السياسية)، هو كارثة لا يستطيع أصدقاء لبنان منعها!! فهل هذا تبشير بكارثة برتبة دبلوماسية بريطانية لمن يتعظ؟!
إن السؤال الأكبر من خلال كلام السفير البريطاني: من ينقذ لبنان من الكارثة؟ هل هي العقوبات الأوروبية والأمريكية؟ أم الدخان الأبيض من المفاوضات الأمريكية الإيرانية المتعثرة؟ أم استفاقة ضمائر المعنيين وتحييد الأنا في الداخل؟ ربما كل ذلك معا؛ في بلاد يومياتها صفحات موت لثورة تولد من رحم الأحزان.