بلدة
جنديرس في ريف مدينة عفرين كانت إحدى أكثر المناطق تضرراً من الزلزالين المدمرين اللذين ضربا مناطق واسعة في جنوب شرق تركيا وشمال
سوريا، فقتل عدد كبير من سكانها وتدمرت معظم مبانيها. ولم تكد البلدة تضمد جراحها حتى جاءت الجريمة البشعة بقتل 4 أفراد من أسرة واحدة من سكانها عشية يوم النوروز التي اعتاد الكرد الاحتفال به كل عام منذ قديم الزمان.
كانت الأسرة توقد النار إيذاناً بقدوم «اليوم الجديد» وإذ بعدد من الشبان المسلحين يقومون بإطلاق النار عليهم في مقتل فيقتلون أربعة أشخاص دفعة واحدة فيما وصفه الأهالي محقين بالمجزرة.
الفصيل العسكري المسمى «جيش الشرقية» ومظلته السياسية المسماة «حركة التحرير والبناء» يسارعان للتنصل من المسؤولية عن الجريمة بدعوى أن القتلة «ليسوا مسجلين ضمن قوائم الفصيل»! وإنما يستظلون بمظلته. التفسير الذي يقدمه الناطق باسم جيش الشرقية معبر حقاً، فهو يقول إن هناك مدنيين يحملون السلاح ويستظلون بالفصيل للاستفادة من بعض التسهيلات، ومن جبي المال على المعابر وغير ذلك.
هذا يعني أن جيشاً من المجرمين يرتكب ما يشاء من جرائم من غير أن يحاسبه أحد، وقبل أي جهة أخرى الفصيل نفسه الذي يسمح بهذا التسلح بين مدنيين لهم مصالح وأهواء. ثم تأتي مسؤولية قيادتهم السياسية في «حركة التحرير والبناء» التي لم تردع جرائم سابقة ارتكبها عناصر الفصيل أو مستظلون بمظلتها ومسلحون بسلاحها. ثم تأتي مسؤولية ما يسمى «الجيش الوطني» الذي شكلته تركيا وتدفع رواتب مسلحيه، وتالياً مسؤولية تركيا نفسها التي غزت ثلاث مناطق سورية بدعوى محاربة القوات الكردية، وسلمتها لفصائل مسلحة كانت، قبل سنوات، تقاتل النظام في إطار الثورة السورية، ثم تحولت إلى مجموعات من المرتزقة تفرض إجرامها على مناطق لا تملك فيها أي حاضنة شعبية. منطقتي عفرين و«نبع السلام!» من بين المناطق التي تسيطر عليها تركيا هي مناطق ذات غالبية سكانية كردية، كانت قبل الغزو التركي محكومة من «قوات سوريا الديمقراطية» ثم جاءها غزاة الفصائل الذين عرف عنهم السلب والنهب والخطف بغاية طلب الفدية وقتل المدنيين وغيرها من الأحداث الإجرامية التي كنا نسمع عنها بصورة متواترة.
الأصل في جريمة جنديرس إذن هو الغزو العسكري التركي وغزو فصائل السلب والنهب للمنطقة واستعبادها لمن تبقى من سكانها بعد تهجير الآلاف فيما استحق وصفه بالتهجير الديموغرافي.
غير أن فظاعة الجريمة لا تقتصر على قتل مدنيين عمداً على يد مسلحين، بل تتجاوزها إلى دوافع الكراهية العنصرية الكامنة وراءها. فالضحايا قتلوا لأنهم كرد، لا لأي سبب آخر. تذرع القتلة بإشعال الضحايا للنار في ليلة نوروز هو عذر أقبح من الذنب، فنار نوروز هو رمز هوية للكرد، يزيد من مسؤولية القتلة والجهات التي يستظلون بها، لأنها تؤكد على استهدافهم العنصري، فقد كان يمكن للضحايا أن يكونوا من أسرة أخرى أو مجموعة أخرى من المدنيين الكرد بلا أي تشخيص.
هذا فظيع، ولا تكفي معاقبة القتلة كأفراد عقاباً على ما فعلوه. لقد عبرت جموع المشيعين في اليوم التالي عن غضبها، كما عن مطلبها الواضح المحق في وجوب انسحاب جميع الفصائل المسلحة من مناطقهم. هذا أقل ما يمكن من أجل ضمان عدم تكرار جرائمهم.
كما طالبوا بدخول «بيشمركة روج» إلى مناطقهم، وهو فصيل من الكرد السوريين ممن انشقوا عن جيش النظام ومن الشبان الذين ثاروا في مناطقهم ضد نظام الأسد، دربتهم قوات بيشمركة بارزاني في إقليم كردستان، ومنعت «قوات سوريا الديمقراطية» دخولهم إلى الأراضي السورية. هذا المطلب يشير إلى أن سكان المنطقة يثقون بأبناء جلدتهم وبقدرة هؤلاء على حمايتهم، بدلاً من المسلحين الذين فرضوا عليهم على مرحلتين: الأولى فترة سيطرة الوحدات الكردية التي حكمت تلك المناطق بقوة السلاح والتسلط، والثانية هي فترة ما بعد الغزو التركي الذي جلب معه فصائل المرتزقة إلى المنطقة فعاثت فساداً وإجراماً طوال السنوات السابقة، ليس في المناطق الكردية وحدها بل كذلك في منطقة «درع الفرات» شمال
حلب حيث غالبية سكانية عربية.
واللافت أن القوات التركية الموجودة في المناطق الثلاث لم تفعل شيئاً لضبط هذه الفوضى الأمنية، مع أن كل جريمة يرتكبها هؤلاء المسلحون تحسب على تركيا بوصفها القوة المسيطرة هناك. فقط حين اندلعت الحرب، قبل سنتين، بين بعض تلك الفصائل و«هيئة تحرير الشام» التي يقودها أبو محمد الجولاني تدخلت تركيا وفرضت على الفصائل أن تتوحد في إطار أسمته «الجيش الوطني»! بعد ذلك عادت الأمور إلى ما كانت عليه واستمرت الفوضى الأمنية والجرائم بحق السكان.
كان لافتاً أن «هيئة تحرير الشام» حضرت مباشرةً بعد مجزرة جنديرس، ووعد الجولاني أهالي الضحايا بالاقتصاص من القتلة، كما سيطرت قواته على بلدة جنديرس بدون قتال بعدما فر منها مسلحو «جيش الشرقية» في توكيد جديد على ما دأب الجولاني على إظهاره من «سلوك مسؤول»! فمعروف أن الرجل يعتبر نفسه «دولة» تتدخل قواته لحماية السكان من فوضى السلاح والإجرام!
مطالب المشيعين لضحايا الجريمة لن تتحقق على الأرجح، ما لم تتخذ القيادة التركية قراراً بسحب مسلحي الفصائل من جميع مناطق سيطرتها، ليس فقط مسلحي «جيش الشرقية» المسؤول المباشر عن الجريمة الجديدة، بل كل مكونات «الجيش الوطني» التي لا تقل إجراماً. ويحمّل قرار من هذا النوع القوات التركية مسؤولية مباشرة عن أمن السكان.
الرحمة لأرواح شهداء جنديرس والعزاء لأهلهم.
(
القدس العربي)