أثار الهجوم الذي نفذّته
قوات حزب العمال الكردستاني «PKK» على مجموعة من البيشمركه في منطقة العمادية/ آمدي، وأسفر عن ضحايا
وجرحى، العديد من التساؤلات حول طبيعة ما جرى، ويجري، بين «PKK» والحزب
الديمقراطي الكردستاني «KDP» في إقليم كردستان العراق. فهذا الهجوم لم يكن الأول، وعلى الأغلب لن
يكون الأخير، وذلك إذا ما استمر «PKK» على توجهاته الحالية، وظل محافظاً على التزاماته الإقليمية مع النظام
الإيراني.
تعود علاقة «PKK» مع إقليم
كردستان العراق إلى بدايات ثمانينات القرن الماضي، وذلك بعد أن دخل زعيمه عبدالله
أوجلان إلى سوريا في خريف عام 1979؛ وتمكّن من بناء العلاقات مع نظام حافظ الأسد،
وكان ذلك بوساطة المرحوم جلال الطالباني الذي كان قد أعلن عن تأسيس الاتحاد الوطني
الكردستاني في دمشق عام 1975، وكان في ذلك الحين على خلاف شديد مع «KDP» بقيادة مسعود
بارزاني.
ولم يكتف أوجلان في ذلك الحين بعلاقاته مع
النظام السوري؛ بل أقام العلاقات مع النظام الإيراني نفسه. وكان ذلك على الأرجح
بتوجيه وموافقة من نظام حافظ الأسد الذي كان على علاقة خاصة من نظام الخميني.
دخلت المجموعات الأولى من حزب «PKK» إلى المناطق
المحررة من إقليم كردستان العراق التي كانت تحت إشراف «KDP» بناء على اتفاق
مكتوب كان بين مسعود بارزاني وعبد الله أوجلان 1983، واستمر وجوده هناك منذ ذلك
الحين؛ بل تعزز وتوسع، على الرغم من حوادث التفجيرات التي كانت تستهدف المدنيين في
القرى والمناطق الجبلية؛ وكانت القرائن تشير إلى وقوف «PKK» وراء ذلك. بل
حدثت صدامات بين الحزب المذكور والبيشمركه في المناطق، وهذا فحواه أن هذا الحزب لم
يلتزم بنص وروحية الاتفاق المشار إليه، الأمر الذي لا يعطيه أي شرعية في البقاء
هناك.
ومع بداية الثورة السورية، وبعد تبلور ملامح
المشروع الإيراني التوسعي في المنطقة، تم الاتفاق بين النظام الأسدي والأطراف
الداعمة له على إدخال «PKK» تحت يافطة حزب الاتحاد الديمقراطي «PYD» إلى المناطق
الكردية السورية، وذلك لوضع حدٍ لتفاعل الكرد مع الثورة السورية، من خلال تصفية
وتغييب النشطاء الكرد، والتضييق عليهم لإجبارهم على السكوت أو الخروج.
والسؤال الذي ما زال ينتظر الإجابة هو: لماذا
سمح «KDP» في ذلك الحين بإدخال القوات المعنية إلى تلك المناطق وهو يعلم أنها
ستكون على حساب شعبيته ونفوذه بين كرد سوريا، ويمكن أن تستخدم مستقبلاً للتضييق
على الإقليم، كما يحدث اليوم؟ هل هي الإرادات الدولية؟ أم العاطفة القومية؟ أم عدم
ضبط قراءة الموقف وأبعاده المستقبلية كما ينبغي؟ أم أن هناك أموراً أخرى نجهلها؟
ودخلت قوات الحزب المعني، وتمكنت من السيطرة
على الساحة الكردية بدعم من النظام، ونتيجة تشتت وضعف الأحزاب الكردية السورية،
وحساباتها الحزبية الضيقة، وخضوع جملة منها لتوجيهات وتعليمات أجهزة النظام
الأمنية، وتوافقها مع «PYD» على تمزيق صفوف التنسيقات الشبابية الكردية التي كانت قد باتت جزءاً
من الثورة السورية، ومحاولة التأثير فيها، وتشتيت أنشطتها بمختلف الأساليب.
وهناك سؤال آخر في هذا السياق، ينتظر الإجابة:
ما هي الحكمة التي كانت وراء الاعتراف السياسي بهيمنة «PYD» في المناطق
الكردية، والموافقة على منحه من الحصص ما يعادل كل ما حصلت عليه الأحزاب الكردية
مجتمعة؛ وذلك بفعل بموجب اتفاقية هولير/أربيل الأولى 11 حزيران/يونيو 2012،
والثانية 11 تموز/يوليو 2021، ومن ثم اتفاقية دهوك22 تشرين الأول/أكتوبر 2014؟
فالحزب المذكور كان يحصل على السلاح والدعم
اللوجيستي من جانب النظام، لكنه لم يكن يمتلك المشروعية السياسية؛ ولا المشروعية
الشعبية، الأمر الذي كان يحد من قدرته على التحرك، ويجعله في مواجهة الكرد
السوريين، الذين عُرفوا باستمرار بوقوفهم مع أحزابهم على الرغم من كل ملاحظاتهم
عليها، وانتقاداتهم لسياساتها وممارساتها.
والأمر ذاته بالنسبة إلى معبر سيمالكا-فيش
خابور على نهر دجلة وهو المعبر الرئيس الذي يربط بين المناطق الكردية السورية
وإقليم كردستان العراق. فقد سيطر عليه من الجانب السوري «PKK» عبر واجهته
السورية، وعلى الأغلب بموافقة ضمنية من النظام نفسه وبالتنسيق معه. وأُبعدت
الأحزاب الكردية السورية عنه، وأصبح المعبر المذكور مع الوقت إلى شريان مالي غزير،
موّل الحزب المعني وشركائه. كما أنه أصبح بوابة التحكم بتحركات وتنقلات الناس، بمن
فيهم قيادات الأحزاب الكردية السورية. وكل ذلك منح «PKK» أوراق ضغط
وابتزاز، استخدمها من حين إلى آخر وقت اللزوم، ووفق حساباته وتوجهاته.
ومع اعتماد الأمريكان قوات «PKK» تحت اسم (قوات
سوريا الديمقراطية- قسد) في محاربة «داعش» تمكن هذا الحزب البراغماتي، المعروف
بقدرته على التعامل الجميع في سبيل تنفيذ أجنداته الإقليمية، وتسويق نفسه غربياً
على أساس أنه «حزب ديمقراطي» يقدم تجربة فريدة في سوريا بل وفي المنطقة، وربما في
العالم. وقد فتح له الأوروبيون والأمريكان الأبواب، هذا مع معرفتهم الكاملة
بطبيعته. بل وصل الأمر بالأمريكان إلى التنسيق الميداني مع الحزب المذكور على
الأرض من جهة؛ والإعلان عن جائزة مالية كبيرة لمن يقدم معلومات موثقة، تساهم في
القبض على ثلاثة قادة أساسيين من قادة «PKK».
ومن المعروف عن هذا الحزب أنه يسوّق هزائمه
تحت شعارات الانتصار، وهي الثقافة ذاتها التي تعلمها من النظام السوري الذي كان
وما زال يفعل الأمر نفسه بالنسبة إلى حروبه ومواجهاته مع إسرائيل.
فقد أعطى هذا الحزب الذريعة لتركيا باستفزازه
لها عبر استعراضاته الأوجلانية، لتدخل إلى عفرين، ومن ثم إلى تل أبيض وسري
كانيي/رأس العين، على الرغم من معرفته الكاملة بعدم قدرته على الدفاع عن تلك
المناطق، بل وافتقاره لأي شرعية لفعل ما كان يفعله سواء في تلك المناطق أم في
المناطق الأخرى.
وبعد حصول ما حصل، بدأ يتغنى بانتصاراته
الوهمية التضليلية؛ ويخوّن كل من لا يوافق على أفعاله التي تثير الكثير
الكثير من الشبهات والتساؤلات.
من الواضح أن الحزب المعني مارس ويمارس
السياسة عينها في إقليم كردستان، يستفز تركيا لتدخل قواتها إلى مناطق الإقليم، ومن
ثم يمارس حملة دعائية تضليلية منظمة ضد الحزب الديمقراطي الكردستاني، تستهدف
الرئيس مسعود بارزاني، ودور البارزانيين المشهود لهم في جميع أنحاء كردستان على
مدى أكثر من قرن.
ولم يعد سراً أن «PKK» يستهدف الركائز
التي توافق عليها الكرد وجمعتهم، فهو لا يعترف بالرموز الكردية من علم ونشيد
وشخصيات تاريخية. وفي يومنا الراهن نلاحظ تهجّم هذا الحزب المستمر على
البارزانيين، وهم الذين كانوا، وما زالوا، لا سيما مسعود بارزاني موضوع احترام
الكرد في كل مكان، ويعقدون عليهم الآمال في ظل الواقع الجيوسياسي المعقد الذي
يضعهم أمام تحديات كبرى من مختلف الأنحاء. لذلك نلاحظ أن «PKK» يركز دعايته
لمحاربة «KDP». ومن الواضح أن تعليمات وتوجيهات الراعي الإيراني تمارس تأثيراً
كبيراً في هذا الاتجاه. فقد تعرض «PUK» بعد رحيل أمينه العام جلال الطالباني لأزمة عميقة أسفرت عن إبعاد
قياداته المعروفة، وهيمنة الجيل الجديد.
ما يُلاحظ اليوم، أن هناك جهودا ميدانية
متواصلة تبذل من أجل تطويق هولير ودهوك معقل الحزب «KDP» . وهذا ما يحصل في
منطقة سنجار/ شنكال، وفي جبل متين، ومخمور، وبقية المناطق، الأمر الذي يدفع بتركيا
للتدخل التدريجي من جهة، ويعطي أوراق إضافية للضغط الإيراني على الإقليم كي يغير
من توجهاته وسياساته من جهة أخرى.
ولعلنا لا نذيع سراً إذا قلنا هنا أن أوضاع
الإقليم صعبة. فالصراع المفتوح مع «PKK» لن يكون مقبولاً على المستوى الشعبي، خاصة بعد أن تمكن هذا الحزب من
استمالة العديد من أبناء الإقليم الذين تعاطفوا معه نتيجة ظروف الخلافات المستمرة
بين أحزاب الإقليم، وبفعل الظروف المعيشية الصعبة التي يعيشها الناس.
ومن المرجح أن تتجه هذه الأوضاع في ظل التنافس
الإقليمي الحاد نحو الأسوأ، وهي أوضاع بصورة عامة على غاية الحساسية والدقة
والخطورة؛ تستوجب تعاملاً مسؤولاً بعقلية استراتيجية بعيدة النظر في كل ما يجري، وتستعد
لما هو متوقع أن يجري استناداً إلى المعطيات الحالية والمؤشرات المستقبلية.
التفاهم بين أحزاب الإقليم هو حجر الأساس
لإبعاده عمّا لا يحمد عقباه. الأمريكان من جهتهم يستطيعون المساعدة، وممارسة الضغط
على مختلف الأطراف عبر الأقنية المختلفة إذا أرادوا. ولكن السؤال هو: هل سيفعلون
ذلك أم أن لهم حسابات وأولويات أخرى؟ لا سيما في مناخات الانشغال بالملف النووي
الإيراني، وتنامي الخلافات مع الصين؛ والرغبة في إعادة النظر في العلاقات مع روسيا
وتركيا، وذلك بناء على ما تمخض عنه اللقاءان اللذان أجراهما الرئيس الأمريكي مع كل
من الرئيس التركي في بروكسل 14-6-2021، والرئيس الروسي في جنيف 16-6-2021.
(القدس العربي)