يتابع السوريون الذين ثاروا على استبداد وفساد السلطة
الأسدية قبل 12 عاماً، وهم يشكلون غالبية السوريين، بقهر غير مسبوق أنباء انفتاح الدول العربية على السلطة المعنية. يتابعون الاتصالات التي تجري معها، والزيارات التي يقوم بها مسؤولون عرب إلى دمشق وتلك التي قام بها بشار الأسد والمسؤولون في سلطته إلى العديد من الدول العربية.
وقد تسارعت وتيرة هذه الاتصالات، خاصة من جانب الإمارات والأردن ومصر، منذ زلزال شباط/فبراير الماضي الذي استغلته دول عربية فرصة للتواصل مع السلطة المذكورة تحت شعار المحافظة على وحدة
سوريا أرضاً وشعبا. هذا مع علم الجميع بأن هذه السلطة هي التي تسبّبت في تمزيق النسيج المجتمعي، وفي تحويل سوريا إلى مناطق نفوذ؛ وذلك حينما فتحت البلاد أمام القوات الإيرانية والميليشيات المساندة لها؛ ومن ثم أمام القوات الروسية، الأمر الذي أدى لاحقا إلى دخول أمريكي على الخط إلى جانب دخول الجيش التركي. وكل ذلك كان تحت شعار محاربة الإرهاب الذي صنعته أصلاً السلطة المعنية، وأسهمت في تسويقه وانتشاره، لتضع السوريين والعالم أمام خيارين سيئين: الاستبداد الفاسد أو الإرهاب الدموي.
وأخذت مساعي تعويم السلطة الأسدية منحى أكثر جدية بعد الاتفاق السعودي الإيراني برعاية صينية حول تطبيع العلاقات بين البلدين، وهو الاتفاق الذي جاء بناء على اجتماعات متعددة عُقدت في العراق وعمان بين المسؤولين الأمنيين من البلدين، وذلك بناء على ما ورد في بيان الاتفاق الذي تم في بكين بتاريخ 9 -3- 2023.
ورغم عدم توفر معلومات واضحة مؤكدة حول طبيعة الاتفاق وملاحقه وآلياته وجداوله الزمنية، يستطيع المرء أن يستنتج الكثير من التحركات والاتصالات
السعودية والإيرانية، وفي المقدمة منها اجتماع وزيري خارجية البلدين في بكين بتاريخ 6-4-2023؛ وزيارة وفد سعودي عماني مشترك إلى صنعاء للاجتماع بالحوثيين؛ واللقاء الذي تم في جدة بين الأمير فيصل بن فرحان وزير الخارجية السعودي وفيصل المقداد وزير خارجية السلطة الأسدية؛ وكذلك اللقاء في السعودية بين الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي، وكل من مصر والأردن والعراق، للبحث في موضوع دعوة السلطة المذكورة إلى القمة العربية التي ستعقد في الرياض بتاريخ 19 أيار/مايو المقبل.
كل هذه اللقاءات والاتصالات تؤكد وجود اتفاق بين الجانبين السعودي والإيراني حول اليمن وسوريا على وجه التحديد. أما بالنسبة إلى العراق ولبنان فهما يحتاجان إلى تفاهمات مع أكثر من جانب دولي وإقليمي، وحتى على صعيد القوى الداخلية الموجودة في كل بلد. هذا في حين أن ملف الحوثي في اليمن هو بيد إيران في المقام الأول، والأمر هو كذلك بالنسبة إلى بشار الأسد وسلطته لا سيما في ظل انشغال الروس بحربهم على أوكرانيا وتفاعلاتها.
وكان اللافت في البيان المشترك الذي صدر في أعقاب لقاء وزير الخارجية السعودي مع
فيصل المقداد، الذي تم في جدة، أنه تناول القضايا بصورة عامة من دون البحث في التفاصيل، كما غابت عنه آليات التنفيذ والجداول الزمنية. ويُشار هنا بصورة خاصة إلى قضيتي الإرهاب والمخدرات، ومن المعروف أن هذه الأخيرة قد باتت سمة متماهية مع سلطة بشار الأسد. كما تناول البيان المعني موضوع عودة المهجرين والنازحين بأمان بصورة عامة، في حين غابت عنه قضية المعتقلين والمغيبين.
وتحدث البيان أيضاً عن دعم الدولة السورية لبسط سلطتها على كامل التراب السوري وإنهاء وجود الميليشيات والتدخلات الأجنبية؛ وهو الأمر الذي أثار الكثير من الملاحظات ونكتفي باثنتين. الأولى، أن البيان أوحى بتماهي الدولة السورية مع السلطة الأسدية التي باتت في يومنا الحالي مجرد سلطة أمر واقع تسيطر على منطقة من مناطق النفوذ في سوريا. أما الملاحظة الثانية، فخلاصتها أنه من دون تحديد وتسمية واضحين، تظل مسألة الإشارة إلى الميليشيات والتدخلات الأجنبية مسألة عامة، تفسح المجال أمام التأويلات المتناقضة وعدم الالتزام. فمن المعروف عن السلطة الأسدية أنها لا تعتبر التدخل الإيراني أو الروسي والميليشيات المرتبطة بهما صيغة من صيغ التدخل الخارجي، وذلك بذريعة أن ذلك قد تم بناء على موافقتها، ولمصلحتها ومساندتها في حربها على السوريين.
كما تجاهل البيان المعني المرجعيات الدولية لأي حل ممكن في سوريا؛ ويُشار هنا بصورة خاصة إلى بيان جنيف 2012 والقرار الأممي 2254 عام 2015 وبقية القرارات. ولم يتحدث البيان عن الجهات السورية التي لا بد أن تتوافق على الحل المطلوب، ولا عن كيفية الوصول إلى هذه النقطة؛ وإنما اكتفى بذكر عبارة تسوية سياسية التي تعد حمّالة أوجه لا يترتب عليها أي التزام؛ والأمر نفسه بالنسبة إلى موضوع المصالحة الوطنية غير المقرونة بالمساءلة والمحاسبة.
وفي مقابل هذا البيان، والحملة الإعلامية التي سبقته وأعقبته، والضجيج الذي أحدثه على شبكات التواصل الاجتماعي؛ بيّن رئيس الوزراء القطري الشيخ محمد بن عبدالرحيم آل ثاني بوضوح موقف بلاده من الموضوع السوري، وفحواه أن ما يجري من حديث حول عودة السلطة الأسدية إلى الجامعة العربية مجرد تكهنات، لأن الأسباب التي دعت إلى تعليق عضوية تلك السلطة في الجامعة العربية ما زالت قائمة بالنسبة إلى قطر. وأكّد المسؤول القطري ارتباط هذه المسألة بالحل السياسي في سوريا. وهذا معناه أن موضوع إعادة بشار الأسد إلى الجامعة العربية لم يحسم بعد، خاصة بعد ورود أنباء حول تريث مصري وملاحظات كويتية ومغربية ويمنية، وربما تكون هناك ملاحظات من جانب دول أخرى.
ولكن بغض النظر عن كل ما تقدم، يبقى للموقف السعودي أهميته ودوره المؤثر، ولعل هذا ما يفسر الكثير من ردود الأفعال التي جاءت بعد صدور البيان المشار إليه. لهذا من الضروري تأكيد أهمية المحافظة على مساندة السعودية للشعب السوري في محنته القاسية التي تعرض لها بسبب سياسات وسلوكيات سلطة بشار الأسد المدعومة من النظام الإيراني. كما أن السعودية من جانبها في حاجة إلى الحفاظ على تقدير شعوب المنطقة لمكانتها الكبيرة ودورها الوازن على المستويين الإقليمي والدولي.
أما عن اتفاقها مع النظام الإيراني، فهو ما زال في دائرة الوعود والتمنيات، ومن المبكر إعطاء رأي متماسك حول مستقبله ودرجة نجاحه أو صموده، وطبيعة انعكاساته على أوضاع شعوب الإقليم ودوله. فالنظام الإيراني بناء على القرائن والمعطيات مستمر في تعزيز قدراته العسكرية، وماض في سياسة خلط الأوراق. وله دور مؤثر في عملية منع حدوت تفاهم وتوافق بين الفلسطينيين بصورة عامة لمواجهة التحديات التي فرضتها الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة التي شكلها بنيامين نتنياهو. كما أن النظام المعني متغلغل عبر أجهزته الاستخباراتية وقواته العسكرية وأذرعه من الميليشيات، سواء المحلية أم الوافدة، في شؤون كل من العراق وسوريا واليمن.
وتبقى مسؤولية السوريين المناهضين لسلطة الاستبداد والفساد والإفساد، وهي مسؤولية كبيرة وضرورية ومطلوبة أكثر من أي وقت مضى، تتمثل هذه المسؤولية في ضرورة إجراء المراجعات والقطع مع عقلية التحول إلى أدوات في مشروع أو مشاريع هذه الدول أو تلك، وضرورة التزام الأولويات السورية، والتحرك من موقع صاحب القضية لا التابع نحو الدول العربية وتلك المؤثرة على المستويين الإقليمي والعالمي، بغية كسب تأييدها من خلال طمأنتها بأن ما يريده السوريون هو العيش الحر الكريم الآمن المستقر بعيداً عن الإرهاب والاستبداد والفساد.
وانهم يتطلعون نحو أن تكون بلادهم ساحة تواصل وتمازج حضاريين لصالح شعوب المنطقة ودولها، لا ساحة صراع وتهديد ومشاريع توسعية أنهكت الاجتماع ودمّرت العمران.
(عن جريدة القدس العربي)