في عام 1961 زار الطبيب الأمريكي ستيوارت وولف مدينة روسيتو الصغيرة في ولاية بنسلفانيا، وفاجأه الطبيب المقيم في المدينة بأنه لم يشهد طوال الست عشرة سنة التي قضاها فيها مريضا يعاني من علة في القلب، ولم يسجل وفاة كان السبب فيها اعتلال القلب، ومنذ وقتها وعلى مدى عدة عقود عكف وولف على دراسة الأحوال الصحية لسكان روسيتو ومقارنتها بأحوال ساكني المدن والقرى المجاورة، وثبت لديه أن قاطني روسيتو بالفعل محصنون ضد أمراض القلب، ولكن لماذا وكيف؟
كان جميع سكان تلك المدينة مهاجرين من قرية روسيتو الإيطالية، حيث كانوا يعملون في محاجر الرخام وقدموا الى أمريكا طلبا لرغد العيش، وشيدوا بيوتهم البسيطة المتلاصقة، في منطقة غير مأهولة في ولاية بنسلفانيا واحترفوا مختلف المهن، ولم تكن عاداتهم الغذائية تختلف عن عادات سكان البلدات الأمريكية المجاورة، فقد كانوا يتناولون الوجبات الدسمة ويدخنون التبغ، ويشربون الكحول، ولكن ما استنتجه الدكتور وولف والفريق العامل معه هو ما صار يعرف في الطب بـ"تأثير روسيتو".
لم يكن يميز سكان روسيتو عن غيرهم في أي جزء من الولايات المتحدة سوى أنهم متكافلون ومتراحمون، أي أن مجتمعهم كان متماسكا وأفراده يتعارفون ويتواصلون، وبرغم بؤس حالهم الاقتصادي في سنواتهم الأولى بعد وصول الأراضي الأمريكية كانت حياتهم خالية من التوتر والشد العصبي والقلق، ولم يكن هناك من تفسير آخر لاتقائهم أمراض القلب، ثم تعرضت أجيال لاحقة من سكان روسيتو من نفس الأصل الإيطالي للأمركة، ودخلوا معمعة التفوق الاقتصادي التي تتطلب التنافس الشديد حتى بين أقرب الأقربين، فصارت روسيتو موبوءة بعلل القلب بنفس معدل البلدات والمدن الأمريكية الأخرى.
حتى في عصور ما قبل الإسلام كانت المجتمعات العربية، وفي إطار القبيلة شديدة التراحم وحريصة على إعلاء قيم إنسانية سامية كالمروءة والوفاء والكرم وقِرى الضيف ونجدة وإجارة الملهوف وطالب الغوث، ولهذا لم يغمط المؤرخون المسلمون حق الشاعر اليهودي السموأل وخلدوا ذكره مثالا للوفاء،
على علاتها وعللها الكثيرة فقد ظلت المجتمعات العربية، وعلى مدى قرون طوال تنعم بدرجة عالية من التراحم والتكافل والتماسك خاصة في البوادي والأرياف، وبذلك ظلت أمراض العصر من سرطانات وعلل القلب والأوعية الدموية قليلة الحدوث فيها، (حتى فيروس الكورونا يتفادى الحلول في البوادي والأرياف) وكان ذلك قطعا بتأثير روسيتو، أي خلو تلك المجتمعات من مسببات التوتر والقلق لخلوها من التنافس المَرَضي، ولبساطة وسهولة طرق كسب العيش.
وحتى في عصور ما قبل الإسلام كانت المجتمعات العربية، وفي إطار القبيلة شديدة التراحم وحريصة على إعلاء قيم إنسانية سامية كالمروءة والوفاء والكرم وقِرى الضيف ونجدة وإجارة الملهوف وطالب الغوث، ولهذا لم يغمط المؤرخون المسلمون حق الشاعر اليهودي السموأل وخلدوا ذكره مثالا للوفاء، والنصراني حاتم الطائي مثالا للكرم، وفي العصور اللاحقة ظلت تلك المجتمعات معافاة إلى حد كبير من العلل التي صرنا نسميها بـ"أمراض العصر".
ثم صار الغرب معيارا للتقدم والتحضر والرفاه.. ولأن من نسي قديمَهُ تاه، فقد ضعفت أو تفككت الروابط والضوابط الاجتماعية وباتت علل القلب تنتشر وبائيا في الحواضر العربية، بدرجة دعت منظمة الصحة العالمية إلى قرع نواقيس الخطر بانتظام كل عام منذ عام 2012، وتجد الشواهد على ذلك في الأرقام التالية التي توضح نسبة الوفاة بسبب أمراض القلب من مجمل حالات الوفاة: المملكة العربية السعودية 46%، البحرين 26%، العراق 33%، مصر 46%، اليمن 21%، الإمارات العربية المتحدة 30%، تونس 49%، سوريا 28% ، قطر 24% عمان 33%، المغرب 34%، لبنان 47%، الكويت 41%، الأردن 35%.
ولا شك في أن هذا التفشي المريع لعلل القلب في الدول العربية مرده ضعف تأثير روسيتو، أي سيادة أجواء الهلع والهرولة في أمور المعايش وإعلاء الفردانية، أي تفكك النسيج الاجتماعي الذي كان بمثابة حائط الصد ضد العلل العضوية التي يفاقمها البعد النفسي ـ الاجتماعي، وقد تعرضت كثير من مجتمعات المدن العربية للتغريب حتى في عاداتها الغذائية فتركت الاستطعام بكل ما هو مزروع وعضوي، وتبنَّت الأكلات الغربية سريعها وبطيئها ذات السعرات الحرارية العالية.
ويقول موقع "ويب طب" التخصصي: إن اتباع نمط غذائي غير صحي يؤدي إلى التعرض إلى العديد من المخاطر الصحية التي تهدد حياة الإنسان، مثل الإصابة بالسمنة والتي ترفع بدورها من خطر الإصابة بمرض السكري من النوع الثاني وبالتالي الإصابة بأمراض القلب، وهذا ما تؤكده الإحصائيات الصادرة عن منظمة الصحة العالمية والتي تقيد بأن نحو 10% من مجموع الوفيات في الدول العربية تحدث نتيجة الإصابة بمضاعفات مرض السكري، أكثر من نصفهم تحت سن الـ 60 عاما، والسكري جواز مرور مؤكد إلى علل القلب.
في من يهتدي بـ "البعيد" ويرهق نفسه ويكلفها شططا، يتساءل المتنبي:
حتّام نحن نساري النجم في الظُّلَمِ
وما سُراه على خفِ ولا قدم.
تعاطي الحكومة الليبية مع التدخلات الخارجية.. تفكيك أم تأزيم؟
تقرير مجمع الاستخبارات عن التهديدات التي تواجه أمريكا