رغم التحولات الأيديولوجية والسياسية البالغة التي طرأت على جماعات الإسلام السياسي مع تنامي نزعة التسيّس في مقابل التديّن، والقبول بقيم الدولة الحديثة؛ كالديمقراطية والمواطنة والتعددية، باعتبارها قيما كونية لا تتعارض مع مبادئ الدولة الإسلامية، إلا أن حدود الاندماج في بنية الدولة الوطنية عموماً، وقبول فكرة الدولة المدنية، شكلا أحد خطوط النزاع والصدام بين المحافظين والإصلاحيين والراديكاليين داخل جماعات الإسلام السياسي الذي شكّل الجناح المحافظ تياره السائد، الأمر الذي أدى إلى انشقاق معظم قادة التيار الراديكالي وتأسيس الحركات الجهادية، وأدى إلى انشقاق التيار الإصلاحي، وتكوين أحزاب جديدة.
فالأحزاب الجديدة التي خرجت من رحم الإسلام السياسي وشكلت ما بات يعرف بما بعد الإسلام السياسي خلت أنظمتهما الأساسية من أي إشارة أو عبارة تنتمي إلى أدبيات الإسلام السياسي التقليدية، مثل: تطبيق الشريعة، وقيام الدولة الإسلامية، وتقوم مفاهيمها السياسية على مبادئ حداثية صريحة مثل: الدولة المدنية، وسيادة القانون، والمواطنة، والتعددية الدينية والسياسية، والوحدة الوطنية.
لا بد من التيقظ دوماً إلى أن قبول الإسلاموية وما بعد الإسلاموية لاستخدام المصطلحات السياسية الليبرالية الحداثية واستدخالها يتم بعد تطويعها عادة لتتوافق مع المعجم الديني الإسلامي التقليدي
لا بد من التيقظ دوماً إلى أن قبول الإسلاموية وما بعد الإسلاموية لاستخدام المصطلحات السياسية الليبرالية الحداثية واستدخالها يتم بعد تطويعها عادة لتتوافق مع المعجم الديني الإسلامي التقليدي. فمصطلح الدولة المدنية على سبيل المثال، يعاد تأويله ليتطابق مع مصطلحات دينية تقليدية، دون مراعاة خصوصية الحقل الدلالي للمصطلح، ومجاله التداولي. فحسب الشيخ يوسف القرضاوي، وهو أحد أكثر الشخصيات الدينية المعاصرة تأثيراً في الإسلاموية، يشير في كتابه "من فقه الدولة في الإسلام" إلى أن "الدولة الإسلامية دولة مدنية تقوم على أساس الاختيار والبيعة والشورى، ومسؤولية الحاكم أمام الأمة، وحق كل فرد في الرعية أن ينصح لهذا الحاكم".
في هذا السياق إن الأدلجة السياسية للإسلام تستند إلى تفسيره على أنه "عقيدة سياسية"، باعتبار الإسلام نظاما شاملا للأفكار من أجل العمل الاجتماعي والسياسي. فالأصول النظرية للإسلام السياسي تقوم على الاعتقاد بأن الإسلام "نظام شامل ومتكامل" يعالج جميع جوانب الحياة الدنيا والآخرة، والذي يجب أن يحكم كل أمور الحياة، ولا يقتصر على مسائل التقوى الشخصية، بل يجب أن يتجسد الإسلام من خلال العمل الاجتماعي والسياسي المباشر باعتباره الأساس الأيديولوجي للدولة والمجتمع.
الأصول النظرية للإسلام السياسي تقوم على الاعتقاد بأن الإسلام "نظام شامل ومتكامل" يعالج جميع جوانب الحياة الدنيا والآخرة، والذي يجب أن يحكم كل أمور الحياة، ولا يقتصر على مسائل التقوى الشخصية
ولذلك فإن الاختلافات الدقيقة بين المحافظين والإصلاحيين والراديكاليين داخل جماعات الإسلام السياسي تشير إلى الأوجه المتعددة للإسلاموية، فما زال الإسلام السياسي وما بعد الإسلام السياسي يتوافر على قدر كبير من التشابه في أصوله النظرية المتعلقة بالدولة والمجتمع، وتتطابق مواقفه السياسية المتعلقة بمناهضة الإمبريالية الغربية والحركة الصهيونية، وهي من المسائل الحساسة التي تشكل عقدة في علاقة الحكومات مع الحركات الإسلاموية وما بعد الإسلاموية، وما تزال تتشابه في منطق الاندماج في السياسة القومية. فقد أصبحت الحركات الإسلامية حسب أوليفيه روا في كتابه "عولمة الإسلام"، "حركات "إسلامية- قومية"، تعي أن من الضروري إعادة صياغة أيديولوجيتها، بما يسمح لها بخوض اللعبة السياسية من بابها الواسع، ما لم توصده الأنظمة الدكتاتورية"، لكنها تختلف في المدى الذي يجب الذهاب إليه في التماهي مع منطق الدولة القومية مع الحفاظ على المنظومة الأخلاقية الإسلامية.
فالأحزاب الإسلامية التي انشقت عن جماعة الإخوان المسلمين، الممثل الرئيس للإسلام السياسي، تقوم على مفهوم "ما بعد الإسلاموية"، كما يعرّفها آصف بيات باعتبارها "مشروعا" وليست "حالة" جاءت بعد مرحلة من التجربة، حيث وقع استنفاد جاذبية الإسلاموية، وطاقتها، ورموزها وشرعيتها، حتى بين مؤيديها الذين كانوا متحمّسين لها في السّابق. فما بعد الإسلاموية يقوم على محاولة واعية لوضع تصور واستراتيجية لمنطق وطرائق لتجاوز الإسلاموية في المجالات الاجتماعية والسياسية والفكرية.
فمرحلة ما بعد الإسلاموية ليست معادية للإسلام ولا هي علمانية، فهي محاولة لتحويل وقلب المبادئ الأساسية للإسلام رأساً على عقب، بواسطة التأكيد على الحقوق بدلاً من الواجبات، وعلى التعددية في مجال الصوت الفردي السلطوي، وعلى التاريخية بدلاً من الكتاب المقدس الثابت، وعلى المستقبل بدلاً من الماضي؛ ففي حين يُعرّف "الإسلام السياسي" بدمج الدين والمسؤولية، فإن حالة "ما بعد الإسلام السياسي" تؤكد على
التدين والحقوق.
مرحلة ما بعد الإسلاموية ليست معادية للإسلام ولا هي علمانية، فهي محاولة لتحويل وقلب المبادئ الأساسية للإسلام رأساً على عقب، بواسطة التأكيد على الحقوق بدلاً من الواجبات، وعلى التعددية في مجال الصوت الفردي السلطوي، وعلى التاريخية بدلاً من الكتاب المقدس الثابت، وعلى المستقبل بدلاً من الماضي
فحالة "ما بعد الإسلام السياسي" قد تجد ما يعبر عنها في الممارسات الاجتماعية المختلفة، والأفكار السياسية، والفكر الديني كما في الأساس الفلسفي لمناطق "ما بعد الإسلام السياسي" الحضرية، وحركات الشباب والطلاب، والنشاطات النسوية، أو وجهات النظر اللاهوتية.
إن الأوجه المتعددة للإسلام السياسي وما بعده تواجه إشكالية ابستمولوجية في التعامل مع مفهوم الدولة، بصرف النظر عن مدى ديمقراطيتها أو دكتاتوريتها، تجعل من تحقيق أهدافها في الهيمنة والأسلمة مستحيلة، فثمة تناقض بين الدولة الحديثة ونظام الحكم الإسلامي في ما يتعلق بمفهوم السيادة.
فحسب برتران بادي، فإن الفرق بين الغرب والإسلام يكمن في استقلال النسق السياسي عن الديني في الغرب، والذي تمثل بخضوع كل منهما لقواعد خاصة تنظمه، الأمر الذي سمح لاحقاً بطرح أسئلة الشرعية والسيادة والتمثيل على المجال السياسي، بينما غاب استقلال النسق السياسي في الإسلام، الذي خضع للنسق الديني الذي يقوم عليه الفقهاء، الأمر الذي جعل من "فكرة الشرعية غير مستقرة في الثقافة الإسلامية بسبب غياب مقولتين مناوبتين لها في الشرعية الغربية: إنهما مقولتا السيادة والتمثيل".
فالدولة الحديثة تملك السيادة، فيما تعود السيادة إلى الله في نظام الحكم الإسلامي؛ ولذلك فإن مفهوم "الدولة الاسلامية" حسب وائل حلاق "مستحيل التحقق وينطوي على تناقض داخليّ، وذلك بحسب أيّ تعريف سائد لما تمثله الدولة الحديثة". وقد حاجج حلاق دون هوادة بأنّ ثمّة اختلافات عميقة جدا في المفاهيم القانونيّة والسياسيّة والأخلاقيّة لما يدعوه بالحكم الإسلاميّ وشريعته الإسلاميّة من ناحية، والدولة الحديثة من ناحية أخرى. وحسب عبارته، فإنّهما يمثّلان تصوّرين ورؤيتين للعالم مختلفين جدا. فالأطروحة المركزيّة لحلاق تقوم على أنّ الحكم الإسلاميّ والدولة الحديثة ينتجان اثنين من الذاتيّات المختلفة جدّاً، إن لم يكن نوعين مختلفين من المخلوقات البشرية.
لا يخرج الإسلام السياسي عن كونه حركة دولتية، بدأ نشاطه كجمعيات إحيائية دينية ترتكز على العمل الاجتماعي للحفاظ على الهوية الإسلامية، ودمجت لاحقاً بين العمل الاجتماعي في إطار الجماعة، والعمل السياسي من خلال تأسيس أحزاب سياسية
ولا يخرج الإسلام السياسي عن كونه حركة دولتية، بدأ نشاطه كجمعيات إحيائية دينية ترتكز على العمل الاجتماعي للحفاظ على الهوية الإسلامية، ودمجت لاحقاً بين العمل الاجتماعي في إطار الجماعة، والعمل السياسي من خلال تأسيس أحزاب سياسية، لكن الإسلام السياسي في جميع أطواره كان يتوافر على رؤية تقوم على الاعتقاد بشمول وتكامل الإسلام وصلاحيته في كل زمان، دون إمكانية لتصور الفصل بين الديني والسياسي.
ومع ذلك؛ فالإسلام السياسي يستند في وجوده إلى الشرعية القانونية التي حصل عليها من الدولة، ويمارس كافة أنشطته الاجتماعية والسياسية في إطار السلطة السيادية القانونية للدولة القومية؛ إذ لا تتدخل الدولة مباشرة في الجسم الاجتماعي من أجل الإصلاح فحسب، كما يؤكد طلال أسد؛ "بل إن النشاط الاجتماعي برمته يتطلب الموافقة القانونية، وبالتالي موافقة الدولة- الأمة. والطريقة التي جرى فيها تحديد المساحات الاجتماعية وتنظيمها وإدارتها هي التي تجعل منها كلها سياسية. هكذا فإن محاولة الناشطين
الإسلاميين تحسين الظروف الاجتماعية، مثلاً من خلال إنشاء المستوصفات والمدارس في المناطق المحرومة، لا بد من أن تجازف بإثارة تهمة عدم الشرعية السياسية، وأن تصنف كإسلاموية".
إن احتدام الجدل بين القوميين العلمانيين والإسلاميين حول هوية الدولة والمجتمع بين الديني والعلماني، وتنامي السجال الفكري القائم بين العديد من الأطروحات والمشاريع الأيديولوجية والسياسية في الدول العربية، أدى إلى اللجوء إلى مصطلح "الدولة المدنية"، الذي احتل موقعاً مركزياً في حرب المفاهيم بين الأطراف
العلمانية والإسلامية، كحيلة لغوية، وحل وسطي، نظراً لحساسية استخدام مصطلحي "العلماني" و"الديني" الإشكاليين في العالم العربي. إذ يمثل موقع الدين في الدولة العربية ووظيفته وحدود اشتغاله، أحد أكثر المسائل الإشكالية في علاقة الأتظمة السياسية العربية بالإسلاموية.
تُعرّف العلمانية حسب تشارلز تايلور بنقلةٍ فكريةٍ يُعتبر فيها الدين والإيمان بالإله واحدةً من بين عدة وجهات نظر، فهي "مجتمع يكون فيه الإيمان خيارا من بين خيارات أخرى، حتى بالنسبة للمؤمنين الأكثر تشددا". وقد تحدت الرؤى الجديدة حول العلمانية الرؤى القديمة الراسخة لكيفية عمل مصطلحي "العلمانية" و"الدين" في الحياة العامة، وشككت في ما يفترض أنه فصل واضح بين الديني والعلماني، فلم تعد العلمانويّة الشيء الذي يمكن التخلّص منه بمقدار ما لا يمكن التخلّص من الحداثة.
فالعلمانويّة جانب لا مفرّ منه لشرطنا الرّاهن، باعتبارها مخيالاً سياسيّاً وحدّاً إبستمولوجيّاً على حدّ سواء، حسب كميل روبسيس. كما أن مقولة الدين في استعمالها الأكثر شيوعاً مرتبطة بتاريخ الحداثة الغربيّة وغير قابلة للانفصال عن خلق ما أطلق عليه طلال أسد "التوأم السيامي للدين؛ العلمانية".
وبحسب صبا محمود، فإن العلمانية السياسية ليست هي مبدأ حيادية الدولة، وإنما هي إعادة تنظيم الدولة للحياة الدينية على عكس ما يُشاع عنها. إذ تحوّل السياسات العلمانية الدينَ، وفق عملية يتداخل فيها الديني والعلماني. فقد أصبحت الدولة الحديثة منخرطة في تنظيم الحياة الدينية وإدارتها بدرجة لم يسبق لها مثيل، رغم زعمها الحياد الديني، ما يستدعي زج الدولة في المسائل الجوهرية المتعلقة بالعقائد والممارسات الدينية. وكما حاججَ أسد، فإنّه من المهمّ أن ننظر إلى الدّين فيما وراء الاعتقاد، أي أن ننظر إليه كممارسةٍ ماديّة، وأن نعيد التفكير في العلمانويّة فيما وراء مبدأ حياديّة الدّولة وفصل الكنيسة عن الدّولة، أي أن نفكّر فيها كشكلٍ من أشكال الحوكمة السياسيّة.
معظم إشكالات الإسلام السياسي في علاقته بالدولة؛ ناتجة عن التباس الصلة بين الديني والسياسي، إذ يجب التخلص من فهم العلمانويّة باعتبارها تراجع الدّولة عن الدّين، وكمقابل للدّين، أو كتنحيةٍ للدّين إلى المجال الخاصّ
خلاصة القول أن معظم إشكالات الإسلام السياسي في علاقته بالدولة؛ ناتجة عن التباس الصلة بين الديني والسياسي، إذ يجب التخلص من فهم العلمانويّة باعتبارها تراجع الدّولة عن الدّين، وكمقابل للدّين، أو كتنحيةٍ للدّين إلى المجال الخاصّ، بل باعتبار العلمانوية، كما تطرح صبا محمود، شكلاً من أشكال تدقيق الدّولة الحادّ باستمرار "الذي ينصّ على ما هو الديّن أو ما يجب أن يكونه، والذي يحدّد مضمونه المناسب، وينشر ذاتيّات مُلازمة، وأنساقاً إيتيقيّة، وممارسات يوميّة".
إذ العلمانيّ ضمن هذا البراديغم "ليس الأساس الطبيعيّ الذي ينبثق الدّين منه، وليس هو ما يبقى حينما يتم إقصاء الدّين"، ولكنّه تصوّر جديد لـ"الذّات، والزّمان، والمكان، والإيتيقا، والأخلاقيّة، مثلما هو إعادة تنظيم للحياة الاجتماعيّة والسياسيّة والدينية. فالعلماني ليس الأساس الطبيعي الذي ينشأ الدين منه، ولا هو ما يبقى عندما يُبعد الدين.
إن العلماني نفسه هو نتاج تاريخي ذو استتباعات إبستمولوجية وسياسية وأخلاقية معينة، ولا يُمكن فهم أيٍّ منها كفايةً من الوصف الرمزي للعلمانوية باعتبارها تراجع الدولة الحديثة عن الدين. وبالمجمل، تستكشف هذه المعرفة البارزة بعُدين متمايزين للعلماني، وإن كانا مترابطين، هما: العلمانوية السياسية والعلماني، حيث يتعلق البُعد الأول بعلاقة الدولة الحديثة بالدين وتنظيمها له، بينما يشير الثاني إلى مجموعة المفاهيم والقواعد والحساسيات والتدابير التي تميز المجتمعات والذاتيّات العلمانية.
twitter.com/hasanabuhanya