تجدّد الحراكُ
الجزائري ليعُمّ بزخمه الفضاءات العمومية في عاصمة البلاد وشوارع العديد من حواضر الولايات ومدنها الكبرى.. وبانطلاق مسيرات المتظاهرين من جديد، تكون قد سقطت رواية "موت
الحراك" وتبدّد آمال أصحابه، وتطلعات مناصرين في إعادة كتابة تاريخ جديد للجزائر.
عاد صُناع الحراك والمشاركون في مسيراته حاملين الشعارات نفسها، ومؤكدين على الإصرار ذاته، وبالشجاعة التي تسلحوا بها منذ الإعلان عنه في 22 شباط/ فبراير 2019. أعادوا التشديد على أن رؤيتهم لحل أزمة الجزائر تتركز في ثلاثية: تغيير بنية النظام وليس بعض أشخاصه، وإقامة حكم مدني، يعود الجيش خلاله إلى ثكناته ليمارس أدواره الطبيعية في حماية البلاد، واسترداد استقلال البلاد، أي استعادة المواطنين حقهم في إدارة شؤونهم بحرية واستقلالية وشفافية.
تبدو الجزائر منذ انطلاق الحراك (2019)، وكأن الحياة تسير في ربوعها بسرعتين، أو إيقاعين، والحقيقة أنها محكومة بمنطقين واستراتيجيتين: منطق النخبة الحاكمة وأجهزتها العميقة، ومنطق الشارع، أي المجتمع، بمكوناته وروافده. وقد بدا واضحا أن لكل منطق من المنطقين استراتيجيته، وتقديراته، وحساباته، مع فارق جوهري أن منطق النخبة الحاكمة، المتماهية مع الدولة، يمتلك كل وسائل الإغراء والإكراه، في حين ليس في مُمكن المجتمع سوى قوته الشرعية المستمدة من تجسيده للسيادة، وتمتعه بالأهلية الدستورية للتعبير عنها. لذلك، سيكون لافتا للانتباه، وغير مفهوم، استمرار هذين المنطقين متعايشين في الجزائر على المدى المتوسط، فبالأحرى على المدى الطويل.
ظلت النخبة الحاكمة في الجزائر، منذ انطلاق الحراك، متمسكة بمنطق أنه ليس هناك ما يدعو إلى تغيير بنية السلطة، متأرجحة بين عدم الإنصات لمطالب الشارع، والإقدام على بعض
الإصلاحات غير الجوهرية، والتي رفضت في مجملها من قبل المجتمع. وبالمقابل، أقصى ما حققه الحراك حتى اليوم إكراه الرئيس "بوتفليقة" على الاستقالة (2 نيسان/ أبريل 2019)، وقطع الطريق أمامه لتولي عُهدة جديدة، والاستمرار في رفض كل العروض "الإصلاحية" المقدمة من قبل النخبة الحاكمة.
والحقيقة أن أهم المكاسب التي حققها الحراك تحرره من الخوف والتخويف، واكتسابه مناعة التعبير السلمي عن مطالبه، وتطلعاته في
التغيير، واكتشافه لذاته، وللقدرات التي يكتنزها مناضلوه ومناصروه، من مختلف الفئات والمواقع الاجتماعية.
كيف يمكن إذن فهم تجدد الحراك في الجزائر بعد فترة الانقطاع، الناجمة عن اشتداد مخاطر جائحة كورونا، والإجراءات الاحترازية المتخذة لمقاومتها في الجزائر؟ وهل يمكن لهذه العودة أن تُفضي إلى نتائج نوعية في إعادة بناء شرعية الدولة والسلطة في الجزائر؟
نميز، مرة أخرى، بين التوقعات الممكن حصولها في منطق النخبة الحاكمة واستراتيجيتها، ومنطق الحراك، أي المجتمع بكل مكوناته، واستراتيجية صنّاعه ومناصريه. فمن جهة النخبة الحاكمة، لا يبدو في الزمن المنظور أن هناك احتمالات، ولو في حدها الأدنى، لإقدامها على خطوات شجاعة تجاه مطالب المجتمع، لأسباب تاريخية وثقافية، وهي أن حال النخبة الحاكمة حاليا في الجزائر هو محصلة ستة عقود من تراكمات نمط من الممارسة السياسية، لم تفلح معها كل المحاولات "الإصلاحية"، على محدوديتها، في إيقافها، أو تغييرها إيجابيا (محاولات الرئيسين الشاذلي وبوضياف). ولعل من الأسباب الأكثر تعقيدا في استحالة حصول تغير إيجابي في موقف النخبة الحاكمة تجاه مطالب الحراك، التحالف المقدس الحاصل بين ثنائية "السلطة والمال" لدى الأجهزة المتنفذة في رأس السلطة. لذلك، سيكون صعبا تصور خروج شجاع للنخبة الحاكمة وإفساح المجال للتداول السلمي المدني للسلطة في الجزائر، كما حصل في تجارب عالمية شبيهة بالحالة الجزائرية.
ومن جهة الحراك، وما يمكن توقعه مستقبلا على مستوى التطور والمآل، فالمشاهد متعددة، وتحققها مرتبط بالحراك نفسه، وبمدى قدرته على تنظيم نفسه، والتوافق على قيادة تعقل عمله، ومدى محافظته على نفسه النضالي، واجتهاده في إبداع الحلول وصياغة البدائل.
فغير مطلوب أن يستمر الحراك الجزائري بدون تنظيم ومأسسة (Institutionnalisation)، كما ليس مقبولا أن يظل بدون قيادة واضحة، ومتوافق حولها، تصوغ مطالبه، وتصنع تطلعاته، وتدافع عن شعاراته، وتوضح بالعقل والإقناع رؤيته للتغيير نحو الأفضل. فمما هو متداول في النقاشات الداخلية للحراك، أن ثمة احترازاً وتخوفا متزايدين من إمكانية تكوين قيادة للحراك، من شأنها تولي الترافع عن مطالب المتظاهرين، والدفع بها نحو الإنجاز. أما أسباب ذلك، فقد توعز إلى ضعف الثقة في المجال العام الجزائري، والمجال السياسي على وجه التحديد، لا سيما وأن الممارسة السياسية، المتراكمة على مدار عدة عقود، رسخت مجموعة من الظواهر الاجتماعية، التي تعد اليوم في أصل تفسير ضمور قيمة الثقة في المجتمع الجزائري، وفي صدارتها البحث عن الغنائم، واقتناص الفرص والإمكانيات، والاستفادة من المواقع.
ثم إن أخطر ما يمكن توقعه على تطور الحراك والتحكم في مآلاته، أن تؤثر الاختلافات الأيديولوجية والثقافية لمكونات الحراك، على استمراره وديمومته. فالحاصل أن الطابع المركب للمجتمع الجزائري، وتعدد حساسياته (إسلاميون/ علمانيون/ أمازيغ/ قوميون) قد تُضعف تماسكه، وتعطل نشاطه، كما أن من المتوقع أن تكون للسلطة يد في تأجيج هذه الصراعات، واستثمارها لإضعاف زخم الحراك، والحد من تصاعده.