عباس لا يَستقيل، ولا يُقال...الرجل سيبقى على رأس فتح والسلطة والمنظمة، حتى تقرر العناية خلاف ذلك...والمؤسسات التي يقف على رأسها جميعاً، أعجز من أن تُقيله، بعد أن أعاد صياغتها وتشكيلها، بصورة جعلت منها «جوقة شرف»، لا وظيفة لها سوى المصادقة على قرارات الرئيس، وإن بأثر رجعي.
هذه الحقيقة، يعرفها مصدرو مذكرة الشخصيات من أكاديميين ومثقفين، مذكرة الاستقالة أو الإقالة... يدركونها مثل غيرهم، إن لم نقل أكثر من غيرهم، لكن ذلك لم يمنعهم من رفع صوت الاحتجاج في وجه حالة الترهل والعجز، التي ميّزت أداء الرئاسة والمؤسسات المتآكلة شرعيّاتها، ودعوة الشعب الفلسطيني وقواه الحيّة، لتدخل انقاذي.
أن يكون مقر بعض هذه الشخصيات في قطر أو غيرها، لا يعني أنهم صاروا ألعوبة في يدها، أو في أيادي غيرها، فالموقعون على المذكرة، تتقاسمهم دول الشتات، وبعضهم لطالما قارع هذه الدولة أو تلك، ذوداً عن القرار والمشروع الفلسطينيي...أما المضحك المبكي، فقول بعضهم، أن هؤلاء في «الخارج»، ومَنْ أقدامه في الخارج ليس مثل مَنْ أياديهم في نيران المواجهة المندلعة في الداخل...المفارقة أن هؤلاء أنفسهم، هم من تغنوا بثورة الخارج التي رافقت وصاحبت انتفاضة القدس وسيفها، ونَظَموا الأناشيد للتغني بوحدة الشعب وروحه الجامعة المُستعادة...ثم، هل نسي هؤلاء أن هذا الخارج، لطالما كانت يده في نيران معارك الدفاع عن الثورة في كل ساحاتها، قبل أن يُكتب علينا «أوسلو» وتقوم سلطته...هذه لعبة ممجوجة، ينسب أصحابها لأنفسهم بطولات زائفة، وأفضلية في الحوار، لإفلاس حججهم.
ثم، تتوالى حفلات الردح ويتدفق سيل الاتهامات...من دون أن يكلف أحدٌ من الرداحين والشتّامين، نفسه عناء الإجابة على أسئلة المذكرة: هل منظمة التحرير الفلسطينية بخير؟...من المسؤول عن علّتها واعتلالها الممتدين لأزيد من ربع قرن؟...من المسؤول عن تعطيل المؤسسات الفلسطينية، واستبدالها بحكم «الفرد» أو «حفنة المستشارين»؟...هل بقي للمنظمة من دور سوى «شاهد الزور» الذي يُستدعى حيناً لتعديل ميثاق وطني، وأحياناً لاستكمال نصاب اللجنة التنفيذية والمجلس المركزي، بعد أن تكون العناية الإلهية وحدها، قد أفقدتهما له؟، هذه المآلات الكارثية للمنظمة، مسؤولة عنها قياداتها فقط، ولا أحد سواها.
من الذي «كتم» على روح فتح الوطنية الوثّابة، وحولها من حركة تحرر وطني، إلى جيوش من الموظفين، المعطلين عن الفعل الانتفاضي المقاوم، ولماذا لا يُحاسَب الذين سمحوا لخصوم فتح ومنافسيها، أن يملأوا فراغها، ومن ذا الذي «ألقى القبض على الضفة الغربية»، وحال دون انخراطها على أوسع نطاق في انتفاضة القدس وسيفها؟، من المسؤول عن «تيه» الشتات لسنوات وعقود؟...من المسؤول عن المصائر الكارثية التي آل إليها المشروع الوطني الفلسطيني؟... الاستقالة في الدول والمجتمعات الحيّة واجبة لأسباب «أقل أهمية» بكثير من تلك التي أوردناها، لكن المؤسف أن ثمة جيوشاً من الذين عَمَت «القبلية الفصائلية» أبصارهم، أو حرفتهم منافعهم وحساباتهم الشخصية، عن الوجهة التي كنّا نظن أنهم سائرون صوبها.
ثم يأتيك، من يتهم الموقعين على المذكرة، بأنهم «جماعة قل كلمتك وامشي»، لكأن أياً منهم، لديه القدرة على مخاطبة «المؤسسة الفلسطينية» أو حتى الاتصال بها، أو لكأن الشتّامين أنفسهم، لديهم القدرة (الجرأة) على قول ما يجيش في زوايا ضمائرهم المُعتمة، داخل المؤسسة...ولا ينتبه الشتّامون إلى الأسباب التي حدت بهؤلاء وغيرهم، للجوء إلى أسلوب العرائض والرسائل المفتوحة عن بعد، فقنوات الاتصال بين المنظمة وشعبها ونخبه، مقطوعة منذ زمن، وبالاتجاهين، والسلطة التي ابتلعت المنظمة، شأنها شأن أي نظام عربي، لا تطرب إلا للمدّاحين و»المؤلفة جيوبهم».
لم يتناول أحدٌ من هؤلاء مضامين مذكرة الاستقالة أو الإقالة، ولم يلفت انتباههم أن أكثر من ثلثي الشعب الفلسطيني قالوا أمراً مماثلاً في استطلاعات للرأي سبقت انتفاضة القدس، والمؤكد أنها توسعت بعدها، لقد وضعوا الأصابع على الزناد، وأخذوا بإطلاق النار، رشاً ودراكا، لكن أعينهم ظلت مفتوحة على «المقاطعة»، علّ من فيها، ينظر إليهم بعين العطف والرضا، فهل هذه وظيفة «المثقف العضوي»، التي ينسبونها لأنفسهم، ويحجبونها عن كل من خالفهم الرأي؟